الثورة الروحية.. تحدي القرن الحادي والعشرينقال
تعالى: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباحٌ المصباح في
زجاجة الزجاجة كأنّها كوكب دُرّيٌّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية
ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌٌ نورٌ على نور يهدي الله
لنوره مَن يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) (فاطر/ 24).
وقال تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا
جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب * أو
كظلمات في بحر لُجّيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق
بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور)
(النور/ 39-40).
جاء في أحد الأقوال المأثورة، أنّ الله سبحانه وتعالى خلق ثلاثة أنواع من
المخلوقات: الملائكة، وزوّدها بالعقل دون الشهوة. والحيوانات، ومنحها
الشهوة دون العقل. والبشر، وزوّدهم بالعقل والشهوات. فإذا غلبت شهوة
الإنسان على عقله، كانت الحيوانات خيراً منه، ولكن إذا غلب عقله على شهوته،
صار الإنسان خيراً من الملائكة.
"إنّ القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الإيمان، أو إنه لن يكون" (أندريه مالرو، أصوات الصمت، 1963).
- لماذا نحن بحاجة إلى الثورة الروحية؟
تفيد كلمة الثورة "نتيجة الحركة التي يؤدِّيها الجرم السماوي في مدار دائري
أو إهليلجي" أي "الحركة التقدمية التي يقوم بها جسد ما للهيئة حول المحور
بحيث أن كل نقطة من نقاط الجسم الموازية للمحور، ترجع إلى نقطة البداية،
وتبقى موازية للمحور أثناء سيرها، وتكون عادة على مسافة واحدة دائماً عنه"
(قاموس وبستر).
وهكذا "منذ العصور القديمة، وعبر الفترة الحديثة المبكرة، كانت "الثورة"
تمثل مفهوم الدائرة المتكررة الدورية، وفي علم الفلك الجديد القائم على
نظرية كوبرنيكوس في منتصف القرن السادس عشر. وعلى سبيل المثال، فإنّ
الكواكب تنهي ثورتها حول الشمس.. أمّا فكرة الثورة باعتبارها عملية تغيير
جذرية للنظام وغير قابلة للنقض، فقد تطوّرت بالتوازي مع مفاهيم الزمن
المستقيمة والأحادية الإتجاه. وحسب هذا المفهوم الجديد، لم تعد الثورة تفيد
العودة، بل تفيد نقيض ذلك، بمعنى تحقيق وضع جديد للأشياء التي لم يشهدها
العالم من قبل، وربّما لن يراها بعد ذلك أبداً".
يمكن تطبيق كلا هذين المعنيين للثورة على فكرة الثورة الروحية: أوّلاً
بإعتبارها حاجة بشرية للعودة إلى المنبع، إلى نقطة الإنطلاق. وثانياً
بإعتبارها وعي الإنسان بوجود بديل لطريقته في الحياة. وما الوحي الإلهي
المنزل في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، إلا حركة تقديمة للكلمات
الإرتقائية حول المحور الإلهي، بحيث أن كل معنى للكلمات السامية مواز لما
هو إلهي، يرجع إلى نقطة بدايته؟ لذا فإنّنا بحاجة إلى ثورة روحية تعيدنا
إلى نقطة الإنطلاق حول محور من الروح الإلهية التي خلقنا منها.
قال تعالى: (إذ قال ربّك للملائكة إنِّي خالق بشراً من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (ص/ 71-72).
وعندما يطلب القرآن الكريم من الإنسان أن يُغيِّر نمط حياته "الجاهلي"،
فإنّه يعرض عليه البديل في الإسلام، الذي يمثل في الحقيقة، العودة أو
الخضوع لمدار الروح الإلهي، الذي تجاهله الإنسان أو أهمله، مُعرِّضاً نفسه
بذلك إلى خطر الخروج عن القانون الطبيعي "سنّة الله".
إنّ هذا القانون الطبيعي "سنّة الله" يطالب بإحترام حرّية الدين بإعتبارها
مبدأ أساسياً، يتبعه احترام الحياة البشرية، واحترام المساواة بين البشر،
واحترام كرامة الإنسان، واحترام المجتمع الإنساني، والعدالة البشرية،
والتأدب البشري.
