لقد جرت إعادة تشكيل اللحظات الأولى الانفجارية في تاريخ الكون من قبل علماء كسمولوجيا الجسيمات، الذين يهتمّون بدراسة ظروف ولادة الكون. |
ووفقا
لنظرية برانز-ديكي، تستجيب المادة لانحناء المكان والزمان، كما في نظرية
النسبية العامة المألوفة، وكذلك للتغيّرات في شدّة وقوة الثقالة الموضعية
(انظر الشكل العلوي من المؤطر في الصفحة 11). ينتشر الحقل Ф
في جميع أرجاء الفضاء، ويساعد سلوكه على تحديد كيفية حركة المادة عبر
المكان والزمان. لذا فإن أي قياس لكتلة جسم يتوقف على القيمة الموضعية
لها. وكانت هذه النظرية مقنعةً لدرجةٍ جعلت أعضاء مجموعة
(2)
[لدراسة الثقالة في معهد كاليفورنيا للتقانة] يتمازحون بقولهم إنهم
يعتقدون بصحة نظرية آينشتاين في النسبية العامة أيام الاثنين والأربعاء
والجمعة، في حين تنال نظرية برانز-ديكي في الثقالة رضاهم أيام الثلاثاء
والخميس والسبت (أمّا أيام الأحد فهم لا يستطيعون قول شيء.)
في
هذا الوقت، وضمن مجتمع فيزيائيّي الجسيمات الأكبر، بزغت مسألة الكتلة،
ولكن بصيغة مختلفة. فمنذ الخمسينات، وجد النظرّيون أنهم قادرون على تمثيل
آثار القوى النووية من خلال فرضهم صفوفا معيّنة من التناظرات على
المعادلات التي تحكم سلوك الجسيمات تحت الذريّة. لكن الحدود التي اعتادوا
على إدخالها في هذه المعادلات لتمثيل كتل الجسيمات، انتهكت هذه التناظرات
الخاصةَ. وبوجه خاص، خلّفت هذه المعضلة آثارا في سلوك البوزونات W و Z،
وهي الجسيمات المولدة للقوة النووية الضعيفة المسؤولة عن الاضمحلال
الإشعاعي. فلو كانت هذه الجسيماتُ الحاملة للقوة عديمةَ الكتلة فعلا، كما
تقتضي التناظرات على ما يبدو، لكان مدى القوى النووية غير منته. فعلى سبيل
المثال، لو كان الأمر هكذا لكان بمقدور پروتونين، واقعَين في طرفين
متقابلين من مجرة، أن يؤثّر كل منهما في الآخر بقوة نووية. ومثل هذا المدى
يخالف بشدة السلوكَ الملاحَظ للقوى النووية التي تذوي سريعا في مسافات
أكبر من أبعاد النوى الذرية. وفقط في الحالة التي يكون فيها للجسيمات
الحاملة للقوى كتلة، من الممكن الملاءمة بين المدى الذي تتنبّأ به
الحسابات النظرية وبين البيانات التجريبية التي توفرها الأرصاد.
لقد
ركّز كثيرٌ من الفيزيائيين على هذه الأحجية، محاولين صياغةَ نظريةٍ تمثّل
الخواصّ التناظرية للقوى تحت الذرية، وتتضمّن جسيماتٍ مُصْمتة(3). وفي عام 1961، لاحظ
[وكان حينذاك في جامعة كامبردج] أنه ليس من الضروري أن تتمتّع حلول
المعادلات بالتناظرات التي تتمتع بها المعادلات نفسها. وكمثالٍ توضيحي
بسيطٍ، أدخل <گولدستون> حقلا سُلّميا(4)، أطلق عليه عرضيا Ф، وتبلغ كثافة طاقته الكامنة،(V(Ф، نهايتها الحدّية الدنيا في نقطتين: يأخذ فيهما Ф القيمتين +v و -v
(انظر الشكل السفلي من المؤطر في الصفحة المقابلة). ولما كانت قيمةُ
الطاقة أصغرية في هاتين النقطتين، فإن الحقل سيستقرّ في نهاية الأمر في
إحداهما. إن الطاقةَ الكامنة هي نفسُها تماما لهاتين القيمتين للحقل، ولكن
بما أنه على الحقل أن يأخذ في نهاية الأمر إحدى هاتين القيمتين (+v أو -v)، فإن حلّ المعادلات ينتهك تلقائيا تناظراتها.
