ربيعة " ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
عدد الرسائل : 204
تاريخ التسجيل : 26/10/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | مفهوم الحداثة عند هيغل يورغن هابرماس | |
عندما ناقش هيغل (Hegel) أنساق كانط (kant) وجاكوبي (Jacobi) وفيخته (Fichte) سنة1902، وعندما أدرك الأنساق انطلاقا من التعارض بين الإيمان والمعرفة بقصد تفجير فلسفة الذاتية من الداخل. لم تكن طريقته في العمل مع ذلك محايثة (immanente) بكيفية دقيقة. ولذلك لجأ ضمنيا إلى التشخيص الذي أجراه على قرن الأنوار، وبهذا التشخيص وحده توسل في العمق ليفترض المطلق ـ وفيما وراء ذلك ليفترض العقل (بمفهوم مختلف، إذن، عن المفهوم الذي تقترحه فلسفة التأمل) بأنه قدرة على التوحيد: أقامت الثقافة عصرنا على التنافر القديم بين الفلسفة والدين الوضعي حتى [...] ليوجد التعارض بين الإيمان والمعرفة، منذئذ، في الفلسفة ذاتها [...] يبقى أنه يمكن التساؤل ألم يسلك المنتصر الذي هو العقل الطريق الذي تسلكه، عادة، قوة الأمم المتوحشة لقهر ما لدى الأمم الأكثر تقدماً من ضعف مستسلم، وهو: أن تحافظ على سيادتها بهيمنتها الخارجية، وأن تستسلم في ميدان الروح لمن هزمتهم. إذا أمعنا النظر في الأمر، فإن النصر المشهود الذي أحرزه عقل الأنوار "المنير" على ما كان يعتبره معارضا له ـ بحكم تصوره الضيق للديني بصفته إيمانا ـ ليس سوى ذلك؛ وإذا لم يبق الدين الوضعي ـ الذي التزم بمحاربته ـ ديناً، فإن العقل أيضا لم يبق عقلا (1). واعتقاد هيغل الراسخ هو أن قرن الأنوار ـ الذي بلغ أوجه عند كانط وفيخته ـ قد جعل العقل صنماً؛ فقد أحل هذا القرن الفهم (entendement) أو التأمل (réflexion) محل العقل بطريقة خاطئة، فرقى بذلك شيئا متناهيا إلى مطلق. والحقيقة أن اللامتناهي الذي تقترحه فلسفة التأمل (philosophie de la réflexion) ـ إذا كان يصدر عن العقل ـ إنما يفترضه الفهم وهو محكوم عليه بالنفاد في نفي (négation) المتناهي (fini): إذ يحدث الفهم [هذا اللامتناهي(infini)]، يعارضه بالمتناهي بطريقة مطلقة؛ وبموازاة ذلك، فإن التأمل الذي تجاوز المتناهي فارتفع إلى مرتبة العقل يعاود السقوط من جديد إلى درك الفهم وهو يحدد تصرف العقل بالتضاد؛ والمشكلة هي أنه يدعي البقاء عقلانيا (rationnelle)، حتى في هذه الانتكاسة(2). ومع ذلك، وكما يثبت الاستعمال غير المشروط للفظة "الانتكاسة"، فإن هيغل يتمسك هنا، خفية، بما يرمي إلى البرهنة عليه: فلعله بدأ ب إثبات، وليس فقط افتراض، أن عقلا يتجاوز الفهم المستطلق (absolutisé) يمكنه، هو أيضاً، أن يوحد بطريقة مقنعة كذلك التعارضات التي يجب على العقل أن يبين عنها بواسطة الخطاب على أي حال. والواقع أن ما بحث هيغل على افتراض قدرة على التوحيد، ليس هو الحجج بقدر ما هو تجارب سيرة حياته ـ ولا سيما تجارب الأزمة المرتبطة بتاريخ عصره، وهي تجارب كان قد راكمها وتأملها في توبنكن (Tübingen) وبرن (Bern) وفرانكفورت (Frankfurt) وكانت تشغل باله عندما وصل إلى يينا (Iena). وقد دافع هيغل الشاب وزملاؤه في مدرسة توبنكن الإكليريكية ـ كما هو معلوم ـ عن حركات عصرهم التي كانت تؤيد الحريْة. وكانوا متأثرين مباشرة بما ينمو من توترات حول الأنوار الدينية، وعارضوا ـ على الخصوص ـ الأرتذكسيّة البروتستانية التي كان يجاهر بها اللاهوتي كوتليب كريستيان شتورّ (Gottlieb Christian Storr). فاتجهوا على الصعيد الفلسفي نحو الفلسفة الكانطيّة للدين والأخلاق، واتجهوا على الصعيد السياسيّ نحو الأفكار المنبثقة من الثورة الفرنسية؛ ولاشك في أن التنظيم الصارم الذي كان يسم حياة المدرسة الإكليريكية قد أدى، في هذا، دوراً حاسما: يفكّر بها الناس ويقرّرون؛ وبما أنه ينقاد لأوامر العقل العمليّ. فإنه لابدّ من أن ينفذ إلى الروح والقلب. وعلى شرط أن يكون الدين العنصر الذي تنمو فيه الحياة العامّة، فإنّ الدين يمكنه أن يضفي على العقل فعليّة (effectivité) عمليّة. وروسو هو الذي يستلهمه هيغل بجلاء في افتراضه المتطلبات الثلاثة التي على الدين الحقيقي للشعب أن يلبيها: بالرغم من أن العقل الكونيّ هو الذي يجب أن يؤسس عليه الدين