ليتني حجر - قصيدة الشاعر التونسي آدم فتحي
آدم فتحي
-
لَيْتَنِي حَجَرٌ يا ابْنَتِي لَيْتَنِي مِنْ حَجَرْ
كَيْ أرَى ما أرَى دُونَ أنْ أنْفَجِرْ
لَيْتَنِي كُنْتُ لَوْحًا مِنَ الزِّنْكِ أو خشَبًا أوْ رُخامًا
فلا أتوجَّعُ أو أتفجَّعُ أو أتصدَّعُ أو أتبَعْثَرُ أو أنْتَثِرْ
كُلَّمَا امْتَدَّ فِيَّ السُّؤالُ شُروخًا وأَقْبِيَةً وسِهَامًا
إلى أَيْنَ بَعْدُ، نِيامًا وماشِيَةً ونَعامًا؟
وماذَا فَعَلْتُمْ بِأَحْلامِكُمْ يا أبِي، مُنْذُ خَمْسِينَ عَامًا؟
وأَيَّ بِلادٍ تُرِيدُونَ أَنْ تُورِثُونَا، حَشِيشًا وبرْدعَةً ولِجَامًا؟
وماذا تُرَى تَفْعَلُونَ بِأَحْلاَمِنَا وَهْيَ تُولَدُ كَيْ تتَدَاعَى
وتَكْبُرُ كَيْ تَنْكَسِرْ
آهِ يا مَيُّ يا مَيُّ لَوْ تَغْفِرِينَ ولَوْ مَرَّةً لأَبِيكِ
خَصاصَةَ عِيشَتِهِ وهَشاشَةَ حِيلَتِهِ
وهْوَ أعزَلُ يحْرُسُ وَرْدَتَهُ في فَمِ الذِّئْبِ
لَوْ تَسْمَعِينَ لَهُ كَيْفَ يَطْوِي على خَفْقَةِ القَلْبِ أعْذارَهُ دُونَ أنْ يَعْتَذِرْ
كَيْفَ يَشْكُو ويَكْتُمُ شَكْوَاهُ كَيْ لا يُرَى شاكِيًا
كيْفَ يَبْكِي ويَضْحَكُ كيْ لاَ يُرَى باكيًا
كَيْفَ يَدْفنُ دَمْعَتَهُ في الذَّهابِ ويَدْفنُ شَمْعَتَهُ في الغِيابِ
ويَفْرشُ لَوْعتَهُ في طرِيقِكِ كَيْ لا تَعُوقَ خُطاكِ الحُفَرْ
آهِ كَمْ ضاعَ يا ابْنَتَهُ فِيهِ يَجْرِي ورَاءَ هَوَاءٍ جَدِيرٍ بِفَاكِهَةِ الرُّوحِ
مُنْشَغِلاً عن سماءٍ مُطّوقةٍ بالسُّفُوحِ
مُطِلاًّ على نفْسِهِ في بلادٍ تَليِقُ بما سَالَ مِنْ دَمِنَا
في عُرُوقِ الشَّجَرْ
ليْسَ فيها قراصِنَةٌ فَوْقَ ما يُسْتَطاعُ
ولا فُقَرَاءُ يُطِيعُونَ ما لا يُطاعُ
ولا أُمَرَاءُ يَبِيعُونَ مَا لاَ يُبَاعُ
ولا تتخَفَّى طَواحِينُها في ذِئابِ البَشَرْ
مائِلاً عنْ طَريقِ القوافِلِ مُلْتَحِفًا بأغانِيهِ في كُلِّ عاصِفةٍ
واقفًا في سفينَتِهِ يتحَصَّنُ ضِدَّ الشِّباكِ وضِدَّ الجِهاتِ
وضِدَّ الهَلاكِ وضِدَّ النَّجاةِ وضِدَّ دَوَاهٍ أُخَرْ
مُوحِشَ البَحْرِ مُسْتَوْحِشَ البَرِّ مُسْتَأْنِسًا بنَدَى قَلْبِهٍ ونِدَا شَعْبِهِ