وفي عام 1964، أعاد [من جامعة إدنبره] دراسة عمل <گولدستون>، ليجد أن نظريةً تنتهك تلقائيا التناظر تسمح بوجود جسيمات كتلها مصمتة. وتنجم الكتلة عن التفاعلات بين الحقل Ф وجميع أنماط الجسيمات، ومن ضمنها تلك التي تولّد القوى النووية الضعيفة. لقد برهن <هيگز> على أن المعادلات التي تحكم هذه التفاعلات تتمتّع بجميع التناظرات الأساسية. وهكذا، قبل أن يستقرّ الحقل j في أحد المواضع الموافقة للقيم الأصغرية لطاقته الكامنة، فإن جميع الجسيمات تجول من دون إعاقة. لكن، عندما يصل الحقل Ф إلى +v أو -v
ويستقر هناك، فإنه يمارس قوة جرّ على أيّ شيءٍ يترابط ويتفاعل معه، وهذه
صورة تحت ذرّية تشبه ما يحصل لك عندما تغوص في مستنقع من سائل كثيف لزج.
وبعبارة أخرى، تبدأ الجسيمات الحاملة للقوى (إضافة إلى جسيمات مادية أخرى
مثل الإلكترونات) بالتصرّف كما لو كان لها كتل غير معدومة، ويعتمد أي قياس
لكتلها على القيمة الموضعية للحقل Ф.
لقد نُشر بحثا <برانز-ديكي> و<هيگز> في الوقت نفسه تقريبا، وفي المجلّة نفسها: Physical Review.
وسرعان ما حظي البحثان بشهرة واسعة، إذ إنهما يُعَدّان حتى اليوم من أكثر
الأبحاث الفيزيائية التي تمّ الاستشهاد بها حتى الآن. وقد قدم كلا
البحثين تفسيرا لأصل المادة في الكون عن طريق إدخال حقل سلّمي جديد يتفاعل
مع جميع أشكال المادة. وقد يدفعنا تشابهُ البحثين والاهتمام السريع الذي
أثاره كلّ منهما، إلى التوقّع أن الفيزيائيين اعتبروا الفكرتين متماثلتين
تسير إحداهما بجانب الأخرى؛ لكن هذه التوأمة نادرا ما تحصل. فمن أصل 1083بحثا استشهدت ببحث <برانز-ديكي> أو بحث <هيگز> بين عامَي 1961 و 1981، لا نجد إلاّ ستة أبحاث ـ أي أقلّ من 0.6 في المئة ـ أوردت كلا البحثين ضمن قائمة المراجع (يعود أولها إلى عام 1972، في حين تعود البقية إلى ما بعد عام 1975).
ويبيّن التجاهلُ المتبادَل هذا الحدودَ الراسخة التي كانت قائمة حينذاك
بين فيزيائيّي الجسيمات والمتخصصين في التثاقل والكسمولوجيا.
عمليات دفع إلى الأمام وجر إلى الوراء وطرق التدريس(****)
من الواضح أن كلتا المجموعتين لاحظتا أشياءَ مختلفة في الحقلين j الخاصَّين بهما. لقد مثّل حقل برانز-ديكي (ФBD)
إمكانية مثيرة للخبراء في مجال التثاقل والكسمولوجيا، لأنه طرح بديلا عن
النسبية العامة لآينشتاين. أمّا لفيزيائيّي الجسيمات، فقد كانت إثارة حقل
هيگز (ФH) تتمثل في أنه أعطى الأملَ
لنظرياتهم في أن تكون قادرة على وصف سلوك القوى النووية بين الجسيمات
المصمتة. ولم يقترح أحد، قبل منتصف السبعينات، أن الحقل ФBD والحقل ФH قد يكونان متماثلين فيزيائيا، أو حتى أنهما يستحقان الدراسة معا.
