تبدو منطقة فلسطين صورة مصغرة عن الغرب السوري الذي تُشكل قسمه الأدنى الجنوبي. وهي تتألف من المناطق الجغرافية التالية:
1 - شريط الموانئ الساحلية ، وأهمها عكو (عكا) ، ويوبا (يافا) ، وأشقلون (عسقلان) ، وغزة.
2 - السهل الساحلي، وهو شريط خصب من الأرض الموازية للبحر.
3 - منطقة التلال المنخفضة (أو سهل شفلح) ، ويشكلها الانحدار التدريجي لمنطقة الهضاب الفلسطينية.
4 - الهضاب الفلسطينية، وهي بمثابة الامتدادات المنخفضة لجبل لبنان
الشرقي؛ وتتألف من أربعة أقسام: أ- مرتفعات الجليل في الشمال، يليها وادي
يزرعيل (مرج ابن عامر) الذي يفصل الجليل عن بقية الهضاب الفلسطينية؛ ب-
الهضاب المركزية أو مرتفعات السامرة؛ ج- مرتفعات يهوذا؛ د- نجدة النقب.
5 - وادي الأردن، وهو غور عميق يمتد بين بحيرة طبرية والبحر الميت، ثم يستمر بعد ذلك في وادي عربة.
إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين، هي صورة منطقة
متنوعة تتألف من بيئات معزولة عن بعضها بعضاً. وقد انعكست هذه الجغرافيا
المتنوعة على الحياة السياسية؛ ففي منطقة كهذه يصعب تحقيق الوحدة
السياسية، لذا فقد كانت فلسطين على الدوام مقسمة إلى عدد من الدويلات
الصغيرة المستقلة. وتتجلى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق
الهضاب، ونموذجها منطقة الجليل التي يفصلها عن الهضاب المركزية ومرتفعات
يهوذا وادي يزرعيل العريض والخصب. فمنذ أواخر عصر البرونز القديم، في أواخر
الألف الثالث قبل الميلاد، ظهرت في الجليل الأعلى مدينة حاصور الشهيرة في
العالم القديم، والتي تحكمت في منطقة الجليل فيما يشبه دولة المدينة
الموسعة خلال عصر البرونز الوسيط والحديث وصولاً إلى دمارها في نهايات
القرن الثالث عشر قبل الميلاد (ربما على يد شعوب البحر).
تشير الدلائل الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية
والسياسية مع منطقة الساحل الفينيقي، ومع العالم السوري الأوسع، كانت أقوى
من صلاته مع المنطقة الفلسطينية. فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية
المكتشفة، والتي تشير بقوة إلى روابط الجليل مع الشمال أكثر من روابطه مع
الجنوب، فقد ورد اسم حاصور في أكثر من عشرين رقيماً اكتشفت ضمن أرشيف مدينة
ماري على الفرات الأوسط. ونعرف من هذه الرُقم عن عدد القناصل والسفراء
الذين كانوا يفدون إلى حاصور من الممالك الكبرى، وعن شحنات البضائع التي
كانت ترسل إليها من ماري. كما ونعرف عن اسم أشهر ملوكها المدعو ابني
هدو، الذي لعب دوراً مهماً في السياسة السورية خلال الفترة التي يغطيها
أرشيف ماري.
في عصر الحديد الأول والثاني، الذي شهد مولد مملكتي السامرة
ويهوذا، بقيت منطقة الجليل على عُزلتها عن مناطق الهضاب الأخرى، ولا يوجد
لدينا دليل على صلات ثقافية مع جارتها السامرة، بل على العكس من ذلك.
فالفخاريات وغيرها من اللقى المكتشفة خلال هذا العصر تشير بقوة إلى مؤثرات
فينيقية، وصُوْرية (نسبة إلى صور) بشكل خاص. ويبدو أن الجليل قد وقع تحت
سيطرة صور آناً وتحت سيطرة دمشق آناً آخر. كما وقع تحت سيطرة السامرة لفترة
قصيرة خلال الهزيع الأخير من حياتها، وتأثر بالحملات الآشورية التي ساقت
إلى السبي أعداداً كبيرة من سكانه وأحلّت محلهم سكاناً من المناطق المقهورة
الأخرى.