عقائده، فإن الخيال والقلب والإحساس (sensibilité) لا ينبغي أن تظل فارغة حتى في هذه الحالة. ويجب تشكيل هذا الدين بحيث تستطيع أن ترتبط به كل حاجات الحياة، كل الأنشطة السياسية العامة(7). ولاشك في أن هذا ينسجم مع عبادة العقل، كما كانت تمارس خلال الثورة الفرنسية. انطلاقاً من ذلك إذن يفسر التحفظ المزدوج ـ الذي يشفّ في كتابات الشباب اللاّهوتية ـ من الأرتذكسيّة ومن الدين العقلاني في الوقت نفسه. وكان هذا وذاك يبدوان منتوجين متكاملين ومتنافيين، آتيين من دينامية للأنوار كانت تتجاوز، مع ذلك، حدود الأنوار. إن ما يشكل توقيع العصر، عند هيغل الشاب، هو وضعانية للأخلاق (positivisme de la morale). وهو يطلق صفة "الوضعيّة" (positives) على الأديان التي لا تستند إلاّ على السلطة ولا تجعل قيمة الإنسان في أخلاقه(8). فالوضعيّ هو التعاليم التي يفترض فيها أن تمكّن المؤمنين من نيل عطف الله بعملهم وليس بالنشاط الأخلاقيّ؛ والوضعيّ هو الأمل في جزاء في الآخرة، كما أن الوضعي هو الانفصال عن العقيدة (المتروكة، من جهة، في أيدي البعض) وعن الحياة والمِلكية (الممنوحين للجميع)؛ والوضعيُّ هو أن يمكن لعلم الكاهن أن ينفصل عن إيمان الجماهير الصنمي (fétichiste)، كما أن الوضعيّ هو أيضا اللّفّ الذي يجبر من يجب عليه أن يصل إلى الأخلاق على المرور بالسلطة والمعجزات؛ والوضعيّ كذلك هو التطمينات والتهديدات التي تنشد المساواة في النشاط فقط؛ وأخيراً ـ وعلى الخصوص ـ الوضعيُّ هو التمييز بين الدين الخاص والحياة العامة. إذا كان هذا هو ما يميّز الإيمان الوضعيّ الذي يدافع عنه فريق الأرتذكسية، فربّما واتى الحظ فريق الفلاسفة. فهو، في الواقع، يصرّ فعلاً على المبدإ الذي يذهب إلى أن الدين ليس وضعيّاً في ذاته البتّة؛ فإذا"كان كلّ واحد يسمع ويحسُّ قوته الإلزامية عندما يوليها انتباهه"(9)، فإنها تدين بذلك للعقل البشريّ الكونيّ. غير أنّ هيغل يؤكد ـ ضدّ أنصار الأنوار ـ أن الدين العقلاني المحض على قدر عجزه عن التأثير في القلب والأحاسيس والحاجات، يمثل تجريداً ـ مثله في ذلك كمثل الإيمان الصنمي. وأخيراً، فبما أنه مقطوع عن مؤسسات الحياة العامّة ولا يولِّد أيّ حماس، فإنه لا يؤدي إلاّ إلى نمط من الدّين الخاصّ. وبالمقابل، فإذا أخرج الدين العقلانيّ إخراجاً عموميّاً ـ من خلال الأعياد والعبادات ـ، وإذا اختلط بالأساطير وإذا خاطب القلب والخيال، فإن الأخلاق، التي يتوسط لها الدين، يمكنها عندئذ أن "تتسلل إلى نسيج الدولة كلّه"(10). فالشرط اللاّزم لأن يجد العقل الملازم للدين شكلاً موضوعيّاً هو شرط الحريّة السياسيّة ـ "على دين الشعب، لكي يبرز مبادئ كبرى ويغذّيها، أن يسير يداً في يد مع الحريّة"(11). لذلك ليست الأنوار إلاّ قفا الأرتذكسيّ. فهذه تدافع عن وضعيّة (positivité) العقائد، ولكن تلك تسلم بموضوعية (objectivité) أوامر العقل؛ وتلجآن معاً إلى الوسائل نفسها ـ التي يوفرها التأويل الكتابيّ؛ وهما تعزّزان الانشقاق وتبدوان كذلك عاجزتين سواء عن جعل الدين قادراً على الكليّة الأخلاقيّ لشعب بأكمله، أو عن الإيحاء بتفتح حياة في الحريّة السياسيّة. إن الدين العقلانيّ، كالدين الوضعيّ(religion positive)،"ينطلق من شيء معارضٍ، من واقع لسنا عليه ويجب علينا أن نكون عليه" (12). إنه أيضاً نمط الانشقاقِ نفسِه الذي سينتقده هيغل في أوضاع عصره ومؤسساته السياسيّة في الوقت نفسه ـ هذا ما سيفعله أساسا مع الوصاية التي مارسها جيش مدينة بيرن على فود (Vaud) ومع تشكيل فوغتمبغك (Wurtemberg) الأوليغارشيّ ومع دستور ألمانيا(13). فكما أن الدين غادرته الروح الحيّة للمسيحية الأصلية، فصار ديناً وضعيّاً تجاهر به الأرتذكسية المعاصرة؛ كذلك فإن السياسة فقدت فيها" القوانين حياتها الأولى، ولم تستطع حياة الوقت الحاضر النفاذ إلى القوانين"(14). وقد تحولت الأشكال القانونية والسياسية التي تجمدت في الوضعية (positivité) إلى قوة الأشكال تجعلها غريبة علينا. وفي هذه السنوات، أي حوالي 1800، يحتفظ هيغل بالحكم نفسه للدين والدولة؛ فهو يأخذ عليهما انحطاطهما إلى مجرد إواليّة بسيطة، مجموعة تروس، آلة (15). تلك إذن هي