لقد كان الفصل بين فيزياء الجسيمات والكسمولوجيا واضحا، وعلى الأخص، في الولايات المتحدة، حيث أعلن كلٌّ من <برانز> و<ديكي> و<گولدستون> و<هيگز> حقله j الخاص به. وعلى سبيل المثال، في عام 1966،
نشرت «لجنةُ فحصِ وضعِ الفيزياء» التابعةُ للأكاديمية الوطنية للعلوم
تقريرا عن السياسة الواجب اتّباعها، أوصى بمضاعفة التمويل وعدد الأشخاص من
مستوى حملة الدكتوراه العاملين في مجال فيزياء الجسيمات خلال السنوات
القليلة التالية؛ في حين دعت إلى عدم إجراء أيّ توسّع في مجالات التثاقل
والكسمولوجيا والفيزياء الفلكية، التي كانت محدودة أصلا. إضافة إلى ذلك،
مع أن بعض المؤلَّفات التدريسية المنشورة في الاتحاد السوکييتي خلال تلك
الحقبة في موضوع الثقالة تضمّنت تخميناتٍ عن القوى النووية، فإن مزجا بين
المجالات كهذا كان غائبا تماما عن الكتب التدريسية الأمريكية.
مفهومان منفصلان للكتلة(*****) يمكن تبيان الحدود التي كانت تفصل بين الفيزيائيين في بداية الستينات عن طريق محاولتَيهم المتوازيتين لتفسير سبب امتلاك الأشياء للكتلة. ومع أن مجموعتي علماءِ الكونيات وفيزيائيّي الجسيمات اقترحتا نظريتين متشابهتين، فإن قلة فقط من الباحثين انتبهت للصلة بينهما.
| من الكسمولوجيا: ثقالة برانز ـ ديكي
| اقترح و [من جامعة پرنستون] عام 1961 وجودَ حقل سمّياه Ф يسمح لثابت نيوتن التثاقلي بالتغيّر مع الزمان والمكان. إن جسما موجودا في نقطة من الفضاء، حيث قيمة ثابت نيوتن صغيرة (في اليسار)، هو أقل كتلة ـ ومن ثم يلوي الزّّمكان spacetime الموضعي بقدر أقل ـ من جسم مماثل موضوع في نقطة قيمةُ الثابت فيه كبيرة (في اليمين).
|
|
|
| من فيزياء الجسيمات: حقل هيگز
| في عام 1961، اقترح [وكان حينذاك في جامعة كامبردج] وجودَ حقل سمّاه، مصادفة Ф أيضا، تبلغ كثافةُ طاقته الكامنة (V(Ф نهايتَها الحدّية الدنيا في نقطتين: عندما يأخذ Ф القيمة +v و -v. وبعد مرور ثلاث سنوات، استخدم [من جامعة إدنبره] هذا الحقل لتفسير أصل الكتلة. تكون الجسيمات عديمةَ الكتلة أولا عندما تتغيّر قيمة Ф (في اليسار)، ولا تكتسبُ كتلةً إلاّ عندما يستقرّ الحقل Ф في إحدى النقطتين الموافقتين للنهاية الحدّية الدنيا لطاقته الكامنة (في اليمين).
|
|
| | |
لكن
أنماط البحث العلمي هذه كان يجب أن تتغير تماما بحلول أواخر السبعينات.
ويشير الفيزيائيون، عندما يستذكرون الصعودَ السريعَ لكسمولوجيا الجسيمات،
إلى أمرين مهمَّين حرّضا على هذا المزج: اكتشاف الحرّية المقارِبة عام 1973، وصوغ أولى النظريات الكبرى الموحدة، أو ما يسمى(GUT(5، في عامي 1973 و1974 . وتشير الحرية المقاربة(6)
إلى ظاهرة غير متوقَّعة في بعض صفوف النظريات التي تصف التفاعلات بين
الجسيمات، وتتمثّل في تناقص شدة التفاعل مع ازدياد طاقة الجسيمات، بدلا من
تزايدها كما هي الحال في معظم أنواع القوى الأخرى. وللمرة الأولى، غدا
فيزيائيو الجسيمات قادرين على إنجاز حساباتٍ صحيحة وموثوقة تتعلّق بظواهرَ
من مثل القوى النووية الشديدة ـ التي تُبقي الكواركات داخل الجسيمات
النووية، مثل الپروتونات والنترونات ـ مادامت حساباتهم ضمن مجال الطاقات
العالية جدا، بعيدا عن إمكانية سبرها تجريبيا.
