الإيمان بالله في القرآن الكريمالقرآن
الكريم هم الأصل الأصيل للإسلام، وهو المؤتمن على قضية الإيمان بالله بحكم
ثبوته القاطع، ومنزلته الرفيعة، وبحكم أنّه بقدر ما يستبعد الجزئيات بقدر
ما يعني بالكليات، وليس هناك ما هو أكثر كلية وأهمية من موضوع الإيمان
بالله تعالى.. فلابدّ – والحالة هذه – أن يقدّم لنا صورة كاملة عنه...
قد يقال إنّ السنة شريكة له، لأنّها تفسّر غامضه وتوضّح مجمله إلخ...
ولكننا نرى أنّه بقدر ما نقتصر – في هذا المجال بالذات – على القرآن بقدر
ما يكون ذلك أفضل وأكثر تركيزاً لأنّ السنة من ناحيتي الثبوت والدلالة أقل
من القرآن، فضلاً عما بداخلها من رواية بالمعنى، أو أحاديث منسوخة أو لغرض
خاص.
والزج بالسنّة في هذا المقام الرفيع يثير قضايا جدلية لنا مندوحة عن الخوض فيها.
ومن ناحية ثانية، فإنّ القرآن لم يُعنَ بقضية كما عنى بقضية الإيمان بالله تعالى، فهي تتمشى في كل آياته.
وأي واحد يقرأ القرآن حق قراءته لابدّ وأن يتشرب الإيمان بالله، ويخرج من
قراءته تلك وقد تبلورك في نفسه وفكره صورة معيّنة عن الله تعالى تتكامل
مقوماتها وتتلاقى خطوطها وتتحدد قسماتها شيئاً فشيئاً، ومع كل آية، لأنّ
القرآن الكريم لا يقدم الإيمان بالله في سورة واحدة أو يتحدث عنه في موضوع
معيّن، أو يعالجه من زاوية واحدة... وهو – في نفس الوقت – لا يتبع في عرضه
أسلوباً كالأساليب التقليدية.
فالإيمان بالله تعالى يسري في الآيات كما يسري الدم في العروق، وكما يسري
النسيم في الجو، ويتشرّبه القارئ الواعي فيحدث في نفسه ما يحدثه النسيم
العليل في جسمه... إنّه يوجد حياة الفكر والنفس، كما يوجد الهواء حياة
الجسم والحواس.
ولا نملك أن نتحدث عن القرآن بمثل أسلوب القرآن، وسنضطر للهبوط بالقارئ عن
مستواه، وهو أمر لا مفر منه، إلا في مواضع الإستشهاد بآيات منه، وبقدر ما
يزيد الإستشهاد ويقل الإنشاء بقدر ما ننجح في تحليل المحتوى القرآني،
وغالباً ما يكون ما يقدّمه هذا التحليل على حساب الصورة الكلية، ويكون أشبه
بمن يستخدم الماء لفك السكر المعقود لنظم القرآن، أو بمن يحلل السبيكة
المحكمة إلى أجزاء تذهب بالطبيعة المنصهرة لها.
وهذه المحظورات كلها هي مما وقع فيه – بنسب متفاوتة – المفسرون.
إنّ أي كلمة تذكر بعد كلمات القرآن تكون – حسب تشبيه للعقاد – كقضمة بطيخ بعد لعقة من عسل!
لهذا فسنحاول – بقدر ما وسعنا – أن نتحدث بلغة القرآن نفسه، وأن نستخدم
تعبيراته وطريقته في غرس الإيمان بصورة تجعل منه قوة ملهمة أعظم من أي قوة
أخرى.
إنّ الظاهرة الملحوظة في كل الآيات التي تعرض الله تعالى هي أنها تُجَّلى
أنّه تعالى: الخلاق الحكيم، وهذه الأولوية طبيعية من ناحيتي القدرة
والحكمة، فالله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، والبحار والأنهار،
والشموس والأقمار، والدودة التي تدب، والنسر الذي يحلقِّ وما هو أهم:
الإنسان نفسه! من ذكر وأنثى..
