القرآن الكريم وعلم النفس* عبدالمنعم الجداوي
(.. وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) ]الكهف/ 54[.
لا السماء بما فيها من عوالم، ولا الفضاء بكواكبه، ونجومه، ومجراته،
وشموسه.. ولا الأرض بكنوزها، ومعادنها، وبحارها.. أكثر جدلاً من الانسان...
ولا أعقد مما يطويه في صدره، وما يسبح بين فؤاده داخل حناياه، وما يدور في
تلك العظمة المجوفة التي تسمى الجمجمة..
وهكذا يؤكد القرآن الكريم ان الانسان أعقد ما دب على الأرض من المخلوقات
وأعظمها أيضاً.. وحينما منح ذلك الحيوان المتكلم القدرة على فهم أسرار هذا
الكون.. شغله الوصول إلى أسرار ما حوله عن الوصول إلى أسرار نفسه.. تلك
النفس التي وضعها القرآن الكريم في كفة واحدة مع الكون كله بما فيه من
عوالم.. واستحقت من المسلمين الذي قرأوا القرآن وقفة طويلة، إذ تقول الآية
الكريمة (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسكم) ]فصلت/ 53[.
الشعور بالذنب!
وقد فرق القرآن الكريم بين الروح والجسد والنفس، وجاءت آياته تتحدث في
بساطة بأدق نظريات علم النفس الحديث.. وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن
غزوة تبوك التي قادها رسول الله (ص). يصف القرآن معاناة الشعور بالذنب،
ويتحدث عن عذاب الضمير للثلاثة الذين تخلفوا في دقة مذهلة ومعجزة.. فلما
مضت الغزوة حسوا بالإثم، وقاطعهم أهل المدينة إلى أن نزل فيهم حكم الله،
والقرآن الكريم يقول في هذه الأزمة النفسية التي عصفت بالرجال: (وعلى
الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا اليه ثم تاب عليهم ليتوبوا..) ]التوبة/ 118[.
غريزة حب البقاء!
وفي سورة "الكهف" تصور الآية مشهد أهل الكهف، وقد تعاقبت عليهم السنون،
فتحولوا إلى صورة تفزع القلب، وتروع النفس فتقول (لو اطلعت عليهم لوليت
منهم رعبا) ]الكهف/ 18[، وتجيء أحدث نظريات علم النفس بعد أربعة عشر قرناً
لتقول: ان الإنسان حينما يفزع من خطر.. فان غريزة حب البقاء تدفعه إلى
الفرار بعيداً عن مصدر الخطر.. مجرد إحساسه بالخطر يحشد فيه قوة غير عادية
لا يمكن أن يحصل عليها في حالات الاطمئنان، وتجعله يأخذ نفسه بعيداً
بعيداً.. كالذي يقفز من الطابق الثاني إذا ما شعر بأن بيته محاصر
بالنيران.. وقد ينطلق بعد القفز فاراً مبتعداً عن مكمن الخطر.. ثم يتبين
بعد ذلك انه قد أصيب أو لحق به أي أذى.. والآية تحدد بدقة حالة غريزة حب
البقاء حينما تقول: لوليت منهم فراراً مما يقع عليه بصرك من بشاعة ما فعلته
الأيام بالجثث.. إذ لن تستطيع أن تحدد إن كانوا موتى أو أحياء.. فإذا فررت
بعيداً.. امتلأت بالرعب بعد ذلك.
الغضب:
وموسى (ع) كان ذا شخصية انفعالية سريع الغضب.. وإذا رجعنا إلى طفولته
وسلطنا عليها أضواء علم النفس الكاشفة.. فسوف نجد انها مشحونة بالتوترات
ملأى بالقلق بعيدة عن كل ما يوفر الشعور بالأمان لطفل رضيع.. وقد توصل أحد
أطباء الأمراض النفسية للأطفال إلى أن الأم والرضيع يكونان وحدة واحدة من
الوجهة النفسية، وان أية انفعالات للأم كثيراً ما تنعكس على الرضيع، والأم
التي تعاني من القلق أو من الحزن ينصحها طبيب الأطفال بعدم إرضاع طفلها
فترة حزنها أو قلقها.. وأم موسى هي التي قلقت أعظم قلق حينما وضعته في
الصندوق، وحينما أرسلت أخته تتبع آثاره على الشاطئ.. ثم حينما عاد اليها
لترضعه، كل ذلك جعل موسى (ع) عصبياً.. يثور عند الغضب إلى حد يلقي فيه
بالألواح.. ويصور القرآن الكريم "الغضب" على انه من الحالات النفسية التي
يسقط الإنسان فيها تحت وطأة قوة أقوى منه.. يتملك الغضب فيها ضحيته ويوسوس
اليه بما يريد. بل يدفعه دفعاً دون أن يملك الغاضب الخروج من حالة الغضب.