وبدوره،
أسهم دخول النظريات الكبرى الموحدة في توجيه الاهتمام إلى الطاقات
العالية جدا. لقد أدرك فيزيائيو الجسيمات أن شدّاتِ ثلاث من القوى
الأساسية ـ القوى الكهرمغنطيسية والقوى النووية بنوعيها الشديد والضعيف ـ
يمكن لها أن تتقارب بعضها من بعض عندما تزداد طاقات الجسيمات. وقد افترض
النظريون أنه عندما تتزايد الطاقات بقدر كاف، فإن القوى الثلاث تسلك سلوك
قوةٍ واحدة لا يمكن تمييز أجزائها بعضها من بعض. إن قيمةَ الطاقة التي يحصل
فيها هذا التوحيد الضخم للقوى كبيرة جدا: فهي من رتبة 1024
إلكترون-کلط، أي إنها أكبر بأكثر من ترليون مرة من أعلى الطاقات التي
تَمكّن الفيزيائيون من سبرها باستخدام المسرّعات الجسيمية. ولا يمكن أبدا
الوصول إلى طاقاتٍ من رتبةِ تلك التي توفرها النظرية GUT في مختبرات مُقامة على سطح الأرض؛ لكن بعض الباحثين أدركوا أنه لو ابتدأ الكون برمّته من انفجارٍ أعظم(7) حارّ، لبلغت الطاقة الوسطية للجسيمات في الكون قيما عاليةً جدا في المراحل المبكّرة من تاريخ الكون.
تغيير لموضوع الدراسة(******) خلال الخمسينات والستينات، ازداد كثيرا التمويل الحكومي لمشاريع الفيزياء، لكنه تناقص بحدّة في أواخر الستينات وخلال السبعينات. وتناقص كذلك عدد الطلبة الجدد الذين يدرسون للحصول على الدكتوراه في الفيزياء (المخطط العلوي). وقد حوّل كثيرٌ من فيزيائيي الجسيمات، الذين عانوا هذه التغيّرات أكثر من غيرهم، مجالَ اهتمامهم إلى الكسمولوجيا، ونما البحثُ العلمي في هذا المجال الأخير بغزارة (المخطط السفلي). |
وهكذا،
فمع قدوم الحرية المقاربة والنظريات الموحدة، وُجد سببٌ واضحٌ يدفع
فيزيائيّي الجسيمات إلى دراسة الكون الموغل في القدم؛ إذ إن اللحظات
الأولى من الانفجار الأعظم ستزودهم «بالمسرّع الذي يتوق له الإنسان
المسكين»، الذي يسمح لهم بمراقبة تآثرات بطاقاتٍ عالية، ما كان بالإمكان
إعادة توليدها على الأرض. وقد أشار عدد كبير من العلماء والصحافيين
والفلاسفة والمؤرّخين إلى هذا التطوّر على أنه العلامة الفارقة التي تسمح
بتفسير بزوغ كسمولوجيا الجسيمات.
ولكن
هل يمثّل هذا القصةَ كلّها؟ على الرغم من أن التقدّم النظري في فيزياء
الجسيمات أدى بلا شكٍّ، دورا مهما، فإنه لم يكن كافيا لتفسير نمو هذا
الفرع الجديد من كسمولوجيا الجسيمات. إن توقيتي الحدثين مختلفان قليلا؛
فإذا نظرنا إلى عدد النشرات في مجال الكسمولوجيا (في العالَم أجمع، وأيضا
في الولايات المتحدة)، لوجدنا زيادة حادة قبل عام 1973،
وأن معدّل الزيادة هذا لم يتأثّر على الإطلاق بظهور الأبحاث في الحرية
المقاربة والنظريات الكبرى الموحِّدة (انظر المؤطر في هذه الصفحة). وإلى
جانب ذلك، لم تُثِر النظريات الكبرى الموحدة اهتماما كبيرا، حتى عند
فيزيائيّي الجسيمات، إلاّ في أواخر سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي.
وقد تجاهلت ثلاث من الأوراق المرجعية الطويلة الأولى، التي استعرضت
الأفكار في مجال كسمولوجيا الجزيئات الجديد والمنشورة بين عامي 1978 و 1980، فكرتي الحرية المقاربة والنظريات الكبرى الموحدة كلتيهما.