لقد خلق الله تعالى كل شيء فأحسنه وأتقنه وقدَّره، وجعل الشمس تمتص المياه
نقية من البحار المالحة فتحملها السحب والرياح لتلقيها أمطاراً على أرض
ميتة فتحييها وتنبت النخيل والأعناب... وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس
والقمر (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا
اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40)،
وكل شيء يسبح ويجري لمستقر له... وهو الذي يمسك كل هذا الكون أن يميد،
ويتهاوى...
يوجّه القرآن مراراً وتكراراً النظر – بأسلوبه المشرق – إلى معجزة الخلق،
وما فيها من قدرة وما تتسم به من جمال، بل إنّه يجعل هذه المخلوقات – التي
يظن أنها جماد، شاهدة على قدرته، مسبّحة لعظمته، متحدثة بنعمته.
إنّ الإشارات التي لا تحصى عن الطبيعة والكون، والشمس والقمر، الحيوان
والنبات، السماء والأرض، السهول والجبال، والبحار والأنهار... تجعل قارئ
القرآن يندمج في هذا الكون ويحس بالألفة والإنتماء، ولو أنّ القديس فرنسيس
الذي جاء إلى دمياط يبشر بالمسيحية بين المصريين أحكم العربية وقرأ القرآن،
لآمن هو نفسه بالإسلام، لأنّه كان سيرى فيه الحديث إلى الطير، ومناداة
الشمس والقمر والنار (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى
إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء/ 69)، بأرق وأعذب مما أوحت مسيحيته إليه!!
وقيل لي – بالفعل – عندما كنت في جنيف في صيف 1993 أن آنسة سويسرية كان
حافزها الأوّل على الإسلام الإشارات العديدة التي وجدتها في القرآن عن
الطبيعة.
فإذا طلب الجاحدون دليلاً، أو بثوا شكوكاً حول خلق الله تعالى للإنسان
والكون، فالقرآن يقدم هذا الدليل ويفند هذه الشكوك بصورة معجزة، وفي ثمان
كلمات (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الخالِقُونَ) (الطور/
35).
فهذه جملة واحدة تجعل كل جاحد يبلس، وكل مكابر ينكص.. فهل خلقوا من غير
شيء... هل هذا طبيعي أو معقول؟ أم أنّهم خلقوا أنفسهم بأنفسهم؟... وخلقوا
هذه النجوم الباهرات، والشموس البازغات!
لا هذا ولا ذاك... فلابدّ من خالق...
وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق الإنسان سوقاً جميلاً نحو الإيمان بالله
تعالى فهو يوجّه أنظاره نحو الكون الذي يعيش فيه من جبال وأنهار وما فيه من
عظمه وروعة والجسم الذي يعيش به وما يضمّه من أبصار وآذان وأيدي وأقدام،
وجمال وتنسيق... ثمّ يلفت إنتباهه نحو الدقة المعجزة في سر وجود هذا الكون،
في إطار لا يملك تخلفاً عنه، ولا يستطيع إفلاتاً منه لأنّه محكوم بإرادة
الله، وسننه التي وضعها والتي ليس لها تبديل أو تحول، ولأنّ السماوات
والأرض مطوّيات بيمينه.
أفلا تثير قدرة الخلق الباهرة والتكوين المحكم الخشوع والإخبات والتسليم
والإيمان، وما أتفه ما يصل إليه إحساس فنان وهو ينظر إلى أحد تماثيل أو
تصاوير عباقرة النحت والتصوير، ميكل أنجلو، أو رافائيل، إذا قيس بآيات الله
الحية المحكمة في ملايين الرجال والنساء... لكل واحد منهم شخصيته... أو
الورود النضرة أو الجبال الشاهقة، أو الثمار اليانعة... أو... أو...
لقد ندّد القرآن بالذين تغلب عليهم البلادة والغفلة فيمرون بكل هذه الآيات
وهم معرضون، فلا تحرك ساكناً، ولا تثير عاطفة ولا تجعلهم يصيحون: سبحانك!
ما خلقت هذا باطلاً...
والحقيقة الثانية – بعد الخلق – التي يوردها القرآن وهو يتحدث عن الله
تعالى هي أنّه تعالى أصل الكمال من قوة وعلم وحكمة، فهو يعلم كل شيء، فما
تكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد..
وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، ويعلم غائبة الأنفس وما تخفي الصدور..
