لثورة
المصرية بحاجة إلى إنقاذ ، ولكنه إنقاذ ذاتي ، إنقاذ لها من بعض أبنائها
الذين أصبحوا يسيئون إلى نصاعتها وإنسانيتها وأخلاقياتها وجديتها برعونتهم
وعنجهيتهم الزائدة عن الحد كثيرا وضعف الإحساس بالمسؤولية لديهم وتعاليهم
على الشعب الذي حملهم ونصر الثورة وحماها في أصعب أوقاتها ونزل بالملايين
في الميادين والشوارع من أجل إجبار الطاغية على التنحي وإجبار نظامه على
الانكسار والرحيل .
هذه المجموعات الشبابية التي تنتفخ الآن كبرا وعنجهية وادعاء بملكية
الثورة ، حتى أصبحوا مثارا للتنكيت والسخرية ، كانوا قبل تلاحم الشعب
المصري معهم مجرد مجموعات هامشية يحتضنها سلم نقابة الصحفيين أو مدخل
نقابة المحامين ، وفي أحسن الأحوال بعض الحواري والأزقة الصغيرة في منطقة
وسط البلد ، والذي حول حركتهم إلى طوفان بشري وقف العالم أمامه مذهولا
وأجبر الطاغية على التنحي ، هم هؤلاء الملايين من أبناء الشعب المصري ،
غالبيتهم العظمى لم تنتم إلى أي حزب أو جماعة أو تنظيم من قبل ، بل ربما
لم تمارس العمل السياسي من بابه ، وعندما يتعالى بعض "المتغطرسين" الصغار
اليوم على هذا الشعب وينقلبون على اختياره ويسخرون من "نعم" العظيمة التي
سجلها في الاستفتاء التاريخي ، فإن مآل أمرهم سينتهي قريبا بالانحسار في
"سلالم نقابة الصحفيين" من جديد ، عندما يخسرون ثقة الشعب بهم ، وتنفض
عنهم الملايين ، ويعاودون ـ بكبرهم وأفكارهم النزقة ـ انحسارهم في خلايا
شبابية هامشية تمثل جانبا من الفولكلور السياسي في مصر .
فرح بعض هؤلاء وهللوا لخطيب الجمعة المتهور الذي طالب ـ في لحظة تجلي
ـ "بتحرير" ميدان التحرير من الأمن المصري ، الشرطة والجيش وسلاح الدولة ،
وهلل معهم بعض الإعلاميين والصحفيين ـ مع الأسف ـ وكأن ميدان التحرير أصبح
أول قطعة أرض مصرية تعلن انفصالها عن الدولة المصرية ومؤسساتها ، فكان أن
ردت "الدولة" بالاستجابة الماكرة للطلب الأهوج ، وأخلت الميدان تماما ،
ليصبح أمس ساحة للشجار الرخيص والتافه والفوضوي بين المجموعات الشبابية
وأصحاب "غرز" الميدان من بائعي الشاي والقهوة وبعض الباعة الجائلين ، وهو
مشهد بائس ومؤسف للغاية ، لكنه كان متوقعا تماما وأسوأ منه ما زال متوقعا
طالما هناك من يخضعون للمزايدات الإعلامية الرخيصة ، ويسايرون شبابا
مستهترا ونزقا وفاقدا للرؤية الوطنية الشاملة وفارغا من أي إحساس
بالمسؤولية .
الثورة المصرية لم تمت بعد ، ولكنها بحاجة ماسة إلى إنقاذ عاجل من
عقلائها وقواها الكبرى وحكمائها ، لا بد من الحفاظ على تماسك بنية الثورة
التي أطاحت بنظام مبارك ، ولا بد من الحفاظ على قوة الدفع الروحي
والأخلاقي والإنساني الذي ميزها ، ولا بد من تعزيز تلاحمها مع شرائح الشعب
المصري المختلفة ، وأن يشعر الشعب المصري بأن هذه الثورة لم تختطف منه ،
وأنها ما زالت تحمل أمانيه وأحلامه في الحياة الكريمة ، وأشواقه للحرية
والعدالة والرفاه والأمان الاجتماعي بكل أبعاده .
في البداية ، وقبل أشهر ، كتبت في هذه الزاوية أحذر من إهدار قوة سلاح
التظاهر والمليونيات في العبث والهدر ، وكل من لا يعجبه موظف عام أو قرار
سياسي يدعو إلى مليونية ويهدد بوقف الحياة في العاصمة ، وأذكر أني قلت
وقتها أن هذا يمثل ضررا فادحا بأهم أسلحة الثورة ، وأننا ينبغي أن ندخر
مثل هذا السلاح الرهيب والذي أذهل العالم ، ندخره للمواقف الفاصلة
والمحورية في مسيرة الثورة وأهدافها والمخاطر الكبرى إذا هددت مسيرتها ،
فإذا بالبعض يواصل استنزاف قوى الثورة وقوة دفعها في "التهريج" ، ثم تحول
الأمر إلى محاولة توظيف مليونيات الثورة في الصراع السياسي والحزبي بين
أجنحة الثورة ، ومن أجل فرض وجهة نظر مغايرة لأطياف أخرى من شركاء الثورة
، فكان أن وصلنا إلى هذا الحال الخطير الذي يهدد وهج الثورة ومستقبلها .
كل قلم مصري شريف مطالب اليوم بأن يعلن موقفه الأخلاقي والشجاع ، برفض
هذا العبث ، والدعوة للتماسك الوطني ، وإعادة اللحمة والاحترام والثقة بين
أجنحة الثورة وتياراتها ، وإلزام الجميع باحترام إرادة الشعب المصري التي
تجلت في الاستفتاء ، وإن اختلف مع نتيجته ، فاختلافه معه حق ولكن التفافه
حوله أو تعطيل استحقاقه باطل ، ديمقراطيا وأخلاقيا معا ، ولا بد أن نبادر
بكل قوة ، وكل إصرار ، إلى انتزاع مؤسسات الدولة الرئيسية ـ بالطريق
السلمي الديمقراطي ـ من خلايا النظام السابق وظلاله وذيوله ، بإنجاز
الانتخابات التشريعية في أسرع وقت ، وإعلان الحكومة الشعبية الوطنية
الجديدة ، واختيار رئيس جمهورية ، ثم إنجاز الدستور بتوافق تام بين جميع
القوى وبدون استعلاء أي طرف على الآخرين ، وهذا هو الطريق الأقصر والأكيد
لإنقاذ الثورة وتحقيق جوهر رسالتها وأهدافها