إن
الأفكار الجديدة وحدها لم تكن كافيةً لتمهيد الطريق أمام كسمولوجيا
الجسيمات؛ بل أدت التغيّرات في السياسات الحكومية والتعليمية أيضا دورا
مهما. لقد استفاد فيزيائيو الولايات المتحدة حتى منتصف الستينات من «فقاعة
الحرب الباردة»، أي من تلك الفترة الزمنية التي كانت الحكومة الفدرالية
تغدق فيها الأموال على مجالات التعليم والدفاع والبحث العلمي. لكن بحلول
أواخر الستينات، أدت التخفيضات الحادّة في التمويل التي فرضتها المظاهراتُ
المناهضة للحرب الکيتنامية، والانفراجُ النسبي في الحرب الباردة، إضافة
إلى دخولِ تشريعاتِ مانسفيلدMansfield Amendment
التي قصرت إنفاقات وزارة الدفاع على الأبحاث في العلوم الأساسية، إلى
تخريب الفيزياء في الولايات المتحدة. لقد ساءت الأمور في جميع مجالات
العلم والهندسة تقريبا، لكن التدهور كان أسرع وأعمق في مجال الفيزياء منه
في أي مجال آخر. لقد تناقص عدد الطلبة الجدد الذين يحضِّرون للحصول على
الدكتوراه في الفيزياء، وانخفض هذا العدد خلال عامي 1970 و 1975 بالسرعة نفسها التي ارتفع فيها خلال السنوات التي تلت سپوتنيك Sputnik.
انخفض التمويل الفدرالي بشدة كذلك، فتناقصت قيمته (مقدّرة بالدولار الثابت) بأكثر من الثلث بين عامي 1967 و 1976.
وابتداء من الخمسينات وحتى منتصف الستينات، كان عدد فرص العمل المتوافرة
أكبر دائما من عدد خرّيجي الفيزياء الذين تقدّموا بطلباتِ بحث عن عمل إلى
قسم خدمة التوظيف التابع للمعهد الأمريكي للفيزياء، لكن آفاق إيجاد عمل
سرعان ما أضحت سوداوية؛ فقد تنافس 989 مرشّحا على 253 وظيفة سنة 1968، وتسابق 1053 طالبا للحصول على 53 فرصة للحصول على الدكتوراه سنة 1971.
لقد عانت فيزياء الجسيمات أكثر من غيرها مع تناقص الإنفاق الفدرالي في هذا المجال إلى النصف بين عامي 1970 و 1974. وبدأت هجرة سريعة للعقول، إذ غادر حقلَ فيزياء الجسيمات عدد من باحثي الولايات المتحدة يماثل ضعفي من دخله بين عامي 1968 و1970. أما عدد طلبة الدكتوراه الجدد في مجال فيزياء الجسيمات، فقد انخفض بمقدار 44% بين عامي 1969 و 1975
ـ ويمثّل هذا أسرع هبوط في أيّ مجالٍ من مجالات الفيزياء. غير أنه في
الوقت نفسه، بدأت الظروف في حقل التثاقل والفيزياء الفلكية بالتحسّن. وثمة
سلسلة من التقدمات المفاجئة خلال أواسط الستينات في مجال الثقالة
والفيزياء الفلكية، نذكر منها: اكتشاف الكوازارات والنجوم النباضة وإشعاع
الخلفية الكوني الميكروي، حرّضت جزئيا على زيادة عدد الطلبة الجدد للحصول
على الدكتوراه في هذا المجال، إذ ازداد هذا العدد بنسبة 60% بين عامي 1968 و 1970، وبنسبة 33% بين عامي 1971 و 1976 ـ مع أن العدد الكلّي لطلبة الدكتوراه في الفيزياء انخفض انخفاضا حادا.
وفي عام 1972،
أصدرت لجنةُ فحصِ وضعِ الفيزياء، التابعةُ للأكاديمية الوطنية للعلوم،
بعد تقصّيها الآثار السيئة التي لحقت بمجال فيزياء الجسيمات، تقريرا جديدا
لفت الأنظار إلى المشكلات في هذا المجال. وذكرت اللجنة أن كثيرا من
النظريّين الشباب في هذا المجال كان يعاني صعوبة تغييره لموضوع أبحاثه،
وذلك بسبب «التخصّص الدقيق والضيّق» لمجالاتهم. وأوصى التقريرُ أقسامَ
الفيزياء في الولايات المتحدة أنْ تُراجِعَ كيفيةَ إعدادِ نظريّي فيزياء
الجسيمات. وقد ورد في التقرير ما يلي: «تقع على الجامعات مسؤوليةُ إطلاع
طلبتها، الأكثر ذكاءً وقدرة، على فرص البحث العلمي في جميع الحقول الجزئية
للفيزياء.» وسرعان ما تلا ذلك تغييراتٌ في مناهج الدراسة الجامعية تهدف
إلى تقديم عرض واسع لطلبة مرحلة الدراسات العليا لإطلاعهم على المجالات
الأخرى في الفيزياء ـ التي كانت تتضمن تركيزا بقدر أكبر على التثاقل
والكسمولوجيا. وأخذت مناهج الفيزياء في مختلف أصقاع الولايات المتحدة
تتضمّن دروسا جديدة في هذين الموضوعين الأخيرين. وبعد تجاهل التثاقل
والكسمولوجيا عقودا من الزمن، بدأت دور النشر الأمريكية بإصدار أعداد
كبيرة من الكتب التدريسية في هذا المجال لتلبية الطلب المفاجئ والمتزايد
عليها.