وما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما تحمل كل أنثى!.
وهو الذي لا يعجزه شيء في السماوات والأرض، وإنما أمره للشيء كن فيكون، وهو
الرحمن الرحيم الذي لا تماثل رحمة الأُم بابنها إلا نسبة جزء من مائة جزء
من رحمة الله.
وما الرسل، وما الدعوات إلا للرحمة جاؤوا.. وعلى الرحمة قامت.. وما الرياح
والأمطار إلا ظواهر رحمته ومبشرات نعمته، وهو ينادي الناس جميعاً ألا
يقنطوا من رحمة الله، حتى الذين يرتكبون كبائر الإثم والفواحش إذا هم تابوا
وأنابوا... وهو الكريم الذي يعطي ويهب بالأضعاف المضاعفة لأن خزائنه لا
تنفد.
وهو العادل الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، وهو يعد الظلم قريناً للشرك، أي أعظم موبقة.
إنّ العلم والعدل والرحمة وكل مصادر القيم "الأسماء الحسنى" والمثل العليا
أسماء لله تعالى... ويوجهنا القرآن إلى أنّه تعالى القاهر فوق عباده الذي
يفعل ما يشاء دون معقب عليه أو محاسب له، والذي بيده ملكوت السماوات
والأرض، والذي يقول للشيء كن فيكون.. مع هذه القوة المطلقة فإنّه تعالى كتب
على نفسه الرحمة.. وحرّم على نفسه الظلم.. فأي حثّ للمؤمنين على الإلتزام
بهذه الخلائق مثل هذا التوجيه الذي يقدمه القرآن مقترناً بالله تعالى.
وأي إعلاء لمبادئ وقيم العدل والرحمة والحب والكرم... إلخ، مثل هذا الإعلاء.
لقد تصوّر بعض الأوروبيين الذين لا يعلمون عن الإسلام إلا قشوراً أنّ
الفكرة الرئيسية في الإسلام عن الله تعالى باعتباره القوة المطلقة التي لا
تقف أمامها قوة أخرى كان من آثارها إستخذاء الإنسان وشعوره بضآلته.
ولكن فات هؤلاء أمور:
الأوّل: أنّ الله تعالى قد كتب على نفسه الرحمة والعدل، وقرن اسمه بالحق
والعدل والنور، فكان في هذا أعظم مثل يمكن أن يُضرب للناس في الإلتزام
بالمثل العليا والنزول على ما تنزلهم عليه المبادئ والقيم. وكل تعظيم لله
تعالى ينسحب على تعظيم هذه القيم.
والأمر الثاني: أنّ الله تعالى، وهو الذي يفعل ما يشاء، وضع سنناً للكون
والمجتمع، وقدّر أنّ السنن لا تتغير ولا تتبدل (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ
الله تَبدِيلاً) (الأحزاب/ 62)، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ تحويلاً) (الفاطر/
43).
ففيها القوة والضعف، وفيها الحياة والموت وفيها الهدى والضلال، ولم يكن
الله تعالى بحاجة إلى وضع هذه السنة إلا ليعلمنا أنّه وقد استخلف الإنسان
على الأرض وضع له نظماً يكون عليه أن يتبعها ويلتزم بها، وتكفّل تعالى
بانتظامها بل إنّ كرماً منه سبحانه، ورحمة بنا كتبها على نفسه إلى درجة
التي يقول فيها (.. لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11)، (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا
جَاءَ أَجَلُهَا...) (المنافقون/ 11)... فأعطى المسلمين درساً في إحترام
القواعد والسنن والأصول وملاحظة الموضوعية وربط الأسباب بالمسببات.
الأمر الثالث: إنّ الإسلام قد كرّم بني آدم بطريقته الخاصة، فجعله خليفة
لله على الأرض ووهبه المعرفة ومفاتيح العلوم من لغة وفكر، وأسجد له
الملائكة، وسخر له هذا الكون الكبير العظيم بأسره.