الحوافز، المتأتية من تاريخ عصره، والتي حثت هيغل على تصور العقل قبليّاً بأنه قوّة لا تميّز النسق وتفصله عن الأوضاع المعيشة فحسب، بل تجمعها أيضاً. إن مبدأ الذاتية يولّد، في الصراع الذي يعارض بين الأرتذكسية والأنوار، وضعيّة تتطلّب تذليلاً موضوعيّاً لها على كل حال. غير أن على هيغل قبل أن يمكنه إنجاح جدليّة العقل هذه، أن يبيّن كيف يمكن تفسير تجاوز الوضعيّة انطلاقا من المبدإ ذاته الذي انحدر منه بالذات. يلجأ هيغل، في كتابات شبابه، إلى القدرة التوفيقيّة لعقل يستحيل استنباطه من الذاتيّة دون فصل. وكلما تناول الانشقاق الذي يولّده التأمّل، ركّز على المظهر الاستبداديّ للوعي بالضبط. وتُظهر ظواهر الـ "وضعيّ" الحديثة مبدأ الذاتية على أنه مبدأ هيمنة. ذلك ما تشهد عليه وضعية الدين في عصره، الذي رفضته الأنوار ودعمته في الوقت نفسه؛ هكذا تترجم الوضعانية الأخلاقية، بكيفية إجمالية، "شدة الزمن"؛ إذ في "الشّدّة، إمّا أن يحوّل الإنسان إلى موضوع فيُستعبد، وإما أن يُضطر إلى جعل الطبيعة موضوعاً فيستعبدها"(16). ويستند هذا الطابع القمعيّ للعقل عموماً على بنية الإرجاع الذاتيّ، وبعبارة أخرى على بنية العلاقة التي تقيمها مع نفسها ذات تعتبر نفسها موضوعا. صحيح أن المسيحية، وهي تتبلور، كانت قد أقصت قسطاً من الوضعية الملازمة للإيمان اليهوديّ كما كانت البروتستانتية قد أقصت الكاثوليكية؛ لكن وضعية جديدة كانت تعاود الظهور حتّى في الفلسفة الكانطية للأخلاق والدين؛ وهذه المرة بصفتها عنصراً سافراً للعقل ذاته. هذا ما يمكن هيغل من تمييز "المتوحشين المغول". الذين يخضعون للهيمنة، من وريث الحداثة الراشد الذي لا يصغي إلاّ لواجبه. إن ما يميّزهم ليس هو ما يفرق بين العبودية والحرية، وإنما واقعة. إن الأوّلين سيّدهم خارج عنهم، بينما الثاني يحمل سيده في ذاته وهو بذلك يشكل عبد نفسه؛ وعند الخاصّ ـ النزعات، الأهواء، الحبّ العاطفيّ، الإحساس، أو سمّه ما شئت ـ، أن الكوني شيء أجنبيّ، موضوعيّ بالضرورة وإلى الأبد؛ تبقى وضعيّة غير قابلة للتدمير، غير مقبولة تماماً من جهة أن المضمون الذي تتلقاه القيادة الكونيّة، وأعني واجباً محدّداً، يحتوي التناقض بين كونه محدوداً وكونه كونيّاً في الوقت نفسه، ويُظهر ـ باسم الكونيّة ـ المتطلبات الأكثر صرامة لصالح أحاديّتها(17). وتوصل هيغل، في البحث نفسه عن "روح المسيحية وقدرها" إلى تصوُّر عقل توفيقيّ يبطل الوضعيّة، وليس ظاهريّاً فقط. فهو يرتكز، مثلاً، على نموذج العقاب المبتلى به بصفته قدراً(18)، فيوضح الطريقة التي يظهر بها العقل للذوات على أنه سلطة توحيد. ومنذئذ صار هيغل يميّز ما ينتمي إلى الأخلاق (éthique) مما ينتمي إلى "الأخلاق المجتمعيّة"، معيّناً بذلك حالة من حالات المجتمع يمكن أن يُبرز فيها كلّ الأعضاء حقّهم ويلبّوا حاجاتهم دون الإضرار بمصالح الغير. إلاّ أن المجرم الذي يجور على حياة أجنبية أو يتعدى عليها، فيشوش حالة أخلاقية واقعية، يحسّ بالقوة التي تنبعث من هذه الحياة ـ والتي استلبها بفعله ـ كأنها قدر عدوانيُّ. فلعله يشعر بما ليس، في الحقيقة، سوى قدرة ارتكاسية للحياة التي أفناها وانتزعها كأنها الضرورة التاريخية لقدر ما. وهذا ما سيؤلم الجاني طالما لم يقِرَّ بأنه في نفي هذه الحياة الأجنبية يكمن التقصير الذي يجعل حياته الخاصة تخفق، وأنه إذ يرفض هذه الحياة الأخرى يُستلب هو نفسُه. ومن ثمّ فبهذا البعد العلّيّ للقدر يُستدرج المجرم إلى ا لوعي لأنّ الصلة التي تحافظ على الكليّة الأخلاقيّة قد قطعت. حينئذ لا يمكن للكليّة المنقسمة أن تستعيد وحدتها إلاّ انطلاقا من اللحظة التي يشتد فيها، من تجربة السلبيّة ـ الناشئة من الانشقاق ـ، الحنينُ إلى الحياة التي تمّ فقدانها ـ وانطلاقاً من اللحظة التي يجبر فيها هذا الحنين الأشخاص المعنيّين على أن يتعرَّفوا، في واقعة رفض وجود الغير، إنكاراً لطبيعتهم الخاصة. وحينئذ يمكن للفُرُق الحاضرة أن تبدأ في إدراك أن تصلب موقفهم المتبادل كان نتيجة الانقسام وصرف النظر عما كان يمكّنهم من التعايش ـ وهو ما يتعرّفوان فيه منذئذ مبرّر وجودهم. ومن ثم يعارض هيغل القوانين المجرَّدة للأخلاق