أن لا يكون المرء حرَّاً يعني أن لا يكون موجوداً، لأنه لكي يثبت المرء
وجوده، فلابدَّ أولاً من وجود الحريّة التي تمكِّنه من التفكير والتمحيص
والاختيار والإرادة والنقد والتعبير.. الخ، وهي عناصر إذا توافرت فإنها تدل
على الوجود، كونها قرينة الحركة، والحركة تعني الاستمرار والتقدم وعدم
البقاء على حال، وإذا لم تتوافر فإنها تدل على العدم، كون عدم توافرها
يشكِّل قريناً للسكون، والسكون يعني التوقف والتخلف والبقاء على حال واحدة
دون تغيير.
وقد تختلف النتيجة، فيصبح العدم وجوداً والوجود عدماً في نظر المرء،
إذا كان "النظام" السائد والقائد مساهماً في تحويل هذه النظرة إلى عادة
راسخة في اللاشعور الإنساني، تنقل من جيل إلى جيل بحكم العادة والعقلية
السجينة، وبالتالي فإن السكون وعدم الحركة وانعدام التغيير، تصبح عبارة عن
مفاهيم مقبولة اجتماعياً، ويصبح الخروج عنها أمراً مرفوضاً ومنبوذاً(
مثلاً: الخروج عن المنهج المتبع في الجامعة والمعتمد على ما يتم تلقينه من
قبل المدرِّس، يعتبر فشلاً في منظور الطلبة الجامعيين، رغم أنه قد يكون
خروجاً مبدعاً وخلاّقاً، لماذا؟ لأن القاعدة العامة المتبعة هي النقل
والتلقين والإتباع. وكذلك فإن سيطرة الحزب الواحد، ونقله من جيل إلى جيل،
مع إحكام السيطرة والتبريرات، يضفي عليه طابع الصواب والقبول الاجتماعي
التدريجي ورضوخه، وبالتالي يعتبر الخروج عنه تمرداً، بل قد يعتبر خيانة
ومؤامرة!).
ولعل الجهل بمعناه العام، الذي يشكِّل الغطاء الأهم بالنسبة لنظام
سياسي أو اقتصادي ما، للاحتماء به، هو من أكثر ما يساهم في شيوع قاعدة
الإتباع والرضوخ لخطاب معين دون غيره، إذ إنه كلما زادت درجة الجهل لدى
جماعة ما كلما تمكنت القوة المسيطرة من ضمان استمراريتها وتأمين مستقبلها
القائم على هذا الجهل، وهذا ما اتبعته أغلب الأنظمة العربية طيلة عقود من
الزمن، حيث شجعت على الجهل أكثر من تشجعها على المعرفة، ضاربةً التطور
العالمي عرض الحائط، وأفقرت المواطنين إلى أقصى درجات الفقر، وعاثت في
أراضيها الفساد بكافة أنواعه، وفتحت السبل أمام ثقافة الفوضى والغرائز،
ناقلةً بالإنسان من مستوى المفكِّر إلى مستوى الكائن الذي لا تهمه سوى
غرائزه وحاجاته الأولية اليومية، وكل ذلك كي لا يتعدى اهتمام المواطن نطاق
يومه، وكي يكون مجرد أداة فوضوية لا قيمة لها سوى في حالة دفاعها عن
ممارسات نظامها، وفي هذه الحالة أيضاً تكون القيمة وهمية لا أكثر.
إن الحريّة التي هي الهويّة الوجودية الأساسية للإنسان تخضع لطابع
التحريف عن المسار الطبيعي، إذا تم ترويضها على نمط معين من التفكير،
وتكاتفت المؤسسات بكافة ألوانها( سياسية- دينية- ثقافية- اجتماعية-
اقتصادية.. الخ) بإرادتها أو رغماً عنها، على جعلها تسير في اتجاه واحد بما
يخدم العقلية المسيطرة والواقفة وراء هذا الاتجاه الذي يمكن أن نسميّه"
الخطأ المحتذى به اجتماعياً"، إذ إن استمرارية هذا الاتجاه وسيرانه ونقله
عبر وسائل تضليلية وتبريرية وتغذيته بأطروحات كاذبة متتالية( مع التركيز
على عدم شيوع الوعي)، تجعل من المرء يفقد المعنى الجوهري للحرية، وبالتالي
يفقد قيمتها، ولا يبقى أمامه سوى الخضوع لمقولات هذا الاتجاه الأحادي،
مدافعاً عنه باستماتة، معتقداً أنه يشكِّل مرآةً لحريته الحقيقية، لكن في
الواقع يكون قد فقد الحرية من دون أن يعلم، ويكون قد تحول من الوجود إلى
العدم.