وهذه الحقائق نصّت عليها آيات صريحة متكررة في القرآن الكريم بحيث لا يكون
هناك أدنى شك في أنّ الإسلام قد كرّم الإنسان إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه
ما وقد يجاوز ما وصل إليه أي دين آخر.. فكيف يقال بعد هذا إنّ فكرة الله
في الإسلام قد أدّت إلى إستخذاء الإنسان؟
إنّ الذين يقولون هذا من المستشرقين إنّما هم الذين يحكمون على الإسلام بواقع المسلمين وليس بحقيقة الإسلام.
الحقيقة التي يلمسها كل قارئ للقرآن أنّ الإيمان بالله يرد في القرآن عبر
الإيمان بدين له اسمه، وأنبياء ورسل معينين، والحديث عن هذا الدين وعن
هؤلاء الأنبياء في دعوتهم للإيمان بالله هو في جوهره دعوة تغيير وتجديد
للشعوب والجماهير وبتعبير القرآن (يُخْرِجُهُم مَِّ الظُّلُمَاتِ إلى
النُّورِ) (البقرة/257)، من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الكفر
وأصفاده وأغلاله إلى سعة الإيمان والعدل والحرِّية، وليس هناك ما هو أصرح
وأقوى من تنديد القرآن بالأوضاع القائمة وما فيها من ظلم الملوك وإفسادهم
وعبث المترفين وإستعباد الفقراء والضعفاء والشيوخ والنساء، وأكل أموال
الناس بالباطل، واتباع الآباء والأجداد والإستخذاء أمام الكهنة. وحثّ هذه
الجماهير على العمل، فإذا لم يستطيعوا الثورة فالهجرة إلى حيث لا ظلم. ففي
النظم القرآني نجد الجمع الوثيق الذي لا ينفصم بين الله تعالى والرسول
والإيمان وتغيير الأوضاع الفاسدة، فهذه كلها لا تنفصل بعضها عن بعض. مما
جعل الأديان هي حركات التحرر الجماهيرية. وهذا أمر يثبته التاريخ، فمن
للجماهير المستعبدة بالعمل الشاق والمرهقة بالمطالب اليومية؟.
هل هم الملوك وهم الذين يبنون جبروتهم على هذا الإستغلال؟ هل هم الكهنة والسدنة الذين تحالفوا مع الملوك؟ هل هم الفلاسفة؟.
وكيف تصل دعوة الفلاسفة للأقنان والعبيد الأميين؟
من كانوا قادة الشعوب وماذا كانت دعوات التحرير..؟
إنّ التاريخ لا يذكر لنا سوى الأنبياء وسوى الأديان... اعتبر في ذلك
باليهود المستعبدين في الإسار الفرعوني. والمسيحيين الخاضعين للسيف
الروماني والمستضعفين من الرجال والنساء في مكة لا يستطيعون حيلة ولا
يهتدون سبيلاً.
من الذي حرّر هؤلاء المستعبدين وجعلهم أئمة في الأرض وأورثهم ملك سادتهم الأولين؟ أليست هي الأديان، وأليس هم الأنبياء...
إنّ الصحابة الذين سمعوا القرآن أوّل ما أنزل، تفهموا آياته ومعايشته أشربت
قلوبهم بحب الحرِّية والثورة على الظلم، ووجدوا مكانهم مع المستضعفين
وحدّدوا هدفهم في القضاء على الإصر والأغلال، وعبودية الرجال، وقد تحقق هذا
كما تحقق الإيمان بباقي مكونات عقيدة الألوهية، بطريقة تمتزج فيها العاطفة
بالعلم والقلب وبالعقل.. وفي ضوء هداية وتوجه الرسول، فتحرروا من التخبط
والسرف والإنفعال والغوغائية التي تقع فيها دعوات تحرير عديدة.
والإيمان بالله يرتبط في القرآن كذلك – بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب،
جنة ونار وهذا المعنى بارز جدّاً في القرآن الكريم، وربّما يكون الإسلام هو
أكثر الأديان إبرازاً لقضية الدار الآخرة، وقلما يماثله في ذلك دين آخر
بإستثناء الديانة المصرية القديمة.
وهذه العناية المكثفة بالدار الآخرة هي جزء لا يتجزأ من بناء الإسلام
وقيامه على "الحق" و"العدل" وهما يتطلبان مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء.
