هيلدا الحياري، كائنات الأساطير ولوحات الحلم والدهشة
نعيم عبد مهلهل
(العراق)
في قسم أول من رؤى التعلق بخلق بدائي لذاكرة امرأة رسامة كتبنا عن خصوبة
الذاكرة وتشعباتها عند الفنانة الأردنية هيلدا الحياري . وقد أقمنا علاقة
النشوء بين الرائي واللوحة في قاعة أوتيل حيث وفر لي موقع û جهة شعر
التعرف علي فنانة تنسج من غرائبية الشكل وتكويراته حسياً درامياً في حكاية .
وفي ذات القاعة وعلي الشاشة مباشرة حيث بدأ الخريف في عمان يلوح ببدء بهجة
المعاطف وهطول المطر نسجنا بعضاً من إسقاطات ثوب الإيحاء وحسية في عالم
هيلدا وقد تمثل في عملها المشكل بثنائيات تنشطر ككريات من بلور في فضاء
الكوكب الماسي الذي تفكر û ناسا بالوصول أليه وإغلاق مناجم الأحجار
الكريمة التي لم تعد الحاجة أليها ملزمة مادامت تلك المكعبات والدوائر
والكائنات الأسطوانية توفر دخلاً جيداً لروح وفن وذائقة العالم في عصر
مايكروسوفت والسطوح الليزرية ومعدات الدفع الانعكاسي ولهذا تخلق رائيات
الشكل مساحات جيدة لتخيل حلم ما في دوائر ومكعبات ومحدودبات هي أصلاً شكلاً
مألوفاً من الكائنات السابحة في فضاءات التخيل . أنها تشتغل علي حسية
عقلانية شفافة وتحاول أن تعير العالم شيئاً من ذاكرة تخيل متميزة في رغبة
من ريشتها بوضع سارية لراية منظورة تطل من خلالها رغبتنا في صنع متخيل يليق
بطاقتنا الذهنية وتستوعب مساحات الحلم في حواسنا التائهة في عولمة الآلة
والانقلابات والتطرف . لهذا يأتي العمل الفني من الفنانة هيلدا الحياري
ليوقد فينا رغبة لإمساك شئ أو تخيل حياة عامة الشعب في المدينة المفترضة
وجميعهم حملوا الشكل المتخيل كما يتصوره رجل أو امرأة شاردة الذهن في
العيادة النفسية لكولن ولسن في لندن أو تحت المجهر الاسقاطي لبافلوف غير أم
مكورات الحيارية تطاق غموضها برغبات ساحرة كثيرة ومعاني من معاني تصوف
اللوحة لإثبات أنها تستطيع الطيران في كونية ذاكرة المشاهد زائراً كان أم
ناقداً فنياً وعلية فأن البدء بقراءة وعي الفن لهذه الأردنية الحالمة
بمتخيل التراث والبيئة وشجن الحداثة الفلكلورية يعطينا محطات لمساحة اشتغال
الذهن وإبداعية التطور التقني والجمالي في أربع مراحل يربطها حس ووعي
متوحد مع الإحساس الخاص الذي يميز شكلها ومدرستها وطريقة عرضها لأفكار
ماتحلم به لتكون لوحة علي جدار أو قصيدة في الذاكرة .في بداياتها أشغلت
اللوحة لدي هيلدا مواددة الرغبة في الإبقاء علي بدءها الطفولي ، وانتظمت
دالية التفكير بتشكيلات جريئة وعكست بداية الولع بالمتخيل الغير مرئي والذي
يمكن أن نتصوره بأي شكل تعتقد فيه أننا نقلنا خيال ذلك المتخيل وطريقة
أدائه الكوني فبدت أكثر أشياءها محصورة في فضاء الذهن الذي هو اللوحة التي
لايفصح فيها شئ من بساطة بل بدت في ظاهرها كوناً شديد التعقيد وهي في نظر
العالم النفساني شيئاً من يوتيبيات مفترضة وأحلام تقيس مدي تواصلها بعالمنا
من خلال تخيلات مرئية للأكوان عائمة في مساحة الذهن والعاطفة لمشاهد
اللوحة ومبدعها . فهي تذكر ما يقابل شعوري اتجاه ما أتخيله في اللوحة عندما
تقول أنها ترسم عالماً يدور حولها وتتصوره بقصدية غير مفتعلة لهذا رغم
صعوبة بناء التكوين وغرائبية شكلية إلا أن ثمة روح من فطرية غريبة تصنعها
أشجانها وفق المتغيرات الحاصلة في الفكرة ومعانيها وأن سباحة الأشكال داخل
اللوحة تتحدث عن حكائية ذاتية لمرجعيات كونية تريد من خلالها الحياري فهم
مايحدث في هذا العالم .هذه الرسامة الجميلة تحاول في بدءها الطفولي أن تشعر