بشرعيّة مختلفة تماماً تقوم، فعلاّ، على سياق ملموس للإجرام، يحدثه انقسام كليّة أخلاقية مفترضة. يبقى أن سيرورة القدر العادل. على خلاف قوانين العقل العمليّ، لا يمكن أن يُستنبط من مبدأ الذاتيّة بواسطة مفهوم استقلال الإرادة. وتنجم دينامية القدر عن تشوش الشرطين - شرطي التناظر والتعرف المتبادل - اللذين يتحكمان في الذاتية البينية (intersubjective) لجماعة حياتيّة، جماعة ينفصل عنها أحد الأطراف الذي يفقد بذلك كل الأطراف الأخرى ويحيد بالتالي عن حياتهم المشتركة. مثل هذا الفعل ـ الذي يبعد به من عالم معيش مقتسم اقتساماً ذاتيا متبادلاً ـ يخلق، أولا وقبل كل شيء، علاقة الذات ـ الموضوع. والحال أنه في الأوضاع التي يصفها هيغل والتي تلّبي، منذ البداية، بنية تفاهم بين الذوات ـ وليس منطق توضيع (objectivation)، تستخدمه ذات ـ فإنّ هذه العلاقة تتدخل بصفتها عنصراً غريباً، أو لا تدخل إلا بعد فوات الأوان على كلّ حال ـ حتى أن "الوضعيّ" يتخذ عندئذ دلالة أخرى. فليست الذاتية المفرطة المبالغة في ادعاءاتها هي التي يحيل إليها استطلاق واقع مشروط إلى واقع غير مشروط، بل إلى الذاتية المستلتبة التي تنفصل عن الحياة المشتركة. أما القمع الناتج عن ذلك، فلا يرجع إلى استعباد ذات قد تصير موضوعاً، بقدر ما يرجع إلى اختلال توازن ذاتي متبادل. ولا يستطيع هيغل الحصول على بعد التوفيق، أي ترميم كليّة مفككة، انطلاقاً من الوعي بالذات أو انطلاقا من العلاقة التأملية التي تقيمها الذات العارفة مع نفسها. وحتى من أجل هذا، فبمجرد ما يلجأ هيغل إلى الذاتية المتبادلة (intersubjectivité) الخاصة بعلاقات التفاهم، على قدر ما لا يفكر في الوضعيّ بحيث يمكن تذليله انطلاقا من المبدأ نفسه الذي انبثق منه ـ وأعني، بالضبط، انطلاقاً من الذاتية ـ فإنه يخطئ ما يشكل الهدف الأساسي للتأسيس الذاتي (autofondation) للحداثة. ولا غرو في ذلك إذا ما فكّرنا أن هيغل الشاب عرض، انطلاقاً من توافق يعقده بين عصره وانحطاط الفترة الهلينية، واقعة أن شروط الحياة تغرق في الوضعيّة. إنه يعكس عصره في فترة تشهد انهيار النماذج الكلاسيّة. ومن ثم فهو يفترض مسبَّقاً، فيما يخص التوفيق الذي قد يخبئه القدر للحداثة المنحطة، كليّة أخلاقيّة ليست لها جذورها في تربة الحداثة، ولكنها مستعارة من رؤية مؤمثلة عن الماضي المحيل في الوقت نفسه إلى الـ POLIS الإغريقية وإلى الممارسة الدينيّة للطوائف المسيحيّة الأولى. وفي مقابل التجليات الاستبدادية للعقل المركز على الذات، يلجأ هيغل إلى السلط الموحدة لذاتية متبادلة تتبدى من خلال مفهومي"الحب" و"الحياة". ومحل العلاقة التأملية بين الذات والموضوع. يُحِلُّ علاقة ـ تواصليّة، بمعناها الأوسع ـ بين الذوات. وتشكل الروح الحية الوسيط الذي تقوم من خلاله الطائفة؛ طائفة هي كذلك بحيث يمكن للذات أن تعرف نفسها في علاقتها بذات أخرى، فيما تظل ـ مع ذلك ـ هي نفسها. فانعزال الذات هو الذي يطلق عندئذ دينامية تواصل مشوَّش، ديناميّ، تشكّل غايته (telos)، طبعا، إصلاح العلاقة الأخلاقية، ويوجد هنا، في الفكر الهيغلي، تغيير للاتجاه كان من الممكن أن يكون الخطوة الأولى لإعادة تملك وتحويل للمفهوم التأمليّ للعقل الذي تطوره فلسفة الذات. لم يستمر هيغل في هذه الطريق(19). ولابدّ من القول بأنه لم يكن قد طور فكرة الكلية الأخلاقية إلاّ وهو يتبع خط توجيه فكرة ـ هي فكرة دين الشعب ـ كان العقل التواصليّ يتخذ فيها الشكل المؤمثل (idéalisée) للطوائف التاريخيّة التي هي الـ polis الإغريقية والطوائف المسيحية الأولى. ولا تشكل فكرة الكليّة الأخلاقية هذه بما هي دين الشعب توضيحاً تمثلياً للسمات المثالية التي تشكّل كلاسيّة هذا العصر فحسب، بل هي مرتبطة بها ارتباطا لا تنفصم عراه. والحال أن العصر الحديث كان قد بلغ الوعي بالذات (soi)، وذلك بواسطة تأمل كان يمنع من اللجوء لجواءاً منظّماً إلى نموذجية الاقتباسات من الماضي. وكان التعارض بين الإيمان والمعرفة، كما كان ينمّ عنه الجدل بين جاكوبي وكانط، ورد فعل فيخته، قد انتقل إلى رحاب الفلسفة ذاتها. أضف إلى ذلك أن هيغل قد أقرّ بهذا التعارض، منذ بداية البحث الذي خصصه