وهذا ما أرادته الأنظمة العربية طيلة عقود: أن يتوهم المواطن بأنه حرٌّ
، من خلال طمس ملامح شخصيته المفكِّرة شيئاً فشيئاً، وترويضها على تلقي
وقبول فكرة صوابية ممارساتها (أي الأنظمة)، وإخفاء أسرارها التي تتم وراء
الكواليس تحت مسوغات ومبررات عديدة يندرج أغلبها تحت أغطية وطنية وقومية
زائفة، خصوصاً أنه بحكم طبيعة العالم العربي التاريخية والدينية والقبلية
لجأت هذه الأنظمة إلى توظيف معظم أصحاب الشأن في هذه الطبيعة، عبر الرشوة
المنصبية أو المالية، ليقوموا بتأكيد صوابية ما تقوم به الأنظمة، فحلَّل
الشيخ ما هو حرام، وحرَّم ما هو حلال مقابل عباءة فاخرة مثلاً، ومدح شيخ
القبيلة نظاماً ما بصورة متواصلة أمام أتباعه.. وهكذا، وفي النتيجة تكون
الضحية هي المواطن التابع، الذي إذا ما تأثر بنداءات السلطة وتضليلاتها،
فلابدّ أن يتأثر برأي أحد الشيخين، فهو يعيش داخل ثالوث، والتحرر منه ليس
بالأمر السهل: ممارسات السلطة وتضليلاتها، ورجال الدين المنحرفون عن خطه
الإنساني والمتكاتفون مع رجال السلطة، ومن ثم رجال القبائل.
ولذلك فليس من المستبعد أن نجد الكثير من المواطنين في الدول العربية
يستميتون في الدفاع عن ممارسات الأنظمة، واعتبار النداء بالحرية تمرداً
ومؤامرةً تستحق المحرقة أمام أنظار دول العالم، وهؤلاء لا ينادون بذلك
لأنهم مستفيدون بالضرورة من هذه الأنظمة، بل لأنهم من صياغاتها التضليلية
"كعقول" لا تجد في الحرية سوى التصفيق لخطاباتها، ولذلك يمكن اعتبار هؤلاء
"بالمعدومين" كونهم لا يملكون حرية الاختيار والنقد والإرادة، ويظنون أنهم
يمتلكونها، وبالتالي لا يقبلون فكرة الحركة والتغيير، ويعتبرونها جريمة لا
تغتفر.
من مجمل هذا القول يمكن أن ندرج -في النهاية- (بعض) أنماط العقول
المريضة، التي حرصت بعض الأنظمة العربية على خلقها وتنميتها وقيادتها كي
تكون قادرة على الاستمرار ، والتي لا يمكن أن تتقبل فكرة الحرية والتغيير:
· العقل النقلي: عقل معطل، لا يجيد التفكير النقدي، بل يردد ما تطلقه
السلطة من خطابات دون نقاش، ويقوم على تمرير الأفكار وتبريرها والدفاع عنها
إلى أقصى درجات الدفاع، وهو عقل تابع ويستمتع بتبعيته، وقد يموت في الدفاع
عن هذه التبعية.
· العقل السلطوي التسلطي: لا أهداف سامية إنسانية لديه، ويتركز جل
اهتمامه على ممارسة السلطة بشقها التسلطي، والوصول إلى مناصب معينة تحت
لواء السلطة المسيطرة، وهو عقل مريض تحتاج إزالته إلى إزالة الأرضية التي
ساهمت في إيجاد مسببات وجوده.
· العقل الغرائزي: عقل حيواني بدائي، يتمحور حول الغرائز الأساسية،
كالبطن والجنس، يقوم على الاستغلال، ولا يجد في المجتمع سوى أرقام غرائزية،
ولا يفهم من الحرية سوى طرق الوصول إلى إشباع هذه الغرائز.
· العقل "الفسادي": يعيش على فضلات الفساد السياسي والاقتصادي
والاجتماعي والثقافي، ويجد في هذا الفساد طريقاً لتحقيق مطامعه، وبالتالي
فهو يشجع عليه ولا يحاربه.
· العقل المستكين: عقل فقد خاصية التقدم، نتيجة التراكم، يرضى بما هو
عليه، ويقبل فكرة التخلف كنوع من الاستقرار والأمان، ويجد في المطالبة
بالحرية اعتداءً على هذا الاستقرار.
· العقل الإجرامي: العنف هو الذي يحدد مساره، يغلب عليه طابع السادية في
التعامل، ويرى المجتمع مجرد ساحة للقتال والفتك، وبالتالي فإنه كلما كان
النظام عنيفاً وفتّاكاً كلما شعر برضا داخلي.
· العقل الحائر: لا" مع" ولا" ضد"، مادة خام، يصنع منها النظام ما يشاء، قد يتحول بأي لحظة إلى قاتل.