في الواقع، إنّ الإسلام يعني (الثورة) بمعنى المسلم (المنيب) الذي يرجع إلى
أسس العلاقة البشرية مع الله ومع الناس، بعد تقطّعها نتيجة لجهل الإنسان
أو إهماله. ولذلك يقدّم إبراهيم (ع) نموذجاً للإيمان المتعدد الصفات، فوصفه
القرآن بأنّه رحيم، وأوّاه ومنيب بمعنى العائد إلى الوضع الأوّلي الذي
كانت عليه البشرية تجاه الله عزّوجل (إنّ إبراهيم لحليم أوّاه منيب) (هود/
75).
ولكن كان يجب على إبراهيم (ع) أن يمر بالكثير من الإبتلاءات، ليصل إلى
مرتبة التشريف العظيمة عند الله تعالى، لقد أوصلته تلك الإبتلاءات إلى
الثورة الروحية، التي أنتجت إعادة تشكيل جذرية لا رجعة فيها في الإيمان
بالله إلهاً واحداً، لا بديل عنه في الحياة البشرية. إنه رأى أوّلاً النجم،
فظنّه إلهه، فلمّا اختفى النجم، التفت إلى القمر ليرشده، فلمّا غاب، رأى
الشمس بازغة، فقال: (هذا ربي هذا أكبر) ولكن عندما أفَلَت، قال: (يا قوم
إنِّي بريء ممّا تشركون * إنِّي وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
حنيفاً وما أنا من المشركين) (الأنعام/ 76-79).
ومع ذلك، فإنّ إبراهيم (ع) كان ثورياً، لأنّه طرح أسئلة إستفزازية: (وإذ
قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أوَلم تؤمن قال بلى ولكن
ليطمئنَّ قلبي) (البقرة/ 260).
ولكن قصة إبراهيم (ع)، التي تشجع الحاجة إلى الثورة الروحية، فإنّ أكثر
سماتها تشويقاً تكمن في حقيقة أنه ألقي في النار: (قالوا حرّقوه وانصروا
آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)
(الأنبياء/ 68-69).
أنا لست أدري فيما إذا كان لدى تيري جونز أي فكرة عن محاولة حرق إبراهيم،
والتي فشلت بطبيعة الحال، ولكن محاولة جونز لحرق القرآن الكريم، تذكرنا
بمحاولة إحراق إبراهيم. لقد فشلت تلك الخطة على ما يبدو، لأنّها تمثل شكلاً
من أشكال حرق الذات أو الإنتحار الروحي. لذلك، أرى محاولة حرق القرآن
الكريم، في الواقع، دليلاً على الحاجة إلى ثورة روحية وفق النموذج
الإبراهيمي، لأنّها تعيد نهجنا إلى أساسيات علاقتنا مع الله ومع التراث
الإنساني المشترك.
وربّما يكون من التبسيط المبالغ به للأُمور، أن نقيم صلة بين الفيضانات
الأخيرة في العالم مع ما تقصه التوراة والقرآن الكريم عن طوفان نوح (ع)،
ولكن، ومن جهة أخرى، إنّه من التكبّر بمكان، ألا نرى في تلك الفيضانات
علامة تحذير بأنه ينبغي لنا أن نبدأ ببناء سفينة نوح.
إنّ مشكلة التغير المناخي لم تعد مجرد معرفة لدى فريق من الخبراء.. إنّها واقع حياة كل فرد، وخوف الضمير الإنساني الجماعي.
والخطر النووي ولم يعد لعبة سياسية من أساليب الحرب الباردة، بل إنه صار خطراً يهدد حياة البشرية جمعاء.
والفقر الذي ينتشر في جميع أنحاء العالم لم يعد بعيداً عنّا، بل أصبح واقعاً يعاش في جوارنا.