تضخيم الصفوف(*******)
تركت هذه التغييرات المفاجئة آثارها في الطريقة التي نظر بها الفيزيائيون إلى مفاهيمَ من مثل حقلي برانز-ديكي وهيگز. وفي عام 1979،
بعد مرور نحو عقدين من الزمن ـ لم يَذْكُر عمليا خلالهما أيُّ شخصٍ كلا
الحقلين في البحث نفسه، فما بالك بفكرة كونهما متماثلين فيزيائيا ـ اقترح
نظريّان أمريكيّان، كل منهما مستقل عن الآخر، إمكانية كون الحقلين ФBD و ФH يمثّلان الحقلَ نفسه. وفي بحثين منفصلين، صاغ [الذي كان حينذاك في جامعة پنسلکانيا] و [الذي كان حينذاك في جامعة هارکرد] كيفية دمج جزأين من الحقل j معا بوساطة دمج معادلات <برانز-ديكي> التثاقلية مع كمون <گولدستون-هيگز>
الذي يحقّق خاصية كسر التناظر الآني. (أبدى بعض النظريّين العاملين خارج
الولايات المتحدة أفكارا مماثلة خلال المدة الواقعة بين عامي 1974 و 1978، لكن أعمالهم لم تلقَ حينذاك سوى القليل من الاهتمام.)
في هذا النموذج، صارت القوة الموضعية لشدة الثقالة تتغير في المكان والزمان، حيث الثابت G متناسب مع 1/Ф2؛ أمّا قيمتها الثابتة اليوم، فقد برزت بعد أن استقرّ الحقل j
في موضعٍ موافق لقيمة أصغرية لكمونه الذي يكسر التناظر آنيا، وقد حصل هذا
افتراضيا في اللحظات الأولى بعد الانفجار الأعظم. وبهذه الطريقة، قدّم <زي> و<سمولين> تفسيرا لضعف قوة الثقالة مقارنة بالقوى الأخرى؛ فعندما يستقر الحقل في حالته النهائية، Ф = ±v، فإن ذلك يعطي j قيمة كبيرة غير معدومة، وهذا يدفع G (المتناسب عكسيا مع v2) ليأخذ قيمة صغيرة.
ويوضح المساران المهنيان ل<زي> و<سمولين> الطرقَ التي ركّز بها الفيزيائيون اهتمامَهم على الكسمولوجيا بعد انهيار فقاعة الحرب الباردة. فقد عمل <زي> مع خبير في التثاقل هو
[الذي كان طالبا في المرحلة الأولى من الدراسة الجامعية في برنستون أواسط
الستينات] قبل أن ينتقل إلى هارکرد لتحضير الدكتوراه في فيزياء الجسيمات،
ليحصل على الدكتوراه عام 1970، عندما ابتدأ أكبر تراجع في هذا المجال. وذكر <زي> لاحقا أن الكسمولوجيا لم يكن لها ذكر مطلقا خلال مرحلة دراسته لتحضير الدكتوراه. وبدأ <زي>، بعد إتمامه دراسات ما بعد الدكتوراه، بالتدريس في برنستون. وعندما كان يمضي إجازة دراسية في باريس عام 1974،
استأجر شقةً من فيزيائيٍ فرنسيٍ، وصادفَ خلال إقامته فيها وجودَ رزمةٍ من
الأوراق العلمية كتبها باحثون أوروبيّون حاولوا فيها استخدامَ أفكارٍ من
فيزياء الجسيمات لتفسير ظواهر كونية متنوّعة (مثل سبب امتلاك الكون
المرصود للمادة أكثر مما يمتلك من المادة المضادة). ومع أنه لم يجد أن
الأفكارَ المعروضة في الأوراق مقنعة، فقد أثارت هذه المصادفة عند <زي> اهتمامَه السابق بالتثاقل. وعندما عاد <زي> من إجازته الدراسية، عاود الاتّصال ب<ويلر>، وبدأ يوجّه اهتماماته البحثية نحو كسمولوجيا الجسيمات.