تنقصنا المعلومات عن منطقة الجليل خلال العصر الفارسي. أما خلال العصر
الهيلينستي والروماني، فقد تهلين الجليل مثلما تهلينت فينيقيا والسامرة
وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة ذات طالع إغريقي، أهمها مدينة سيفوريس
ومدينة تبيرياس (طبرية) التي بناها هيرود ودعاها باسم الإمبراطور الروماني
تيبريوس. كان التركيب الإثني لهذه المدن متنوعاً، فقد احتوت على ذخيرة
أساسية من السكان الجليليين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى
الجليل من قبل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية. أما الديانة الغالبة فكانت
كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر إغريقية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع
الآلهة الإغريقية والرومانية. ولهذا يطلق مؤلف إنجيل متَّى على الجليل اسم
جليل الأمم، أي جليل الوثنيين (متَّى 4: 15).
ونظراً لبعد مقاطعة اليهودية وعزلتها عن جيرانها، لم يحتوِ الجليل حتى
مطلع القرن الثاني قبل الميلاد إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان
الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء ويعتبرونهم جسماً دخيلاً على المجتمع
الجليلي. وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي وجد الجليليون في
هذا مناسبة للتخلص من اليهود؛ وهذا ما دفع بهيوذا المكابي عام 164 ق.م إلى
الإسراع لنجدة يهود الجليل وإجلائهم إلى أورشليم. نقرأ في سفر المكابيين
الأول: " وبينما هم يقرؤون الكتاب، إذا برسل قد وفدوا من الجليل وثيابهم
ممزقة وأخبروا قائلين: قد اجتمعوا علينا من بْطُلْمايُس وصور وصيدا وكل
جليل الأمم ليبيدونا… فلما سمع يهوذا المكابي والشعب هذا الكلام، عقدوا
مجمعاً كبيراً وتشاوروا فيما يصنعون لإخوتهم الذين يعانون الشدة وهجمات
الأعداء. فقال يهوذا لسمعان أخيه: اختر لك رجالاً وامض فأنقذ إخوتك الذين
في الجليل… ومضى سمعان إلى الجليل وشن على الأمم حروباً كثيرة، فانسحقت
الأمم أمام وجهه، فتتبعها إلى باب بطلمايس، فسقط من الأمم نحو ثلاثة آلاف
رجل، وسلب غنائمهم. وأخذ اليهود الذين في الجليل، وعربات من حديد، مع
النساء والأولاد وكل ما كان لهم، وجاء بهم إلى اليهودية بسرور عظيم."
(1مكابيين 5: 14-23) وبذلك فقد تم إفراغ الجليل من اليهود.
ولكن الوضع في الجليل تغير ظاهرياً بعد ضمه إلى أملاك اليهودية في عهد
الملك المكابي أرسطو بولس الأول، وفَرْض الدين اليهودي على أهله بقوة
السلاح من قبل خلفه الملك أليكسندر ينايوس، وذلك في مطلع القرن الأول قبل
الميلاد، أي قبل جيلين أو ثلاثة أجيال من ميلاد يسوع. ومع ذلك فقد بقيت
اليهودية بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع الجليليين، والمراجع
اليهودية ملأى بالإشارات إلى قلة دين الجليليين وجهلهم بأداء الطقوس
والواجبات الدينية اليهودية، وعدم وجود فريسيين أو كتبة أو علماء شريعة
بينهم يعلمونهم أصول دينهم.