الكبت والانحراف!
وفي سورة (يوسف) أبدع الصور النفسية لكل الحيل اللاشعورية التي يلجأ اليها
الإنسان في معاملاته النفسية، والتي يسميها علم النفس آليات عقلية يغالب
بها المرء إحباطه، وقلقه، وتوتره الذي يتولد من فشله في محاولاته تحقيق
رغباته كلها أو بعضها..
فأخوة يوسف مثلاً ظلوا ضحايا الكبت الذي يحاولونه لكي يدفنوا رغبتهم في
التخلص من يوسف حتى يخلو لهم حب أبيهم، ولكنهم كانوا يفشلون في إخفائها
وكبتها فكانت تبدو فيما يصدر منهم من أعمال أو كلمات ضد يوسف (ع)..
التبرير والإسقاط!
وقد وقعوا في حالة (التبرير) التي يقول عنها علم النفس وهي الحيلة التي تقي
الإنسان من الإعتراف بالأسباب الحقيقية لسلوكه غير المقبول، ويعمد المذنب
إلى تفسير سلوكه ليبين لنفسه وللناس ان لسلوكه هذا أسباباً معقولة.. فهم
يقولون (يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب، وما
أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) ]يوسف/ 17[.
وإذا كان (الإسقاط) هو حيلة يسقط بها المرء نقائصه وعيوبه على الناس
والآخرين.. ويهمه بالدرجة الأولى.. أن يلصقها بمن يظن انه ينافسه مباشرة..
كالزوج الذي يخون زوجته.. ثم يتهمها بالخيانة.. إذا كان هذا هو مفهوم
الإسقاط في علم النفس.. فإنّ القرآن الكريم روى ذلك عن أخوة يوسف. حينما دس
يوسف صاع الملك في متاع أخيه وألقى القبض عليه بتهمة السرقة ليستبقيه دون
أن يكشف لهم عن شخصيته، إذ تقول الآية الكريمة على لسانهم: (ان يسرق فقد
سرق أخ له من قبل) ]يوسف/ 78[.
العمى النفسي!
وحينما عاد الاخوة ليفجعوا والدهم في إبنه الثاني شقيق يوسف، وأحب أولاده
اليه بعد يوسف، وقد جددت هذه الصدمة الجديدة أحزانه القديمة على يوسف، إذ
تقول الآية: (وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف، وابيضت عيناه من الحزن فهو
كظيم) ]يوسف/ 84[، مع انهم نقلوا إليه خبر ابنه الثاني وليس يوسف، وذلك ما
يطابق أحدث نظريات علم النفس.. وتبيض عيناه من الحزن.. فلم يعد يبصر فقد
انتابته رغبة في العمى.. رغبة قوية سيطرت على إرادته.. فهو لا يريد أن يرى
الدنيا وقد خلت من ولديه الحبيبين.. وذلك هو العمى النفسي، ويدرك يوسف (ع)،
وهو الذي أوتي علماً وحكمة بنص القرآن ان هذا العمى نتيجة لصدمة نفسية،
وانه يمكن أن يشفى بصدمة مضادة، وتقول الآية على لسانه: (اذهبوا بقميصي هذا
فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) ]يوسف/ 93[.
ثم الرمزية التي جاءت في تفسير يوسف للأحلام الثلاثة.. حلم السجين الذي رأى
نفسه يعصر خمراً، والآخر الذي رأى انه يحمل طعاماً فوق رأسه ويأكل منه
الطير.. ثم حلم الملك الشديد الرمزية.. ان كل ذلك يجعل القرآن الكريم يتفوق
في تفسيراته للنوازع والرغبات والسلوك الإنساني.. تفوقاً يجل عن المقارنة،
ويتنزه عن المنافسة لمجهودات كائناً من كان من البشر في هذا المضمار!