وفي المقابل، دخل <سمولين> مرحلة الدراسات العليا في هارکرد عام 1975، عندما بدأ اعتمادُ المناهج الجديدة. درس <سمولين> التثاقل والكسمولوجيا إلى جانب دراسته الأساسية لفيزياء الجسيمات، وعمل كثيرا مع [من جامعة برانديس القريبة] الذي كان يزور قسم الفيزياء في هارکرد في ذلك الوقت. و<ديزر> واحد من النظريّين الأمريكيّين القلائل الذين اهتمّوا بموضوع الثقالة الكمومية(8) في الستينات، محاولين صياغةَ وصف للتثاقل منسجمٍ مع الميكانيك الكمومي. وكان <ديزر>، أيضا، أول فيزيائي ينشر بحثا يستشهد بعملي <برانز-ديكي> و<هيگز> كليهما (مع أنه عالج الحقلين بطريقتين متمايزتين، وفي قسمين مختلفين من بحثه عام 1972). اقترح <سمولين> [الذي كان يعمل في موضوعات تتعلق بالثقالة الكمومية] أن الحقلين ФBD و ФH يمكن أن يمثّلا الحقلَ الفيزيائي نفسه، وذلك عندما كان ينهي كتابةَ أطروحته عام 1979.
لقد أضحت تجارب <سمولين>
مَعْلَما لطريق جديد يسلكه جيله من الفيزيائيين النظريين في الفترة
الممتدة من أواسط السبعينات إلى أواخرها. وقد درس فيزيائيون (من مثل و و) التثاقل وفيزياء الجسيمات في مرحلة الدراسات العليا. وسرعان ما صار <سمولين> و<تيرنر> و<كولب> و<شتاينهاردت>
بدورهم يعلّمون ويمرّنون طلبتهم في مرحلة الدراسات العليا ليعملوا في هذا
المجال الهجين الجديد، وهو كسمولوجيا الجسيمات. وكان من الطبيعي لهؤلاء
النظريّين الشباب وطلبتهم، المتزايد عددهم، أن يربطوا بين الحقلين ФBD و ФH. وقد قاد كلّ من <تيرنر> و<كولب> و<شتاينهاردت> مجموعاتِ بحث استكشفت إمكانيةَ وجود روابط أخرى بين الحقلين ФBD و ФH خلال الثمانينات.
ففي عام 1980، لاحظ <زي>، اعتمادا على بحثه الآنف الذكر لعام 1979،
أن النظريات الكسمولوجية المعيارية، مثل نموذج الانفجار الأعظم، لا تزال
غير قادرة على تفسير التجانس الكبير والسلاسة الاستثنائية للكون المرئي
(على الأقل عندما تتمّ ملاحظته ومراقبته بأكبر المقاييس). وقد توصّل <ديكي>،
وحده، إلى استنتاج أن نموذج الانفجار الأعظم لا يمكنه تفسير الاستواءَ
الملاحَظ للكون، الذي يمكن أن يبتعدَ شكله، من حيث المبدأ، كثيرا عن الشكل
الموافق للانحناء الأصغري الذي رصده الفلكيون. وفي عام 1981، ابتكر [وكان حينذاك باحثا في مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة ستانفورد، وهو الآن أستاذٌ في معهد ماساتشوستس للتقانة(.M.I.T)]
نموذجَ الكون التضخّمي للإجابة عن هاتين المسألتين. ويكمن في جوهر نموذج
گوث، حقل سلّميٌ آخر، يستند إلى فكرة حقل هيگز، وأُطلق عليه تسمية التضخم،
وهو يوفر القوةَ الدافعةَ لوجود فترة افتراضية تمدّد فيها الكون ـ أو
تضخم ـ بسرعة فائقة خلال اللحظات الأولى من عمر الكون.