هناك الكثير من الأُمور التي تجعلني فخوراً بديني. لكنني عندما أرى أحوال
المجتمعات المسلمة، لا ألاحظ فارقاً كبيراً بالقياس إلى بقية العالم. إنّني
أرى عند إخواني المسلمين، نفس التناقضات الموجودة في أماكن أخرى من
العالم، فكلما ارتفعت شهاداتهم العلمية، انخفضت درجاتهم في الأخلاق، وكلما
ازدادوا معرفة، قلّت حكمتهم، وكلما ازداد عدد الخبراء، قلّت الحلول، وكلما
ازدادت الثروة، كلما قلت القيم الأخلاقية، وكلما بنينا المزيد من المنازل،
انخفضت أعداد الأسر، وكلما ازدادت وسائل الإتصال سرعة، قلّت العلاقات
الإنسانية السليمة، وكلما ازداد عدد الكتب التي تتحدّث عن التلوّث، قلّ
الإهتمام بالبيئة، وكلما ازداد عدد مؤتمرات السلام، كثرت الحروب في شتى
أنحاء العالم، وكلما زادت الدعوات إلى التحلي بالحكمة، قلّ التعامل بالعقل.
إنّ المخرج من مفارقات حضارتنا العالمية تلك يكمن في الثورة الروحية التي
تختلف عن الثورات العلمية أو الفكرية أو السياسية أو الصناعية. إنها ثورة
الروح التي ينبغي لها أن تحتضن جميع الإنجازات الإيجابية للثورات السابقة،
في ضوء مفهوم العودة إلى نور الله سبحانه وتعالى إلى مصدر نوره الذي يضيء
به القلوب والعقول الإنسانية، فهو (نور على نور) الذي يبدد الظلمات
المتراكمة الواحدة فوق الأخرى، والذي ينتزع الظلام من العقل البشري،
والكراهية من القلب البشري، ويُطهِّر الروح الإنسانية شرّ الشيطان، ثمّ نحن
بحاجة للإستماع إلى قول رسول الله (ص): "إنّ الله عزّوجل خلق خلقه في
ظلمة، ثمّ ألقى عليهم من نوره".
ذلك هو النور (نور على نور)، الذي يخرج البشرية من العبودية إلى الحرّية،
ومن الإضطهاد إلى حماية الحقوق، ومن الخرافات إلى المعرفة، ومن الكراهية
إلى المحبّة، ومن الإرهاب إلى الطمأنينة، ومن الخوف إلى الأمان، ومن الحرب
إلى السلام، ومن الفساد إلى الأخلاق، ومن الرشوة إلى الأمانة، ومن الفقر
إلى الإزدهار، ومن الباطل إلى الحق، ومن الأنانية إلى الشفقة والمواساة،
ومن التكبر إلى الخشوع، ومن القسوة إلى اللين، ومن الجشع إلى القناعة، ومن
التمييز إلى المساواة في الحقوق، ومن الإباحية إلى العفة، ومن ممارسة الجنس
مع الأطفال إلى مكارم الأخلاق، ومن المخدرات إلى احترام الذات، ومن الكحول
إلى الحياة الواعية، ومن الإلحاد إلى التقوى، ومن الإنتحار إلى الحياة
المليئة بالمعاني، ومن الجاهلية إلى التنوير الروحي، إنّها ثورة تحدث عندما
يدرك الناس أنّه يوجد بديل لنمط الحياة التي يعيشونها، وعندما يدركون
أنّهم قد وصلوا إلى أحطّ الدرجات (أسفل سافلين)، وهي الحال التي يكون فيها
الناس محجوبون عن النور الإلهي، فلا تعمل حواسهم الخمس بشكل سليم: ويصنفهم
الإمام الغزالي في ثلاثة أقسام: منهم مَن حجب بمجرد الظلمة وهؤلاء حجابهم
الشهوة والغضب، ومنهم مَن حجب بالنور المحض وحجابهم المقايسات العقلية
الفاسدة، ومنهم مَن حجب بنور مقرون بظلمة، وحجابهم الإعتقادات الفاسدة
والخيال.
ولذلك، نحن بحاجة إلى هذا النور الإلهي ليضيء من جديد روح الإنسان وعقله،
ليقود البشرية إلى الثورة الروحية التي سيكون لها أهميّة أكبر من الثورات
التي غيّرت وجه العالم. لأنّه، وبالرغم من طول الفترة، فإنّ الناس قد
أدركوا بأنّهم يولدون أحراراً وبأنّ الحرّية مثل الفيروس الذي لا يوجد مضاد
يقضي عليه. كما تعلم الناس على مرّ الزمن أن حقوقهم بالحياة والمعتقد
والحرّية والشرف، إنّما هبة إلهية وهبها الله إيّاهم، ولا يمكن لأي قوة أو
سلطة أن تسلبهم تلك الحقوق.
