أفرز
الانترنت مثل أية تقنية جديدة مجموعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية،
تحولت الظواهر إلي جزء طبيعي من الحياة ففي المجال الثقافي أصبح هناك ما
يعرف باسم الرواية الرقمية والنشر الإلكتروني وبالطبع المدونات التي بدأت
كتقنية نشر جديدة أفرزت عددا كبيرا من الكتابات يري البعض أنها تحمل قيمة
فنية جديدة يمكن إضافتها إلي مسيرة الأدب العربي: ومن هنا فقد برزت مجموعة
من الأسئلة حول هذه الكتابة علي رأسها سؤال النوع، بمعني هل يمكن اعتبار
المدونات نوعا أدبيا جديدا؟
الناقد عزازي علي عزازي يري أن الإجابة هي نعم، فالكتابات ذات الطابع
الحكائي علي المدونات هي في رأيه تطوير لفن القصة القصيرة التقليدي تحمل في
داخلها مجموعة من الخصائص والميزات التي تجعلها مختلفة عن فنون السرد
القديمة. ويوضح عزازي وجهة نظره قائلا: أنه إذا كان النقد الحداثي يتحدث عن
تداخل الأنواع وجمع القصة والرواية وأحيانا المسرح تحت مسمي السرد،
فالأولي بنا أن نعتبر هذه الكتابة فن جديد يتجاوز أزمة التلقي وأزمة النوع
الأدبي، هذا الفن السردي الجديد يتسم بقوانين جمالية خاصة به منها امتزاج
العامية بالفصحي في بنية السرد ذاته لا الحوار فقط، كما أنها تعتمد غالبا
علي المفارقة الساخرة في الحكي، بالإضافة إلي ابتعاد هذه الكتابة عن
الاكليشيهات التقليدية ويتجسد ذلك في الاستعانة بخبرات السابقين ومزجها
بخبرات المؤلف المدون الحياتية حيث يمتزج الواقعي بالإنساني بالسياسي
بالقدر الذي يمثل مشاركة حميمة بالهم العام بعد انقطاع طويل بين الأدب
والسياسة، كما أن معظم الكتابات علي المدونات ذات طابع هجومي رافض ليس فقط
للقوانين القديمة للقص وإنما أيضا للمسلمات السياسية والاجتماعية وهو ما
يبشر في نظره بانتهاء فترة المثقف المتواطئ مع الظرف الاجتماعي والسياسي
وبداية زمن المثقف الطامح للتغير ولو بقوة السرد.
يضيف عزازي أن المدونات تحتاج في هذه الفترة إلي نظرة فاحصة ومتواضعة من
النقاد، وإذا كان أكبر ديوان شعري يوزع حاليا 300 نسخة فإن بعض التدوينات
يصل عدد قرائها إلي 20 ألف قارئ وهو ما يعني أن هناك قراء متابعين لهذا
النوع الجديد من الكتابة وعلي النقاد أن يخضوعه للدراسة والتحليل: أما عن
الآراء التي تصف مثل هذه الكتابات بأنها كتابة وقتية ستأخذ فترتها وتنتهي
لتضيع في ذلك المستودع الضخم لملايين النصوص الذي يدعي الانترنت فعزازي يري
أن دور النقد التطبيقي هو إخراج هذه النصوص من ذلك المستودع وتسليط الضوء
عليها وإدخالها في دائرة النقد والتحليل. لكن سيد الوكيل يختلف مع الرأي
السابق حيث يري أن الخطاب الثقافي علي الانترنت متحرر ولا يراهن علي
الاتساق أو التداخل مع الخطابات الثقافية الأخري بقدر ما يراهن علي
مخالفتها، لذلك فهو يري أن اعتبار المدونات نوعا أدبيا جديدا هو ضد تجربة
التدوين لأن فكرة النوع تنتمي إلي عصر الكليات التي انتجتها الحداثة
الغربية، في حين يسعي الخطاب المعرفي ما بعد الحداثي علي الانترنت إلي
تفكيك هذه الكليات القديمة والتمرد عليها. ويصف الوكيل محاولة سجن الظواهر
الثقافية والفنية الجديدة في أنواع وتصنيفات هو نوع من الكسل الذهني في فهم
الأمور المركبة والمتعددة، وهو نفس ما حدث في نظرتنا إلي السرد الأدبي حيث
قسمناه إلي أنواع وأعلينا من شأن نوع في مقابل نوع آخر.