الآخرون بأن الأداء الأنثوي لعاطفتها يمر من خلال ريشة الشعر لهذا يشم
الرائي عطر قصيدة لمرأة تريد أن تمنحنا في مثل تلك المخيلات أبدية عالمها
الخاص والذي تحاوره في بدائية وطوطمية لاتفتعل الرغبة بالظهور أنما عالمها
جاء بانسيابية الشعر ونمو روحه العظيمة بين معاطف اللون والحكايات
الميثولوجية للمكورات الناتئة وتلك التي تشبه أقنعة كائنات آتية من كوكب
أورانوس . ففي كل لوحة ثمة أورانوس يدور بمحيط ذاكرة امرأة تريد صناعة
تكوينات الحدث بعاطفة من موسيقي اللون . وهي في تلاوين عام 2000 ومنجزه
توقظ في داخلها أحساساً بشيئية الرومانس الطافح في مخيلة الآخر الذي يعيش
فينا داخل البيت ، الدائرة ، الحقل ، المصنع ومقهى الكوفي شوب ، وهي تمتهن
هذا الحس بأداء مبكر ناضج يطلق عليه فرويد : الإحساس الكبير والمخزون عمداً
ثم يتفجر فينا كطاقة كامنة .ولكي ننتبه جيداً الى مخيلة اللوحة فنري ماهو
الأهم . أن لوحات هيلدا مليئة بزقزقات العصافير ومناقيرها ، وعليه : أن
الرائية الكشفية والنفسية لهذا الفعل ينطبق عليه الفهم السايكولوجي التالي :
أنها تحب الصباحات والشجر والطلوع الشمس ، لكنها لاترى كل هذا كما نراه
نحن . وعلي حد تعبير يونج : علينا أن نلبس الأشياء التي نراها في الطبيعة
أثواباً أخري كي تصبح أكثر جمالاً وسطوعاً وكي تعيدنا الى ذكرياتنا
المفقودة . وهذا ما ترتئيه الفنانة هيلدا الحياري . فهي تصنع من رؤوس
العصافير ذاكرة لمخيلة مشاهد اللوحة ومتأملها ولكي لايتيه في تفسيرات أخري
نراه يصنع تفسيرات ترتبط بذهن العصفور . وهذا العصفور يقودنا الى روح
القصيدة .لقد كان عام 2000 بالنسبة لهيلدا عام الانفتاح علي الرؤى ورغبة
الإمساك بها من خلال أخيلة الرسم . ولكي نطبق حسية النقد إزاء مايمكن أن
يوحي لنا فأنها لحظة افتتاح نافذة شجنها الى الجمهور نتطلع الى واحدة من
اللوحات التي مزقتها زرقة قاتمة وتشكيلات تدل علي رغبة ببعثرة الأشياء علي
مساحة اللوحة ثم نجمعها في ذهنية المشاهد ماذا سيري ؟
مزن مشكلة بدوائر مرتبكة ، تقف وتسير في لحظة واحدة ، حياة بديمومات
لاتنتهي يشقها بياض مدور يكشف عن رغبة النقاء ليكون موجود حتي في زحمة
الكون الذي هو أصلاً حاصل من تفاعلات طفولة أنثي تربت في بيت كان الوعي فيه
يمثل خلطاً للكثير من الحضارات المتمدنة من هاجس الفينيق وحتى خيمياء جابر
بن حيان الكوفي وقد وظفت هيلدا هذا الموروث التربوي من مناخات حنان طفولة
كانت تنتبه الى العالم بذات الحس الذي بدأت فيها خربشاتها الأولي والتي
طورتها الى مايطلق عليه كاندنسكي : المكعبات التي تتحول في أي لحظة الى
الشكل الذي يلائم حياتنا ويدفعنا الى مزيد من صناعة الحلم بأشكاله الغريبة
ولكنه حتماً سيكون رغم غرابته حلمنا الحقيقي .
مابين
رؤى كاندنسكي ومبعثرات هيلدا الحياري يتجمع الشعر البدائي بشكله الفطري
ليصنع في ذاكرة المتحسس شيئاً من جديد الفهم المعاكس لوجود امرأة أرادت أن
تتعامل مع نظرتها الى العالم بهكذا تصور أن نجعل الأشياء توهمنا بأننا
نحصرها في ركن ما ونتطلع إليها وهي تعاني من فوضي وجودها الحضاري ولكنها في
المقابل تحاول جعل هذه الأشكال تعيش في بيت واحد وبيئة واحدة هي اللوحة
وبمقدور أي متأمل لأعمال 2000 لهذه الرائية أن يكتشف قيمة ماتؤدية
التعاملات الروحية مع المضمون والشكل من خلال الإمعان في التكوينات
الدائرية التي مثلت في أغلبها بياضاً ناصعاً وسط هلوسة اللون وعاطفته
المبعثرة بين هموم تلك الأشياء وخصوصيتها .الأعوام التي تلت عام البدء .