لهن، وأجبره ذلك على التخلي عن الفكرة القائلة بأن إعادة تحيين لروح المسيحية الأصلية قد تمكّن من تصالح الدين الوضعيّ والعقل، ولو أجريت بروح إصلاحيّة. وفي الفترة نفسها، يلمّ بالاقتصاد السياسيّ؛ ولعله لاحظ، هنا أيضاً، أن المبادلات الرأسمالية قد ولدت مجتمعا حديثا يمثل، تحت تسمية "المجتمع البرجوازي" التقليدية، واقعاً جديداً تماماً، يختلف عن الواقع الخاص بالأشكال الكلاسية للـ Societas civilis. أو الـ polis· لاشك في أن تقاليد القانون الروماني أجازت وجود بعض الاستمرارات، ولكن هذه الاستمرارات لا تكفي لكي يواصل هيغل إقامة توازن بين الوضع المجتمعي المنحط الذي كان يسم الإمبراطورية البيزنطية وعلاقات القانون الخاص اللصيقة بالمجتمع البرجوازيّ الحديث. وبذلك بالذات، فإن المقياس الذي لا يمكن أن تُدرك به الإمبراطورية البيزنطية إلا بصفتها منحطّة ـ وبعبارة أخرى، الحريّة السياسية الشهيرة المسندة إلى الحاضرة اللاتينية ـ يكفّ عن كونه نموذجاً للعصر الحديث. وهذا يعني، في نهاية المطاف، أن تأويلا للأخلاق المجتمعية لا يزال يرتكز بمثل هذا الحزم على الـ polis والمسيحية الأصلية لا يمكنه بعد أن يزود هذه الحداثة، المنشطرة في ذاتها، بمقياس تستطيع أن تستثمره لنفسها. ومن الممكن جداً أن يكون ذلك هو السبب الذي جعل هيغل الذي لم يعد يدفع قدماً بالمقدمات المنطقية لعقل تواصليّ ـ البارزة بوضوح مع ذلك في كتابات شبابه ـ، يطور آنذاك، عندما كان يدّرس في يينا، مفهوماً عن المطلق استطاع، في حدود فلسفة للذات، أن يُحِلَّه محل نماذج العصر القديم الإغريقي والروماني ـ ولكن ذلك كان، والحق يقال، مقابل معضلة (dilemme- جديدة. قد يكون من المفيد، قبل تقديم الخطوط العريضة للحلّ الفلسفي للتأسيس الذاتيّ للحداثة الذي يقترحه هيغل، أن نعود إلى ما نقل إلينا ـ على يد هيغل ـ بصفته أقدم برنامج نسقيّ، ولكنه برنامج يصوب فكراً مشتركاً بين هولدرلن (Holderlin) وسيلنج (Schelling) وهيغل، عندما كانوا أصدقاء يجتمعون في فرانكفورت(20). وبالفعل، يبدأ هنا عنصر إضافيّ، ألا وهو: الفن بصفته سلطة مصالحة ملتفتة نحو المستقبل. ولايمكن للدين العقلاني أن يصير دين الشعب إلاّ وهو يفوِّض أمره إلى الفن. إن وحدانيّة العقل والقلب يجب أن تتحالف مع شِرْك الخيال وتخلق أسطورة في خدمة الأفكار. "قبل أن نعطي الأفكار مدى جماليّاً، أي أسطورياً، لم يكن لهذه الأفكار أيّ فائدة للشعب؛ وبالعكس، فقبل أن تكون الميتولوجيا عقلانية، لايمكنها إلاّ أن تخجل الفيلسوف"(21). إن الدين الذي يقيمه الشعر هو الذي سيلهم كليّة أخلاقيّة تتيح تطويراً واحداً لكل القوى دون اضطهاد أيّ من هذه القوى. وحينئذ سيمكن لحساسيّة هذا "الشعر الأسطوريّ" (mythopoésie)، بإيماءة واحدة، الشعب والفلاسفة(22). ولعلّ مثل هذا البرنامج يذكّر بالأفكار التي طوَّرها شيلر عن التربية الجمالية للإنسان، عام 1795(23)؛ ويوحي لسيلنج ببلورة نسق المثالية المتعالية الذي قال به عام 1800؛ وأخيراً، إنه يحدّد فكر هولدرلن حتّى النهاية(24). غير أن هيغل ما لبث أن بدأ يشك في هذه الطوبى الجمالية. ففي نصه عن اختلاف النسقين الفلسفيين لـ فيخته وسيلنج، والذي كتبه عام 1801، ولم يعد يمنحه أيَّحظ، وذلك ما دام لايمكن للـ "رجوع الحميم إلى الفن بالطريقة الأكثر جدّية" أن يسترعي الانتباه بعد في ثقافة استُلبت فيها الروح(25). وفي يينا، شهد هيغل ميلاد شعر الرومانسية الأولى تحت ناظريه إن صحّ التعبير. وما عتم أن تعرّف، في الفنّ الرومنسيّ، فنّاً تتطابق عبقريته مع روح العصر ـ إنها روح الحداثة التي تتجسد في ذاتيتها. يبقى أنها، بما هي شعريّة الانشقاق، قلّما تميل إلى أن "تربّي البشريّة" وأنها بعيدة عن الطريق التي قد تؤدي إلى دين الفنّ هذا الذي كان هيغل، مع هولدرلن وسيلنج، قد دعيا إليه في فرانكفورت. فمن المستحيل على الفلسفة أن تخضع له. ومن ثم لابدّ للفلسفة من أن تفهم نفسها بنفسها بصفتها الموضع الذي يمكن فيه للعقل أن يتجلى بصفته سلطة مطلقة للتوحيد. وبما أنها اتخذت، عند كانط وفيخته، شكل فلسفة التأمل، فإن هيغل يرى أنه من الضروريّ، وهو يقتفي بعد آثار سيلنج، أولاً، أن