لذلك، فإنّ المعنى النهائي للدولة والمجتمع، ليس أن يهيمنا على الناس، ولا
أن يضايقانهم أو ينتهكان حقوقهم الإنسانية، بل أن يحررا كل الرجال والنساء
من الخوف ممّا يمكن أن يُسمّى "مطاردة الساحرات الشريرات" التي يتعرّضون
لها فقط بسبب مظهرهم وطريقة لباسهم، وأن يدافعا عن حقوقهم لكي يكونوا
قادرين على بناء المساجد والكنائس والصوامع بسلام، ويتمكّنوا من العيش
والعمل في أمان كامل، وبدون إلحاق الضرر بهم أو بجيرانهم. إنّنا نمتلك
اليوم كل هذه الأُمور في الورق، الحرّية والقانون والعلم، لكننا نشعر في
أنفسنا بأنّنا نفقد تلك القيم وبأن بعض الناس يريدون أن يعيدونا إلى عصور
الإستعباد المظلمة.
(أفحكم الجاهلية يبغون ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) (المائدة/ 50).
بالطبع، إنّ المعرفة لا يمكنها أن تحل محل حاجة النفس إلا أن تسمع وترى
بالعقل المستنير، أكثر ممّا تسمع بالأذن وترى بالعين، ولكن العقل البشري
الذي ينتج المعرفة لا يمكنه أن يتخلى عن الإنجازات العلمية التي سهلت حياة
الإنسان على الأرض.
إنّ الدعوة للعودة إلى الدين، يجب أن لا تعني العودة إلى عالم الخرافات
الذي يُفتَقد نور العقل، وقوّة العقل. إنّ الثورة الروحية لا تعني إلغاء
حكمة الإنسان وعقلانيته، بل إنّها تهدف إلى تحقيق ما أنجزه فعلاً خاتم
الأنبياء والمرسلين محمّد (ص)، عندما أرشد الناس إلى الطريق الذي يخرجهم من
ظلمات الجاهلية إلى الإستنارة الروحية والأخلاقية والمعرفية.
إنّ نبينا محمّداً (ص) قاد في بداية القرن السابع الميلادي أكثر الثورات
الروحية أهميّة في التاريخ البشري. لقد أنجز عليه الصلاة والسلام، مؤيداً
بالوحي الإلهي، أعظم عملية تجديد للفكر الديني وأكثرها كفاءة، بحيث ألغى
مؤسسة الوساطة بين الله والإنسان، وبرّأ الإنسان من وزر الخطيئة الموروثة،
وأقام مبدأ "لا إكراه في الدين"، وألغى التمييز العرقي، وحرر المرأة من
العبودية والخوف، وأكد على احترام العقل البشري وسيلة مهمة في التوصل
للإيمان، ورفع المعرفة البشرية إلى مستوى الإيمان والأخلاق، وأوجد التوازن
بين الفرد والمجتمع.
إنّ محمّداً (ص) أسَّس نظام حياة إسلامي يعرِّف الفرد على أنّه كائن بشري
عاقل ومستقل، ينبغي احترامه في كل ما يخصه من حقوقه الإنسانية، وعرّف
المجتمع على أنّه جماعة، أي أُمّة واحدة، يتوحّد فيها كل ما يحمي حقوق
الأفراد مع كل ما يقوي المجتمع أو الشعب أو الأُمّة.
والقرآن الكريم يُصرِّح بذلك، إذ يقول الله عزّوجل: (وكذلك جعلناكم أُمّة
وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) (البقرة/ 143).
إنّ فكرة التكامل والشمولية لم تكن غريبة على الإمام الشافعي، الذي أُحضر
مكبلاً للمثول أمام الخليفة هارون الرشيد، وطلب منه أن يقول رأيه في كتاب
الله، فقال: "عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإنّ الله
قد أنزل كتباً كثيرة".
كما أنّ القرآن الكريم يطلب منّا أن نكون متسامحين في مخاطبتنا للناس
بمختلف أُممهم وأديانهم ونظم حياتهم: (ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو
أعلم بالمهتدين) (النحل/ 125).