ويشبه المسار المهني ل<گوث> مسار <زي>. فقد حصل <گوث> على الدكتوراه في فيزياء الجسيمات من المعهد.M.I.T عام 1972،
قبل حدوث الإصلاحات الواسعة في مناهج التدريس التي أعادت موضوع التثاقل
إلى الصفوف التدريسية في الولايات المتحدة. وبسبب الخمود ثم الانهيار في
مجال فيزياء الجسيمات، جهد <گوث>
وعانى بضع سنوات خلال انتقاله من عملٍ إلى آخر في مرحلة ما بعد
الدكتوراه. وفي أواخر السبعينات، قادته المصادفة إلى حضورِ محاضرةٍ ألقاها
<ديكي> عن مسألة الانبساط(9)،
وطبعت في ذهنه الفكرةَ بأن الكسمولوجيا قد تكون مجالا مثمرا للتفكير
بأحجياتٍ في موضوع فيزياء الجسيمات. وفي حين كان غارقا في دراسة الموضوع
الجديد للنظريات الكبرى الموحدة، محاولا اكتساب المعارف والخلفية الأساسية
للعمل في التثاقل والكسمولوجيا، خطرت على باله فكرة تضخّم الكون. ومع
ذلك، كان معظمُ الفيزيائيين الذين أتوا وطوّروا فكرة التضخّم نظريّين في
مرحلة الشباب، من مثل <شتاينهاردت> و<كولب> و<تيرنر> وطلبتهم، وكانوا مؤهَّلين للإتيان بمثل هذه الأفكار التطويرية. وفي الوقت نفسه، كان
[من معهد ليبيديک للفيزياء في موسكو] مهتما باستكشاف أفكارٍ في مجال
النموذج التضخّمي؛ وبسبب كونه دَرَس في روسيا، حيث كانت فيزياء الجسيمات
وفيزياء الكونيات تسيران جنبا إلى جنب منذ مدة طويلة، فقد كان قادرا،
وبسرعة، على إدخال تحسينات على النظرية.
ومنذ
ذلك الحين، غدا روتينا مألوفا لباحثي كسمولوجيا الجزيئات أن يدمجوا حقولَ
برانز-ديكي وهيگز والتضخم، ويوائموا بين المعادلات لتفسير ظواهر عديدة.
لقد انتقلت هذه القفزة المفاهيمية من مرحلة عدمِ إمكان التفكير فيها إلى
مرحلة عدم إمكان ملاحظتها من قبل قلة فقط من الأجيال الأكاديمية. ويبيّن
التغيّر في الموقف منها أهميةَ طرق التدريس والأثرَ البعيد الذي يمكن أن
تخلفه التغييرات في سياسة المؤسسات التعليمية على التفكير العلمي.
هل
يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه؟ لقد أُصيبت فيزياء الجسيمات بنكسة قوية أخرى
في التسعينات (وخاصة مع إلغاء مشروع المصادم الفائق ذي الموصلية
(الناقلية) الفائقة Superconducting Super Collider،
وهو مسرّع جسيمات ضخم كان في طور الإنشاء بتكساس). وواصل التمويل في
الولايات المتحدة تناقصه منذ ذلك الوقت. وربّما تكون المناقشاتُ الحاميةُ
التي تدور الآن حول اتجاه الأبحاث في الفيزياء النظرية بين المدافعين عن
نظرية الأوتار(10) وبين
أنصار المقاربات الأخرى البديلة، أعراضا مَرَضية من النوع نفسه الموافق
للآلام المتزايدة التي عصفت بحقل فيزياء الجسيمات بُعَيْد الدمار الأخير.
واليوم،
يتطلع الفيزيائيون إلى الحصول على نتائج جديدة ستأتي من مشاريع خُطِّط
لدراستها في العام القادم وهي: مشروع المصادِم هادروني الكبير Large Hadron Collider في سويسرا، ومشروع المقراب الفضائي ذي السطح الكبير الذي يعمل بأشعة گاما(11)، ومشروع ساتل پلانك Planck satellite، وستقيس هذه المشاريع إشعاع الخلفية الكوني الميكروي بدقة غير مسبوقة. وبقليل من الحظ، ستبرز فيزياء الطاقة العالية(12) مرّة أخرى كحقل علمي ناشط ومجال مثير تماما مثلما كانت قبل ثلاثين سنة.