يطور انطلاقاً من ا لمقاربة التي تقترحها فلسفة التأمل ـ أي انطلاقا من إرجاع الذات إلى نفسها ـ، مفهوماً للعقل يستطيع بواسطته أن يتأمل تجاربه المتعلقة بالأزمة وأن ينجز نقده لحداثة هي ضحيّة للانشقاق في آن واحد. ويقصد هيغل أن يعطي شكلاً مفهومياً لحدسه الذي يعود إلى فترة الشباب، والذي يذهب إلى أن التحرر لا يسعه إلاّ أن يتحوّل إلى عبوديّ، وذلك كلّما اكتسبت القوّة المحرّرة للتأمل استقلالها، في العالم الحديث، وكلّما ظلّت هذه القوّة عاجزة عن الحصول على التوحيد إلاّ بقوة ذاتيّة مهيمنة. وبما أن العالم الحديث يرفع، في كلّ ظرف ـ في الفلسفة كما في الحياة اليوميّةـ، واقعاً مشروطاً إلى مطلق، فإنه يعاني من هوّيات مغلوطة. ونجد لوضعيات الإيمان والمؤسسات السياسية، وللأخلاق المجتمعية المنقسمة بطريقة عامة، معادلاً فلسفياً في الدغماتية الكانطية. وهذه الأخيرة تستطلق (absolutise)، في الإنسان المتحلّي بالفهم (entendement)، وعياً بالذات يدرك، في تعدديّة عالم يتفتت في ذاته، "مجموعا موضوعيا متماسكاً، يتحلّى بالاستقرار والجوهرية والتعددية بل الفعالية والإمكان ـ وباختصار، تحددية (déterminité) موضوعية يتأملها الإنسان ويسقطها خارج نفسه" (26). وما يسري، في مجال المعرفة، على الذاتي والموضوعي، يسري، في مجالات الدينيّ والفلسفيّ والأخلاقيّ، على المتناهي واللامتناهي، الخاصّ والكونيّ، الحرّيّة والضرورة؛ وليست هذه سوى هويات مغلوطةـ "إن التوحيد يتم الحصول عليه بالقوة، أحدهما يخضع الآخر [...] الهوّية، التي يجب أن تكون مطلقة، ناقصة" (27). إن البحث عن هوّية محصَّل عليها بلا قيد، والحاجة إلى توحيد آخر غير التوحيد، الوضعيّ ببساطة، الذي تقيمه علاقات قوّة فرضا نفسهما عند هيغل، كما رأينا على إيمان تجارب الأزمة المعيشة بحدّة. إلاّ أنه لابدّ من التفكير في العقل، بلاشكّ، من خلال قدرة الذات على الإرجاع إلى نفسها، وذلك لكي يمكن تطوير الهوّية الحقيقية انطلاقاً من ا لمقاربة التي تقترحها فلسفة التأمل. ولكنّ لابدّ مرّة أخرى من ألاّ يفكر فيه بصفته مجرد مقام تأملي يفرض نفسه بنفسه على الغير بصفته القدرة (pouvoir) المطلقة للذاتية؛ ويجب على وجوده وديناميّته، في الوقت نفسه، أن يرتبطا حصراً بواقعة التصدّي لكلّ الاستطلاقات (absolutisation)، وبعبارة أخرى، بواقعة أنه لم يتوان إلا في أن يقصي، بعمله، كل شكل من أشكال الوضعية القابلة للتجلي. لذلك يستبدل هيغل بالتعارض المجرَّد بين المتناهي واللامتناهي الإرجاع المطلق إلى الذات من ذات تصل، انطلاقا من ماهيتها المطلقة، إلى الوعي بالذات فتحمل في نفسها ما يوحّد ويعارض بين المتناهي واللامتناهي في الوقت نفسه. ولا ينبغي لهذه الذات المطلقة، على خلاف الذات الشلنجية أو الهولدرلنية، أن تسبق سيرورة العالم بما هي كينونة أو بما هي حدس، بل عليه فقط أن ينحصر في السيرورة التي يولّدها النشاط المتبادل للمتناهي واللامتناهي، وبالتالي في الوجود في النشاط المضني لإكمال الذات· إن المطلق لا يُتصوَّر بصفته ماهية ولا بصفته ذاتاً، وإنما بصفته سيرورة وساطة يحدث بواسطته الإرجاع الذاتي بمعزل عن كل شرط (28). يستثمر هيغل، بهذه الصورة الفكرية، الخاصة به، الوسائل التي تمنحها فلسفة الذات للانتصار على العقل المركّز على الذات؛ وهذه الصورة الفكرية هي التي ستتيح لهيغل، فيما بعد، نضج إقناع الحداثة بأخطائها، دون أن يكون عليها اللجوء إلى مبدإ آخر للذاتية غير المبدإ الملازم، بالضبط، للحداثة، وذلك ما تنم عنه، بطريقة تنويرية من جهة أخرى، جمالياته. ولم يكن أصدقاء فرانكفورت قد أسسوا آمالهم على قدرة (puissance) الفن التوفيقية وحدها، ففي الخصومة التي أحدثها السؤال عن كون الفنّ الكلاسي يملك قيمة نموذج، تم الوعي بالضبط، في فرنسا أولاً، ثم في ألمانيا، بالمشكل، الذي كان يمثله التأسيس الذاتي للحداثة. وقد أثبت هـ. ر. ياوس (H.R. Jauss) فعلاً(29) كيف كان فريدريك شليكل وفريدريك شيلر قد حققا، في أعمال كل منهما (في "دراسة الشعر الإغريقي"،1797؛ "في الشعر الساذج والعاطفي"،1796)، الأسئلة التي أثارتها الخصومة الفرنسية، وأبرزا خصوصية الشعر الحديث واتخذا