يسجل الوكيل أيضا ملحوظة حول الكتابات ذات الطابع الحكائي علي المدونات
حيث يري أن القصة القصيرة التي أهملناها علي الورق ظهرت علي المدونات بشكل
جديد تماما.. بسبب أن القصة ولدت ولديها نزوع ورغبة في التحرر من سيطرة
الأنواع الأخري.
يرفض الناقد الشاب ياسر علام الآراء القائلة بأن المدونات كتابة وقتية
أو أنها مجرد نوع قديم يستفيد من تقنيات النشر في العصر الحديث، ويري أن
هذه الآراء تعبر عن مزاج كلاسيكي يري أن ما يكتب قد كتب وهو رأي ليس له أي
علاقة بعالم الانترنت فليس من الممكن أن توجد تقنية جديدة من غير أن تولد
لغة وفن جديد، بالطبع سيستعير هذا الفن من الفنون القديمة لأنه لا يوجد فن
ينشأ من الفراغ لكنه أيضا سيحمل سماته الخاصة التي تميزه عن هذه الفنون.
يستعير علام في مداخلته جملة لوكتشيه أن الرواية هي ملحمة البرجوازية
فمثلما عبرت البرجوازية عن نفسها سياسيا في الثورة الفرنسية وثقافيا في
نشوء فن الرواية وازدهاره، فالتدوين كفن هو خطاب ثقافي جديد نتاج لما يسميه
علام بثورة الديجتال أو الثورة الرقمية، ولديه مميزاته الخاصة علي رأسها
أنه لا يرتبط بفكرة الحصانة، فالمدون ليس مدرسا يلقي المعلومات بل أشبه
بالفنان الذي يطرح ما لديه علي متلقيه بصيغة غير متعالية فالمدون هو فنان
الحضور الحيوي الذي يتلقي الرد المباشر علي ما يقدمه. أما من حيث اللغة
فتتميز المدونات بلغة جديدة لا تعتمد علي متانة الأسلوب الذي يميز الكتابة
الكلاسيكية بل هي لغة متلعثمة خشنة ذات جمل مكسورة،و ليس ذلك لأن المدونين
لا يعرفون قواعد الكتابة بل لأن هذا هو نسق الكتابة في المدونات.
أما المدون عمرو غربية صاحب مدونة حوليات صاحب الأشجار التي تعتبر من
أقدم المدونات العربية، فالمدونات من وجهة نظره لا يمكن اعتبارها نوعا
أدبيا جديدا لأن المدونة مجرد تقنية للنشر مثلها مثل المطبعة، فالمطبعة
يمكن استخدامها في نشر كتاب أو مجلة لكن هذا لا يعني أن المطبعة نوع أدبي
جديد. المدونات في رأي عمرو سهلت عملية النشر مما سمح لعشرات الأصوات
الجديدة بالظهور كما سمحت أيضا باستخدام تقنيات الويب في النشر، حيث من
الممكن وضع روابط لنصوص أو مواضيع أخري مما قد يؤثر علي عملية القراءة حيث
لم تعد القراءة تتم بشكل تسلسلي بل في شكل عقد مربوطة ببعضها البعض حيث يتم
القفز من نص إلي نص آخر.
تسهيل عملية النشر ربما يكون أكبر المميزات التي منحتها المدونات
للمستخدمين، مثلما منحتهم أيضا كما يوضح المدون والشاعر محمود عزت القدرة
علي التحرر من عقدة الشكل أو النوع، فالبعض لا يتحمل أن يكتب متبعا قواعد
القصة القصيرة أو أي نوع أدبي آخر، لكن في التدوين ليست هناك قواعد أو
قوانين نقدية يجب الحفاظ عليها، فهناك تمازج بين كل الأنواع والتقنيات
الفنية منحت المدونات سماتها الخاصة.. فهي ذاتية وحرة ووجودها علي الانترنت
هو ما يمنحها الحياة فإذا نقلت ما يكتب علي المدونات إلي صفحات الكتب سوف
تفقد قيمتها الفنية.
يرفض محمود أيضا الآراء التي تراهن علي زوال هذا الفن مع الوقت،ولا يري
أهمية لأن تكون كل الفنون خالدة فمسرح الشارع علي سبيل المثال فن مهم جدا
ومرتبط بلحظة زمنية محددة ليست خالدة لكن مع ذلك لا يمكن اعتبار تلك النقطة
عيبا في مسرح الشارع ونفس الأمر مع المدونات التي لو حاولنا تحليلها سوف
نخرج أحيانا بقيم فنية أكثر من تلك النصوص التي تحتويها صفحات بعض الكتب
وقريبا سيصبح الانترنت هو الحياة.