الذي أرتنا فيه الفنانة شجنها الحقيقي يتطور الأداء الفني مع تطور الحس
وتغير فلسفة التعامل مع الحياة وفق المتغير الذي يطور شيئاً من ثقافتها
وثقافة بلدها مع دخول الكثير من تقنيات التعامل الحضاري ولهذا تبدأ جديتها
في جعل الصورة ميالة الى تشابك أكثر وبدأت الأشياء أقل حجماً وتكويراتها
تميل الى التراصف كمنمنمات صوفية غادرت عصرها المغولي وصفتها الواسطية
واستجارت بفوضى القرن الحادي والعشرين لتصنع حساً هائماً في ضبابية مانتعرض
له .هذا ما استطعت أن أجده في جواب لهيلدا الحياري في سؤالي لها : عن
تأثير السير الحضاري على تفكيرها اليومي عندما تريد ان تتعامل مع اللوحة؟
أنها تريد أن تذهب بالحياة الى الأمام ، لهذا فأشياءها لاتنتظم وفق تصور
وثقافة معينة أو تقف أمام الزائر كأي شجرة من طبيعة أو حياة جامدة عبارة
عن سكين قرب صحن مليء بالفواكه ، الأمر غير ذلك هو خاضع لمعايير ثقافة
المكان والتأسي من كل مايحدث علي نطاق تعامل الحضارة مع مكوناتها .
والحقيقة أنك في لوحات 2000 لتري وضوح لقصد في تلك المجسمات البالغة الصغر ،
ولكنك تكتشف في الإمعان لها ، أن ثمة جهداً هائلاّ مبذولاً في تصنيف
اشتغال كل مجسم ، وحتى لو استخدمت مكبراً ستري ان روح الأنثى القلقة موجود
في كل حركة يتجه بها هذا الجسم الصغير الى الجسد الذي يقابله .أذن الحياري
في دقة صناعة الشكل تريد أن تصنع موضوعة وتريد أن تبني كياناً روحياً
لعزلتها الفنية التي تريد من خلاله أن تصنع ظواهر معمارية وتفكير ثقافي لحس
المدينة كما فعلت هي ذلك في جدارية سابقة لمدينة عمان وعدت ضمن فعاليات
العاصمة الثقافية المتميزة إذ بدا الجانب المهني في حماس هذه الرائية
الأنثى يتصاعد مع طموحها لتقديم شيئاً متميزاً للمدينة التي تحبها وتعتقد
أن موروثاتها الحسية المبنية علي اللوحة تمثل بعض شغفها ووعيها وربما
تعتبرها جزءاً جوهرياً من ميثولوجيتها الخاصة .يتطور الشعر عند هيلدا بتطور
اللون . وإذا قلنا أن الشعر لايتطور بل يذهب الى الأمام دائماً ويتغير
بشكله وأسلوبه فأن شاعرية هذه الرائية تذهب الى الأمام مع كل أحساس جديد
بصناعة لوحة .فمن قراءة أحساس الرسائل وتأملي للذات التي شكلت تلك المرئيات
داخل اللوحة استطعت أن اكتشف بقايا لرماد قصيدة محترقة فهي تولف شكلاً
لشعور بالرغبة في خلق مغايرة ما لاكتشاف عالم لا يتسطح فيه الجمال ويصبح
نقلاً حرفياً للموجود أو حتي سريالية مبهمة من أشكال تعبر عن نفسها بطريقة
إيهامية ، فهنا روح الشعر تلبس ثوب حداثة فكرة الوصول الى رغبة بجعل العالم
محصوراً في إطاره الجديد العالم الذي مسخت فيه أشياء كثيرة وبدت فيه
المدنية تبتعد عن كلاسيكيات العصور الرومانسية لتصنع وهج رائية جديدة تمر
عبر ثقافة العولمة والاحتلالات وغزو مايكروسوفت ، إزاء كل هذا تطورت لوحة
هيلدا الحياري وبنت نبؤات طواطمها على متغيرات ومتغيرات ولكن بشئ من حس
شاعرة وجمالية من تكوين الشكل وروحه المعبرة عن قدرة الفن ليكون رسالة
للتغير والحداثة .يقول حكمة الصيني . ريشة الشاعر والرسام واحدة فكليهما
يحلقان علي جناحي نجمة خضراء.لا أدري لماذا أختار الصينيون النجمة الخضراء.