موقفا من الأحروجة التي برزت ـ بالتأكيد ـ لو كان يجب التوفيق بين الملاءمة التي كانت تقرها الكلاسيات لنموذج مقتبس من الفن القديم، وسمو الحداثة· وكلاهما جعلا، بطريقة مماثلة، من اختلاف الأسلوب تعارضاً، سواء تعلق الأمر بتعارض بين ما يميل إلى الموضوعية وما يثير الاهتمام أو بين ثقافة منشغلة بالطبيعة وثقافة معنية بالصنعة أو بين شعرية السذاجة الأصلية وشعرية للإحساس· وهما يعارضان مع تقليد الطبيعة كما تمارسها الكلاسيات، الفن الحديث الذي يجعلان منه فعل حريّة وتأمل بل يدفع شليكل حدود الجميل حتَّى أنه يصوّر، في بعض الملاحظات، جماليات للقبيح تخلي مكاناً لما هو إباحيُّ وجريء ولما هو مدهش وجديد بل لما هو جارح ومنفَّر في الوقت نفسه· غير أن شيلر إذا تردد في الانقطاع بوضوح عن المثل الأعلى الكلاسي للفنّ، فإنه ينتج، من جهته، فلسفة للتاريخ تقيم تفوُّق الحداثة على العصر القديم. حقيقة إنه يستحيل على الشاعر الحديث ـ شاعر التأمل ـ من الآن فصاعداً أن يبلغ إتقان الشعر الساذج؛ لكن الأمر سواء، مادام الفنّ الحديث يطمح إلى مثل أعلى للوحدة الموسَّطة (médiatisé) مع الطبيعة، الأمر الذي هو "مفصل للغاية" على الهدف الذي بلغه الفنُّ القديم وهو يبلغ الجمال عن طريق تقليد الطبيعة. ومن ثمّ فقد مفهوم شيلر الفن التأملي للرومانسية حتى قبل أن يكون قد رأى النور. أما هيغل، فقد كان هذا الفن موجوداً سلفاً تحت ناظريه، وخاصة عندما استأنف، في مفهومه للروح المطلقة، التأويل الشيلري للفن الحديث، القائم على فلسفة التاريخ(30). ففي الفن عموماً، يجب على الروح أن تنكشف بصفتها تجلياً للتخلي عن الذات ولنقدها في الوقت نفسه، وإذا كان الدين والفلسفة شكلين أكثر سمواً يفتل فيهما المطلق ويتصور، فإن الفن هو الشكل الحساس الذي يدرك فيه المطلق حدسيا، ومن ثم فإن البعد الحسّاس لوسيط فن من الفنون يشكل لهذا الأخير حدوداً داخلية يميل إلى تجاوزها في النهاية وهو يتجاوز طريقته الخاصة في تمثيل المطلق. فهناك "بعد للفن" (31). ومن هذا المنظور، يمكن لهيغل إذن أن يستشرف المثل الأعلى ـ الذي كان شيلر يقول إنه لايسع الفن الحديث إلاّ أن يطمح إليه دون أن يدركه ـ في دائرةِ تجاوز الفن ويمكنه أن يجد فيها فعليته بصفته فكرة. ولابد حينئذ من أن يدرج فن عصره في هذا المنظور؛ ومن ثم سيؤوَّل الفن الرومنسي بأنه مرحلة نحو انحلال الفن بما هو كذلك. هكذا تجد الخصومة الجمالية بين ا لقدامى والمحدثين حلاً لبقاً؛ فسواء أفهم بأن الرومنسية هي الانحلال الذاتي للفن في التأمل، أو بأنها قطيعة، بالتأمل، لشكل تمثيلي للمطلق لايزال مقيداً بالرمزيّ، فإن الرومنسية هي "كمال" الفن. هكذا يمكن الإجابة، منذ عهد هيغل، بازدواجية متعمدة على السؤال "هل لا يزال من الضروري تسمية إنتاجات من هذا النوع عملاً فنياً؟"(32) ـ وهو سؤال لا يني يُطرح بالسخرية نفسها، والواقع أن الفن الحديث منحط، ولكنه في ذلك بالضبط يتقدم نحو المعرفة المطلقة؛ وبذلك بالذات، يستمر الفن الكلاسي في أن تكون له قيمة نموذج، ولكنه ـ ربما في الوقت نفسه ـ نموذج متجاوز بحق:"لقد بلغ الفن الكلاسي ذروة ما يمكن للفن أن يأمل إنتاجه في مجال التمثيل الحساس"(33)؛ وحتى من أجل هذا، ينقص سذاجته التأمل في الحدود الملازمة للدائرة الفنية بما هي كذلك، وهي حدود تبرزها الميول الرومنسية إلى الانحلال بطريقة جلية. وسيتبنى هيغل النموذج نفسه ليبتعد أيضاً عن الدين المسيحي. والتوازنات بين الميول إلى الانحلال الملحوظة في المجال الفني والميول الملحوظة في المجال الديني توازيات دالة. لقد بلغ الدين باطنيته (interiorité) المطلقة في البروتستانتية، لتنقطع أخيراً عن العالم المدنَّس، في عصر الأنوار:"لم يعد قرننا يهتم بمعرفة أي شيء كان عن الله؛ بل على العكس من ذلك تعتبر الفكرة التي مفادها أن مثل هذه المعرفة قد تكون مستحيلة بالذات حدساً أسمى"(34). وكما في الفن، دخل التأمل الدين فجأة؛ فأخلى الإيمان الجوهري المكان إما للامبالاة وإما للحساسية التقية الزائفة. أما الفلسفة، فتنقذ مضمون الإيمان من هذا الإلحاد، فيما تدمّر الشكل الدينيّ. ذلك بأن الفلسفة ليس لها من مضمون آخر غير