والمعروف أنّ الحياة الدنيا لا تكفل تحقيق هذا، وأن أكابر المجرمين من ملوك
ورؤساء وقادة ومليونيرات.. إلخ، يستطيعون دائماً تضليل الناس بحيث
يستمتعون بثمرات ظلمهم طوال حياتهم، بل وقد يواصل أبناؤهم هذا الإستمتاع!.
لهذا لابدّ من وجود محكمة في الحياة الأخرى تحقق العدالة تماماً، ولا يمكن
أن يفلت منها أحد أو يخدعها أحد حتى يثأر "للشاة الجمَّاء من الشاة
القرناء" على ما صور أحد الأحاديث.
فهذا وحده ما يحقق فكرة العدالة وإنتصارها...
وهذا الجزء الحيوي من مكونات الإيمان بالله تعالى، كما يقدّمه القرآن، يغرس
الشعور بالمسؤولية والعدالة ويعمّقه حتى يصبح حاسّة لدى المسلمين تميز
شخصيته عن غيرها.
فهذا الإحساس برقابة الله تعالى في السر والعلن وتسجيل الحسنات والسيِّئات
والندم على المعصية بالإنابة إلى الله وإصلاح الأخطاء.. وأنّه في جميع
حالاته بين إصبعين من أصابع الرحمن.. نقول هذا الإحساس هو الأصل في الضمير،
والإختلاف بين هذا الضمير الإسلامي والضمير الأوروبي أنّ الأوّل يرتبط
بالله تعالى ويستمد معاييره وقيمه لما يضعه الله، بينما الثاني نشأ عن فكرة
"الواجب" وما يضعه الأفراد مما يجعله مرناً قابلاً للتلاعب فيه بما قد
يخالف طبيعته بمختلف التعلات، كأنّ يقال إن معاييره خاصة بالأوروبيين
أنفسهم أو لبلادهم وحدها، كما هو حادث بالفعل.
وأخيراً، فإنّ الإيمان بالله تعالى يقترن في القرآن – بحكم طريقته في النظم
التي تجمع بين الأطراف المتعددة للإيمان بتوجيه المؤمن للأخلاق الكريمة من
إنفاق وصدق في القول ووفاء بالأمانات وشهادة الحق ولو على الوالدين
والأقربين.
من هذا العرض لطريقة ومنهج القرآن الكريم في عرض الإيمان بالله. يتضح الآتي:
أ) أنّ القرآن الكريم لا يعرض الله تعالى مجرداً، أو يعرض لذاته وكنهه إلا
في آيات معدودة، لأنّ اللغة... والفهم الإنساني أيضاً – يعجزان عن تصور
ذاته، ولكن عامة عرضه لله تعالى إنما يكون عبر حديثه عن صفاته وآلائه، فهو
حيناً الخلاّق الحكيم، وهو حيناً صاحب الأسماء الحسنى.. والمثل العليا..
وهو الذي كتب على نفسه الرحمة والعدل ووضع السنن، وهو الذي يكافئ المحسن
ويؤاخذ المسيء..
وبإسثناء سورة مثل سورة الإخلاص التي تتحدّث عن ذات الله بآياتها الأربع
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 1-4)، وآيات أخرى
قليلة فإنّ القرآن يعرض الله تعالى بصفاته وآلائه.
ب) أنّ القرآن الكريم يربط الإيمان بالله باتّباع السنن والقيام بالعمل
الصالح وتجنب العمل السيِّئ والأخذ بما أمر الله به المؤمنين ووجّههم للعمل
به بحيث يرتبط الإيمان به بهذه الخلائق، فلا تحدث تلك الهوّة التي تفصل ما
بين إيمان عقدي من ناحية، وسلوك في الحياة من ناحية أخرى. وهو المأزق الذي
وقع فيه المسلمون عندما لم يأخذوا بفكرة الإيمان بالله كما قدّمها القرآن.
ت) إنّ القرآن يوجِّه الأنظار إلى آلاء الله، وإلى مظاهر الروعة والإتقان
والجمال في الكون من شموس وأقمار وبحار وأنهار وجبال سامقة وسهول مغدقة
وحيوانات ونباتات... كلها تسبح فيه وتسبّح بحمد الله، وكلها تتحرك نحو
مستقرها... فضلاً عن الإنسان وما أودع الله تعالى فيه من قوى وملكات وحواس
ومشاعر... إلخ، يثير النفوس ويستحث الهمم (أفَلَمْ يَسِيرُوا) (يوسف/ 109)،
(أفَلَمْ يَنظُرُوا) (ق/ 6)، (ألَمْ يَرَوا) (الشعراء/ 7)، (أفَلاَ
يَتَدَبَّرُونَ) (النساء/ 82)... فتنكشف لهم عوامل الجمال والإبداع في هذا
الكون.