فالثورة الروحية إذن، تطلب العودة إلى الحكمة والتسامح والحوار، وإلى
المفاهيم التي فُقدت في هذا الطوفان من الجشع الإنساني، والأنانية،
والتطرُّف، والمحرقة، والإبادة الجماعية، والإرهاب، والعنف في الشارع وداخل
الأسرة. لقد وصل بنا الحال إلى نقطة، تذكر فيها كلمة "الحكمة"، فيُظَنُّ
أنّ المقصود بها عادة كبار السن الذين أصبحوا حكماء لأنّهم غير قادرين على
الغطرسة بسبب شيخوختهم.
نعم، لقد أصبحت الغطرسة اليوم، مثل "الحكمة" في الماضي، لأولئك الذين
يعتقدون أنّه في المخدرات "حكمة" الحياة، وأنّه في الكحول "حكمة" العصر
الحديث، وأنّه في الوقاحة والصفاقة "حكمة" حرّية الإختيار، وأنّه في السرقة
"حكمة" الإبتكار، وأنّه العنف "حكمة" البطولة. وبالطبع، عندما يكون نظام
الحياة البشري خاضعاً للمعارف والمعلومات بدون أخلاق وآداب، وبدون حكمة
ومعنى، وبدون حياء وشهامة، وبدون تسامح وثقافة الحوار، فسوف نواجه ظواهر
العنف والتعصب والتمييز.
إنّنا نحتاج، إلى جانب المعرفة والمعلومات المتوفرة لدينا اليوم أكثر من أي
وقت مضى، وخاصة لشبابنا، أن نتعلّم الحكمة والقدرة على تمييز العلم النافع
من العلم الضار، والمعلومة المفيدة من المعلومة الضارة. والنفس البشرية
تمتلك قدرة الحكمة هذه، باعتبارها قوّة روحية، وكأنّها إلهام إلهي، يزداد
بالتقوى البشرية التي تحفظ الإنسان من الغطرسة تجاه حياته وتجاه الناس من
حوله.
إنّ تلوث النفس البشرية بالكذب والفجور ليس أقل شأناً من تلوث الطبيعة
بالغازات السامة والنفايات، بل إن تنظيف الطبيعة من التلوث أمر مستحيل، إذا
لم يتم تطهير النفس البشرية من الفساد وانعدام المسؤولية تجاه الحياة على
الأرض.
يجب على الإنسان أن يتعلّم التسامح وثقافة الحوار، لأنّه لا يوجد طريق آخر
لنجاحه في هذه الدنيا، ونجاته في الآخرة. لذا فمن المهم أن نعرف أنّ
الإسلام إذا كان يطالب بأن يهيمن التوحيد على العقل البشري، فإنّ مبدأ
التعاطف مع الإنسان والطبيعة هو الذي يدير القلب البشري. ولذلك تكون قيمة
صلاة الرجل وصومه أكبر إذا كانتا توقظان فيه التعاطف مع جميع أشكال الحياة
على الأرض، مثل رحمة الله تعالى، الذي يقول في كتابه العزيز: (ورحمتي وسعت
كلَّ شيء) (الأعراف/ 156).
ورُوِي عن الحسن، عن رسول الله (ص) أنّه قال: "بدلاء أُمّتي لا يدخلون
الجنّة بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن يرحمهم الله تعالى بسلامة الصدور، وسخاوة
النفوس، والرحمة لكل المسلمين".
لذلك، وبسبب غياب التعاطف الإنساني مع جميع أشكال الحياة على الأرض، وبسبب
عدم وجود تسامح حقيقي وثقافة حوار حقيقية بين الناس والشعوب، فإنّ القرن
العشرين سوف يذكر بأنّه كان قرن الأفكار الظلامية من العنصرية والفاشية
وكراهية الأجانب وكراهية الإسلام. إنّ القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا
على هيروشيما وناغازاكي، تسببت في قتل ملايين البشر، أكثر من أي قرن من
القرون الماضية. لكن سوء سمعة القرن العشرين لم تأت فقط بسبب عدد الأشخاص
الذين قتلوا فيه، لكن بسبب الإعتقاد بأن هذا القتل سوف ينتج عالماً جديداً،
عالماً أفضل.