الدين؛ وبحصول ذلك، منذ أن حولت الفلسفة هذا المضمون إلى معرفة مفهوميةٍ، "فإنه لم [يعد] يجد مببره في الإيمان"(35). وإذا توقفنا ولاحظنا ترقي الفكرة، فقد يبدو، للوهلة الأولى، أن هيغل قد بلغ هدفه. فبما أن هيغل قد توصل إلى مفهوم للمطلق تغلب على كل الاستطلاقات لكيلا يستبقي إلا سيرورة الإرجاع الذاتي اللامتناهية ـ التي تدمج كل ما هو متناه في نفسها ـ بصفتها غير مشروطة، فإنه يستطيع تصور الحداثة انطلاقاً من المبدإ الذي يشكلها. وبذلك، تصير الفلسفة إذن قدرة على التوحيد التي تتغلب على كل الوضعيات القابلة للانبثاق من التأمل نفسه ـ وبالتالي التي تشفي الحداثة من أعراض انحطاطها. ومع ذلك، فإن هذا الإحساس الجميل بالنجاح إحساسٌ خدّاعٌ. ولابد من تبين أنه قارنّا ما كان هيغل يفكر فيه، في الأصل، عندما كان يؤكد فكرة دين الشعب، وما يتبقى بعد أن يتجاوز الدين الفن وتتجاوز الفلسفة الإيمان، فهمنا الاستسلام الذي يغرق فيه هيغل في نهاية فلسفته عن الدين. فالعقل الفلسفيّ، فعلاً، لايمكنه أن يرجو شيئاً أفضل من مصالحة جزئية ـ مجردة من تلك الكونيّة الظاهرة التي يفترض أن تعطي العقل للشعب وتعطي جسداً للفلاسفة. ومنذئذ يتبدى الشعب، أكثر من أي وقت مضى، وقد تخلّى عنه قساوسته الذين صاروا فلاسفة؛ ومن ثم يمكن القول إن "الفلسفة، من هذا المنظور، معبد بعيد عن الناس" وإن "خدامها يؤلفون إكليروساً منقطعاً، لا ينبغي له أن يختلط بالناس [...]. والعصر ـ الدنيويّ والاختباريّ ـ يستسلم لنفسه: فالطريقة التي يتخلص بها من تناقضاته، والطريقة التي يتطور بها، كل ذلك صار يخصه هو ولم يعد، على الصعيد العمليّ، من اختصاص الفلسفة مباشرة(36). وبما أن جدليّة العقل قد بلغت منتهاها، فقد استنفدت هذا ا لاندفاع الذي كانت، مع ذلك، قد نشَّطته في بادئ الأمر وكانت تنوي أن تمارس به نقداً لعصرها. وتلك نتيجة سلبية مازالت تشف بطريقة أوضح مع "تجاوز" المجتمع البرجوازيّ في الدولة. ظل الفكر الأوربيّ متمسكاً ـ عبر التقاليد الأرسطيّة، من العصر القديم حتى القرن التاسع عشر ـ بتصور للسياسة على أنها دائرة تشمل الدولة والمجتمع. وكان اقتصاد "الخلية اليتيّة الكبرى" (أي الاقتصاد المعيشيّ القائم على الإنتاج الفلاحيّ والصناعة التقليدية اللذين تتممهما السوق المحلية) يشكل، حسب هذا التصور، أسس نظام سياسيّ شامل، ومن ثم كان التراتب المجتمعي والمشاركة التفاضلية (بما في ذلك عدم المشاركة) في السلطة السياسية متفقين ـ فقد كان تنظيم السلطة السياسية يدمج المجتمع في مجموعه. ومن الجليّ أن هذه المفهومية (conceptualité) كانت غير ملائمة لمجتمعات (هي المجتمعات الحديثة) كان فيها الاقتصاد الرأسمالي ـ ترويج البضائع المنظم وفقاً للقانون الخاص ـ منفصلاً عن إدارة السلطة. وبما أن المجتمعي انفصل عن السياسي والمجتمع الاقتصادي غير المسيَّس انفصل عن الدولة المبقرط، فقد نشأ حول وسيطين هما قيمة التبادل والسلطة نسقان من العمل، متكاملان على الصعيد الوظيفيّ، ولكنهما متباينان بوضوح. وكان ذلك تطوراً لم تستطع النظرية السياسية الكلاسية أن تحيط به علماً؛ فانشقت هذه النظرية، بدءاً من نهاية القرن الثامن عشر، إلى نظرية في المجتمع مؤسسَّة على الاقتصاد السياسيّ من جهة، وإلى نظرية في الدولة مستوحاة من الحق الطبيعيّ الحديث من جهة أخرى. ويوجد هيغل في خُضُمَّه هذا المعطى العلميّ الجديد. فهو أول من شكَّل مفهومية تتلاءم، حتى في المصطلحات، مع المجتمع الحديث، وذلك بتمييزه خصوصاً الدائرة السياسية للدولة عن "المجتمع البرجوازي". ويدمج هيغل، في حقل النظرية المجتمعية إن صح التعبير، التعارض الخاص بنظرية الفن بين القدامى والمحدثين: في المجتمع البرجوازيّ، يشكل كل فرد هدف نفسه، أما الغير فليس بشيء. غير أن هذا الفرد ما كان ليبلغ هدفه كلّه، لولا علاقته بالغير، ومن ثمّ فالغير وسيلة لهدف خاص. وحينئذ يتخذ هذا الهدف الخاص، من خلال علاقته بالغير، شكل الكونية، ولن يكون راضياً إلاّ بقدر إرضائه للغير في الوقت نفسه(37). ويصور هيغل حركة السوق بأنه حقلٌ مكَّرسٌ للسعي الاستراتيجي وراء مصالح خاصة، "أنانية"، حقلٌ كانت الأخلاق المجتمعية | |
|