مُصْغِيًا في سُكُونِ اللَّيالِي إلى خُطُواتِ السَّلُوقِيِّ مِنْ خَلْفِهِ
راجِيًا أن يَطُولَ السَّفَرْ
رَيْثَما يَتبَيّنُ ماذَا يُرِيدُ وعَنْ أيِّ سِرٍّ يُراوِدُ هذا المَدَى
ومتى يَتسَنَّى لَهُ أنْ يَعُودَ من البَحْرِ أو أَنْ يَعُودَ من الحِبْرِ
أو أَنْ يَعُودَ من الحَرْبِ في هَيْئَةِ المُنْتَصِرْ
هُوَ ذَا...أَكَلَتْهُ الدُّرُوبُ فلاَ هُوَ عادَ بِعُشْبَةِ جِلْجَامِشَ الأَبَدِيَّةِ
لا هُوَ لاَقَى عَرَائِسَ عُولِيسَ لا هُوَ شَيّدَ قَلْعَتَهُ عَاليًا
لا هُوَ ارْتَدَّ عَنْ حُلْمِهِ وانْكَسَرْ
لَكِ أَنْ تَحْمِلِي المِشْعَلَ الآنَ يا مَيُّ. فَلْتَحْملِيهِ
دَمِيتُ ولكنّني سأظلُّ على عَهْدِنَا مَا حَيِيتُ
يَدِي في يَدَيْكِ وكَفِّي على الجَمْرِ كَيْ لا يَعَضَّ على قَدَمَيْكِ
وإنْ طالَ هذا السَّفَرْ
تَتَمَشَّيْنَ حذْوِي على حَذَرٍ مِثْلَ مَنْ يَتَمَشَّى على كِسَرٍ مِنْ شَذَى الرُّوحِ
شَعْرُكِ يُومِضُ في لُجّةِ الكَلِماتِ وأنْتِ تُعِيدِينَ تَرْتِيبَ فَوْضَى الحيَاةِ
وتَأْثِيثَ قَلْبِي بمُسْتَقْبَلٍ مُمْكِنٍ مُتَسَائِلَةً كَيْفَ تَنْمُو صِغَارُ النَّبَاتَاتِ
والدُّودُ كَيْفَ يَرَى دَرْبَهُ في المَسافاتِ والحاجِبُ المُتَقَوِّسُ في قُزَحٍ
هَلْ يَنَامُ وتَنْصُلُ ألْوانُهُ في المَطَرْ
والنُّجُومُ التي انْتَثَرَتْ في السَّماواتِ كالبَيْضِ أَيُّ الدَّجاجاتِ
تَحْنُو عليها لِتَفْقسَ أمْ أنَّها صَدَفُ الذِّكْرَياتِ
وحَلْوَى تَنَاثَرُ مِنْ عَرَباتِ السَّهَرْ
لنْ أَخِرَّ على الأرْضِ إِلاَّ لأَزْرَعَ فيها مَزِيدًا من الحُلْمِ لَمْ يَحْتَضِنْهُ الرَّبِيعُ
وحُرًّا كَمَا أسْتَطِيعُ، سَعِيدًا على قَدْرِ مَا أسْتَطيعُ
سَأَمْضِي إلى آخِرِ القَهْرِ، أمْضِي إلى آخِرِ الصَّبْرِ
أمْضِي إلى موْعدِي المُنْتَظَرْ
رغْمَ يَوْمٍ يَحِنُّ إلى أمْسِهِ لاَ إلى غَدِهِ، وغَدٍ يَتَعَمَّدُ إِخْلافَ مَوْعِدِهِ
صارِخًا في المَدَى حَيْثُ لا شَيْءَ يُرْضِي البَصِيرَة لا شَيْءَ يُرْضِي البَصَرْ