بعد دخول الرومان إلى سوريا واستيلائهم على أورشليم عام 63 ق.م وانسلاخ
الجليل وبقية المقاطعات التي ضمها المكابيون بالقوة إلى الدولة
اليهودية، ساد جو من التسامح الديني شجع الكثيرين على الارتداد عن اليهودية
والعودة إلى دين آبائهم، ولا سيما في عهد هيرود الكبير الذي عينه الرومان
ملكاً على فلسطين، و الذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها، وبنى
المعابد لها. وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت السيطرة اليهودية إلا لفترة
قصيرة لم تزد عن أربعين سنة، وأن من بقي على اليهودية في الجليل بعد ذلك لم
ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يُعَدُّ يهودياً حقاً من قبل أهل
اليهودية.
في الجليل الأمم هذا، ولد يسوع، وعاش طفولته وشبابه، وفيه بشر برسالته
الجليلية الأممية، وكان تلاميذه وأتباعه جليليون، وهو لم يذهب إلى اليهودية
إلا في آخر حياته التبشيرية حيث صلبه اليهود. وأما عن أبويه، فربما كانا
على الديانة الكنعانية التقليدية، أو من أسرة تهودت قبل جيلين أو ثلاثة
واستمرت على اليهودية بحكم العادة، أو أنهما كانا من أتباع جماعة روحانية
من جماعات مدرسة جبل الكرمل المعروفة في التاريخ القديم، والتي ورد ذكرها
في مؤلفات الكُتاب الكلاسيكيين الذين وصفوا الكرمل بأنه أكثر الجبال قداسة.
ولكني أرجح اعتماداً على ما سأسوقه من شواهد أن يسوع قد نشأ في بيئة
ثقافية غنوصية، وأنه تلقى المعارف على يد واحد من أبرز معلمي الغنوصية
السورية ، وهو يوحنا المعمدان المعروف لدينا من الأناجيل المسيحية.
في الغنوصية يقع مفهوم "الغنوص" أو "العرفان" في بؤرة عقائد وممارسات الغنوصيين. و"الغنوص" كلمة يونانية تدل على المعرفة بشكل عام "Gnosis"، ولها أشباه في عدد من اللغات الهندو-أوروبية مشتقة ن الجذر نفسه، مثل الكلمة السنسكريتية "جنانا- Jnana" والكلمة الانكليزية Know بمعنى يعرف، و"Knowledge"
بمعنى معرفة. ولكن المعرفة التي يسعى إليها الغنوصي ليست مما يمكن اكتسابه
بإعمال العقل المنطقي وقراءة الكتب وإجراء التجارب والاختبارات، وإنما هي
فعالية روحية داخلية تقود إلى اكتشاف الشرط الإنساني، وإلى معرفة
النفس، ومعرفة الله الحي ذوقاً وكشفاً وإلهاماً. هذه المعرفة هي الكفيلة
بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع لتعود
إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه بعد دورات لا حصر لها من تناسخ الروح في
الأجساد. فالروح الإنسانية هي قبس من روح الله، وشرارة من نور الأعالي
وقعت في ظلمة المادة، ونسيت أصلها ومصدرها. والإنسان في هذه الحياة أشبه
بالجاهل أو الغافل أو النائم أو السكران. ولكن في أعماق ذاته هناك دوماً
دعوة إلى الصحو عليه أن ينصت لها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس
حيوانية أسيرة لرغبات وشهوات الجسد إلى نفس عارفة أدركت روابطها الإلهية
وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها. وعلى الرغم من أن هذه الدعوة
إلى الصحو موجودة بشكل خافت لدى النفوس الغافلة.
ولكن الله الذي يبحث عن الغنوصي في أعماق ذاته ليس الإله الذي صنع هذا
العالم المادي الناقص والمليء بالألم والشر والموت، بل هو الآب النوراني
الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصف أو يحيط به اسم. وهو الذي
وصفه كتاب يوحنا السري بالكلمات التالية: "الواحد الموجود بصمديته، القائم
بنوره. البداية التي لم تسبقها بداية. بلا حدود ولا أبعاد لعدم حدوث شيء
قبله يحدده ويقيس أبعاده. خفي لم يراه أحد. بلا أوصاف لأن أحداً لم يفهم
كنهه فيصفه. بلا اسم، لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم. قائم في نفسه
ولنفسه وراء الوجود ووراء الزمن"
(1). إن ما يميز المسيحية
الغنوصية عن المسيحية القويمة، هو أن عالم المادة المرئي ليس من صنع الله
وإنما من صنع إله أنى هو إله اليهود، الذي يوازي أنجرا مانيو شيطان
الزردشتية. تتصوره الأدبيات الغنوصية على مسخ مزيج من هيئة الأفعى وهيئة
الأسد وله عينان تشبهان جمرتين من نار، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من
قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (مفردها أركون، أي حاكم باللغة اليونانية).