إنّ القتل الصناعي الذي ارتكبته الدول في القرن العشرين بحق مواطنيها، إنّ
هذا القتل تمّ وفق قناعة بأنّ الناجين سوف يعيشون في عالم أفضل من أي وقت
مضى.
لقد حاول الإنسان في القرن العشرين أن يستبدل روح الشر بالروح الإلهية،
متجرئاً على النطق بكلمات مثل "الله ميت"، وجعله غروره يظن أنّه بإمكانه
العيش كما لو كان الله غير موجود.
لكن الذين نجوا من "عصر الظلام" في القرن العشرين، يمكنهم اليوم أن يشهدوا
بأنّ الله هو الحيّ السميع، البصير، العليم، وكل شيء عنده مكتوب في اللوح
المحفوظ.
ونحن الناجين، نشهد بأنّنا ندرك الروح الإلهي فينا، والذي يدعونا إلى
الثورة الروحية، التي ستغير طريقة الحياة البشرية في هذا القرن. إنّنا نأمل
أن تتحقق البوادر الأُولى لهذه الثورة الروحية في القدس الشريف، والأراضي
المقدسة. وهذا ما نتمنّاه أيضاً لشعب العراق وأفغانستان وباكستان والشعوب
الأخرى في العالم الذين يعانون من الحروب والعنف.
أمّا نحن في البوسنة والهرسك، فإنّنا فخورون حقاً بالتعايش والتسامح
المستمر على مدى عدّة قرون، لأنّنا وبالرغم من تجربة الإبادة الجماعية، لا
ننسى قراءة الرسالة القرآنية في قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا
السيِّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم
وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم) (فصِّلت/
34-35).
لهذا السبب نحن بحاجة إلى ثورة روحية في القرن الحادي والعشرين لكي نتعلّم التحلي بالصبر والثبات، وبذلك نصبح من أهل الحظ العظيم.
ليس هذا فقط، بل نحن بحاجة لمبادرة إسلامية في القرن الحادي والعشرين،
مفعمة بنفس الطاقة التي كانت تحرك بغداد في القرن الثامن. إنّنا بحاجة إلى
مبادرة لثورة فكرية مثل التي شهدتها قرطبة في القرن الثاني عشر، وإلى
مبادرة إسلامية لثورة علمية مثل تلك التي أدّت إلى تغييرات تاريخية ثابتة،
لأنّها طبّقت أوّلاً بصورة منهجية في الظواهر العلمية العلوم، ثمّ في
الظواهر السياسية السياسة.
"فقط في هذا المعنى، كانت الثورات الأُولى علمية، والثورات الأمريكية والفرنسية والثورة الروسية كانت أطفالاً لها".
وفي ضوء ذلك، يجب لأوّل ثورة في القرن الحادي والعشرين أن تكون ثورة روحية،
من خلال البصيرة الروحية، لكي تجنب البشرية الفوضى التي عرف بها القرن
العشرون.
وأودّ أن أختم بكلمات موسى إيريك والدباوم الذي قام: "يقدم هذا القرن
تغيرات متسارعة للوجود. ولكي نصبح كائنات بشرية بكل ما في الكلمة من معنى،
فإنّنا نواجه الحاجة إلى أن ندرس ونؤلِّف ونفهم ونتبنّى الوعي، والروحانية،
والأخلاق، والقيم، والثقافة، والمعرفة، والفن، والقوانين، والسياسة،
والإقتصاد، والعلوم، والإجراءات، والتقنيات، والإختراعات. إن كل مجال من
هذه المجالات يلمس بذاته منفرداً ثراء المعنى. وتتمثل المهمة في رؤية ما هو
أبعد من الإختزالية، وتشجيع تشكيل المعنى الحقيقي لحياتهم. إنّ الدين
ضروري لكي يتصرّف المرء بمسؤولية في عالم لا يمكن للإنسان أن يعرف كل شيء،
عالم استقرّ القلق في مخّه. لكن هذا الدين لا يمكن أن يكون مجرد مفاهيم
عقائدية، بل يجب أن يكون ديناً شاملاً، يدفع الإنسان لطلب العلم ولو في
الصين، كما وصّانا رسول الل