ث) إنّ القرآن الكريم يثبت أنّ الله تعالى هو الذي خلق كل هذه الأكوان،
وأنّه تعالى هو القوة المطلقة القاهرة التي تتعالى عن أي وصف، فالله تعالى
ليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار (وَتَعالَى عَمَّا يَصِفُونَ) (الأنعام/
155)، ولا يعرض له – سبحانه – ما يُعرض للبشر من ضعف أو موت أو ولادة...
فهو سبحانه (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا
أَحَدٌ).
ج) أنّه يرد على الجاحدين الذين يقولون: (.. مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ...)
(الجاثية/ 24)، بجملة واحدة (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ) (الطور/ 35)، فلا يعقل أنهم خلقوا من غير شيء ولا يعقل
أيضاً أنّهم خلقوا أنفسهم بأنفسهم، فلا يدع لهم خياراً إلا التسليم
والإقرار.
ح) أنّ القرآن الكريم يجمع ما بين الله تعالى والأسماء الحسنى، وما تدلّ
عليه بحيث يكون أصلاً لها كالحكمة والعلم والقوة والرحمة والعدل وأنّه لا
يظلم الناس مثقال ذرة، وأنّه كتب على نفسه الرحمة.
وهذا الجمع ما بين الله تعالى وهو القاهر المسيطر والذي يقول للشيء كن
فيكون.. وبين هذه المثل والقيم هو أعظم ما يُعطى لهذه المثل من قيمة تمثل
في نفس المؤمن الذروة في الأهمية بما تقترن به من تمجيد لها وإغراء بالأخذ
بها، لأنّها ترتبط في نفس المؤمن بإرادة الله تعالى، فضلاً عن أنّه يربط –
صراحة – بين الإيمان وهذه الخلائق عندما يتحدث عن صفات المؤمنين وأنها
الصدق في القول والوفاء بالأمانة.. إلخ.
خ) يزيد من أهمية هذه القيم ويصبّ في تيارها تكريم الله تعالى للإنسان
وجعله خليفة له وتفضيله إياه على الملائكة وتسخير الكون له وتزويده
بالمعرفة بحيث تقبّل مسؤولية (الأمانة) التي أشفقت منها السماوات والأرض،
وفكرة الدار الآخرة التي تقيم محكمة العدالة المطلقة الشاملة بحيث يُثاب
على كل حسنة، ويُعاقب على كل سيِّئة مع غلبة رجائه للرحمة والمغفرة...
ومن المهم الإشارة إلى أنّ القرآن الكريم وهو يعالج موضوع الإيمان بالله
تعالى لا يسلك طريقة تأديب جامدة أو تعليم مجردة، أو أنّه يمسك عصا المعلم
أو يلقن الناس تلقيناً أو يلجأ إلى التعريفات والمقدمات والنتائج.. إلخ،
كلا إنّه يسلك مسلكاً فنياً غير مباشر، فهو يسوق الحديث مسترسلاً متنقلاً
بين الموضوعات المختلفة، عارضاً قصص الأقدمين، وكاشفاً عن بدائع خلقه
ومتحدثاً عن صفات المؤمنين.. وفي الوقت نفسه يستثير الهمم ويحفِّز على
الفكر والعمل بأسلوب مؤثر جذاب تتشربه الآذان والقلوب ويتغلغل في النفوس
والعقول بحيث ينعكس عليها ويتجلى فيما يحدثه من تغيير أو من خلق جديد...
لأن مدخله إلى الإيمان بالله أعني الخلق واعتبار الله تعالى أصل المثل
وتكريمه للإنسان، وفي الوقت نفسه محاسبته في الدار الآخرة كلها تؤدي إلى
عملية التغيير، حتى وإن لم يشعر صاحبها شعوراً واعياً.