ربما هو تعبير لجعل العلاقة جدلية بين النجمة والأرض غير تلك العلاقة التي
ترتبط بما يبثه النجم من ضوء وإيحاء ورمزية لجمال ما. أفتش عن الأخضر في
لوحات الحياري ، فلا أراه إلا نادراً وهو يتشكل علي خلفية مربع سحري ينأي
في جانب ما من اللوحة فأعتقده ذلك النجم الذي تحدث عنه الصينيون فهو في
حسية اللوحة يشكل تعبيراً عن خضوع رغبة الشعر في جعل هذا اللون ملتصقاً
بموروثه العلوي أو المتصوف ، ولأن جميع اولياءنا شاراتهم خضر وأي كانت
مذهبية الفنانة وعقيدتها فأن الخضر رمز بإيحائه الى تلك النقطة المعبرة عن
تداخلات حضارية ترتبط بها الموروث سوي أن قصدته هي أو لم تقصدته . معتمدين
علي ملاحظات رينوار إزاء سيدة بكت أمام أحدي لوحاته التي هي تعبر عن فرح في
حفل راقص : أنك ياسيدتي وأقسم بيسوع ، لقد فهمتي اللوحة جيداً .هذا الأخضر
الشحيح والأزرق المتوفر والألوان الباذخة في سطوعها وانشغالاتها الحركية
في ديالكتيك الفضاء الكوني لشاعرة امرأة فنانة أختفي كثيراً عن آخر منجز
فني لهيلدا الحياري وهي اللوحات المنجزة في عام 2004 .فتأمل اللوحة التي
قلة فيها تلك التكوينات الفضائية المزدحمة برغبات الاكتشاف وبروز المساحات
المفتوحة عدا حفر معتمة ودوائر تشبه تلك التي وجدها رواد أبلو 9 حين هبطت
علي سطح القمر لأول مرة والتي نراها أيضاً في صور الأقمار الاصطناعية
المرسلة من العربة أكزموس وتظهر تلك الصور علي شكل فوهات بركانية وهو ما
نقلته بحرفيته داخل لوحاتها مع عتمة وغموض عجيب في الرؤية والفكرة وكأن
مزاج الفنانة تبدل . وهذا أيضاً في قياسات السايكلوجي يمكن إرجاعه الى
المتغيرات التي تسود العالم والتي كبرت بعد أحداث سبتمبر آخذين بنظر
الاعتبار ثقافة هيلدا الأكاديمية السياسية وعرفيتها الجامعية لطبيعة علاقة
الحدث السياسي الكبير بالمتغيرات الحياتية اجتماعيا وثقافياً مع طبيعة
البشر وتوجهاتهم العامة علي مستوي العمل والأسرة والإبداع . لهذا فأن رؤية
متمعنة الى ما أنجزته الفنانة في هذا العام يكشف تطوراً فكرياً وغموضاً
محسوساً بالمتخيل الذي يوعز الى ثقافاتنا باختيار نمط تعبير آخر كما عند
الشاعر والقاص والمحلل السياسي وما يسري علي الجميع يسري علي الرسام
والموسيقي والمسرحي .لهذا فأن منجز هليدا الجديد هو منجز المحنة والحيرة
والذهول إزاء هذا العنف الذي بدا شاحباً إزاء هيمنة الكتلة الرمادية
المصنوعة بتأثيرات الغروب الداكنة حتي عندما يطغي الأزرق علي بعض اللوحات
فأن الفجوة الكونية باقية داخل اللوحة بشكلها المصور كما في خرائط الفضاء
والفلك وهو تعبير عن تحدي لضياع ما قد يشمل السيادة والقيم والتراث وكما
يحدث لبلدان كثيرة من بلدان العالم الثالث . يبقي فن هذه المرأة فناً
أصيلاً ، واحترافية العمل متقنة بشكل يرتبط بين الحرفية العالية والذوق
والإحساس المبدع . وأعتقد أنني مولع برائيات هذه الأنثى وهي تمنحني الكثير
من التأثيرات المدعومة برغبتي للبحث عن نقاوة لذات البشر وسط هذه الزحمة من
العبث الكوني الذي تصنعه الجيوش والحس الامبريالي ومنظري صراع الحضارات .
وهي باشتغالها المتقن لحرفية صناعة لوحة تضع حسها وأصابعها علي الطريق
الصحيح وتحاول أن تقيم شجناً مؤدلجاً بين حياتنا وما يحدث وما هذه
التكوينات المتجددة داخل اللوحة في هندسة عبثية إلا شكلا حقيقياً لتفكير
العالم وروحانيته الحديثة والتي تحاول هيلدا السيطرة عليها وجعلها كوناً
جمالياً معبراً وتخلق لأساطيرها آلهة جديدة غير تلك التي نعرفها في
ميثلوجيا الشرق وتلك لعمري رسالة واعية ورائعة