غَيْرَ شعْبٍ يمُوتُ ليَحْيَا، ويَكْتُبُ بِالدَّمِ فوْقَ عِبَارةِ يَحْيَا
إذَا الشَّعْبُ يَوْمًا أرادَ الحياة
ولم تُوقِظِ الرُّوحُ فِيهِ المَوَات
ولم يَنْفُضِ القَلْبُ عَنْهُ الحَجَرْ
فَهَيْهاتَ أَنْ يَسْتَجِيبَ القَدَرْ
لَيْتَنِي قَشَّةٌ يا ابْنَتِي لا تخافُ العَجَاجةَ
بل لَيْتَنِي مَوْجَةٌ لا تُبَالِي إِذَا هَزَّها بَحْرُ بنْزرْتَ أَيْنَ تَقُودُ الزُّجَاجَةَ
أو قَمْحَةٌ تَتَكَسَّلُ في شَمْسِ بَاجَةَ
أو حَنَشٌ في مَسَارِبِ نَفْزَاوَتِي يُوقِظُ العَنْزَ مِنْ نَوْمِهَا ويُثِيرُ الدَّجَاجَةَ
مُلْتَحِفًا بِشُعَاعِ القَمَرْ
لَيْتَنِي لِحْفَةٌ في رِيَاحِ المَرازِيقِ
أو سَعْفَةٌ تَحْتَ حِمْلِ العَلِيقِ
تُزَخْرِفُ رَمْلَ الجَرِيدِ ولا تَتَوَقَّفُ إِنْ نَسِيَتْ نَفْسَهَا في الطِّرِيقِ
لِتَسْأَلَ عَنْ حَجَرٍ أو بَشَرْ
لَيْتَنِي حَجَرٌ خَرَّ مِنْ بَيْنِ غَمْضِ الجُفُونِ على رَأْسِهِ
في الطَّرِيقِ إلى تَاءِ تَالَةَ أو بَاءِ بُوزِيدَ فاصْطَرَّ كالحلَزُونِ على نفْسِهِ
لا رِسَالةَ تَشْغَلُهُ لا بَرِيدَ ولاَ صَرَّ لا قَرَّ لاَ بَرْدَ لا حَرَّ لا صالِحِي لا مَطَرْ
لَيْتَنِي مَا وَرِثْتُ دَمَ المُتَنَبِّي ولا قَلْبَ دَرْوِيشَ
بَلْ لَيْتَنِي مَا عَبَثْتُ مَعَ المَوْتِ حتّى أَعِيشَ
إلى حِينِ أَصْرُخُ لَيْتَ الفَتَى حَجَرٌ لَيْتَنِي حَجَرٌ لَيْتَ رُوحِي وقَلْبِي وعَقْلِي حَجَرْ
لَيْتَنِي حَجَرٌ كَيْ أَرَى مَا أَرَى: الدَّمَ يُهْرَقُ والحُلْمَ يُزْهَقُ والصَّمْتَ يُطْبِقُ
مِنْ غَيْرِ أَنْ أَتَفَطَّرَ أو أَتَفَجَّرَ أو أَنْتَحِرْ
لَيْتَنِي حَجَرٌ، كيْ أَرُدَّ على كُلِّ هذا الرَّصَاصِ، وأَهْدِمَ سَقْفَ الرَّصَاصِ، وأَصْرُخَ في جَبَرُوتِ الرصَاصِ
ارْفَعِ اليَدَ عنْ دَمِنا، وارْفَعِ اليَدَ عن شَعْبِنَا، وارْفَعِ اليَدَ عنَّا، فقدْ نَفَدَ الصَبْرُ منْ صَبْرِنا وانْدَثَرْ
لَيْتَنِي حَجَرٌ...غَيْرَ أنِّي بَشَرْ
قَدَرِي أَنْ أَظَلَّ أدُقُّ على بَابِ حُلْمِي بلَحْمِي وعَظْمِي
إلى أنْ أمُوتَ على البابِ أو أَنْتَصِرْ