يدعى بالاسم "يهوه" وبالاسم "يلدابوث" ويلقب بـ"سكلاس" أي
الأحمق، وبـ"سمائيل" أي الأعمى، وبـ"الديميرج" أي الإله الصانع باللغة
اليونانية (Demiourgos). وعلى الرغم من أن هذا
الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية نفسها، إلا أنه أخد روحه من
نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد
فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح
(2).
يلف الغموض نشأة الغنوصية، ولكننا إذا اعتمدنا ظهور أولى النصوص
الغنوصية المكتوبة بمثابة البداية التاريخية لهذه الحركة، لقلنا بأنها
ابتدأت خلال النصف الأول من القرن الأول الميلادي مع ظهور مؤلفات معلمها
الكبير فالينتينوس الإسكندري، وبلغت أوج عطائها خلال النصف الأول من القرن
الثاني الميلادي على يد معلمين آخرين ينتمون إلى نفس المدرسة الإسكندرية.
أما الغنوصية السورية فقد بدأت في وقت متزامن مع الغنوصية
الإسكندرانية، ويعزو ظهورها إلى المدعو سمعان ماجوس الذي نشأ في مدينة
السامرة بفلسطين ونشر فيها تعاليمه على ما نفهم من سفر أعمال المرسل في
كتاب العهد الجديد المسيحي (8: 4-12). وسمعان هذا من أكثر الشخصيات
الغنوصية غموضاً، لأن مؤلفاته قد ضاعت ولم يبقَ منها إلا أفكار متفرقة وصلت
إلينا عن طريق نقاده المسيحيين. وقد امتلأ ما وصلنا إليه من سيرته
بالخوارق والمعجزات، حتى ضاعت ملامح سيرته الحقيقية. نشط سمعان خلال النصف
الأول من القرن الأول الميلادي. وهذا يعني أنه قد عاصر يسوع ونشط خلال فترة
نشاط الرسل الأوائل. ومن اليسير الذي وصلنا عنه، لا يبدو لنا سمعان
يهودياً راديكالياً ثائراً على الأرثوذكسية اليهودية، ولا مسيحياً غنوصياً
متطرفاً، وإنما تنبع غنوصيته من مصدر ثالث، هو على ما يبدو الغنوصية
المبكرة التي نشأت عن الموروث الوثني التقليدي للمنطقة.
يقول سمعان، وفق ناقده هيبوليتوس، بأن الله قوة أزلية موحدة وغير
متمايزة، منغلقة على نفسها في صمت مطلق. ثم إن هذه القوة اتخذت شكلاً
وانقسمت على نفسها، فظهر "العقل" Nous وهو مذكر، و"الفكرة" Enoia وهي
مؤنثة. وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي هو عالم الروح، وقسم سفلي هو
عالم المادة. فلقد امتصت الفكرة إنيويا القوى الخلاقة للآب وأنتجت ملائكة
وقوى عملت بواسطتهم على صنع العالم المادي. ولكن إنيويا فقدت السلطة على
القوى التي نشأت عنها، وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب. ثم ظهر
سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحرر إنيويا من قيودها، ويقدم
الخلاص من العالم المادي لكل من يتعرف عليه. بصفته هذه، من البشر. وقد كان
لسمعان عدد من التلاميذ أشهرهم دوتيسيوس وميناندر، اللذان بشرا في سورية
واتخذا من أنطاكيا مقراً لهما
(3)
الجمعة أكتوبر 28, 2011 10:49 am من طرف سبينوزا