في
كتاب طريف للغاية بعنوان (مرحبا جميعا .. رحلة بحث صحفي عن الحقيقة في
الشرق الأوسط) يحكي الصحفي الأمريكي ، البولندي الأصل ، (جورس لويندك) عن
خبراته العملية المثيرة في تغطية الأحداث السياسية في منطقة الشرق الأوسط
وكيف كان يتعامل مع مصادره من كتاب ومحللين وصحفيين ، حيث طوف في مصر
والعراق وسوريا وغيرها ، وكيف كانت تتم عملية "التواطؤ" بين المصدر
والصحيفة ، أو تحديدا المراسل الصحفي ، وكيف تكون هناك قوائم بكتاب
ومحللين ومثقفين على صلة دائمة بالمراسل الأجنبي للصحيفة أو الوكالة
الإخبارية ، بينهما" سيم" خاص ، كلاهما يفهم ما يريده الثاني ، وكلاهما
يعرف أن الثاني يعرف ما يريده بالضبط ، وكلاهما يخدم على مصالح الآخر ،
فيعطيه على مقاسه والآخر يمنحه المصلحة التي يهدف إليها ، الصحفي أو
المراسل يحتاج إلى الكلام المرتب والمريح لصياغة تقرير صحفي جيد ، ومداعبة
مخاوف الرأي العام الغربي تجاه تيارات أو أسماء محدده في هذا البلد أو ذاك
بحيث يعطيهم ما يحبون سماعه ، وصياغة اللمحة "الحراقة" والتي يمكن أن تصنع
عنوانا جيدا ، والمصدر المحلي من جانبه يهمه أن تصدر الصحيفة وهي تحمل
وجهة نظره على أنها رؤية الصحيفة "العالمية" للأوضاع والتطورات في هذا
البلد أو ذاك ، "ليندك" كان يقول بأن بعض المصادر من هذه النوعية كانت
تساعده حتى على اختيار مانشيت التقرير محشوا بالتوابل الساخنة ، لزوم
التسويق .
تذكرت تلك الحكايات الطريفة والمسلية وأنا أتابع ما تكتبه بعض الصحف
الأمريكية والغربية هذه الأيام عن رؤيتها للأحداث في مصر والتسريبات
واحتمالات المستقبل السياسي ، وكنت أقرأ ما تنشره الصحيفة الأمريكية وأنا
أحدث نفسي : يا ربي أنا سمعت هذا الكلام سابقا ، فين فين ، وأقلب في
ذاكرتي فأتذكر فلانا وفلانا بالتحديد من أصدقائنا وزملائنا الكتاب
والمثقفين المصريين الموهوبين في صناعة جسور التواصل مع تلك الصحف
ومراسليها ، والطريف أن بعض المراسلين الجدد لا يعرفون المصدر الذي ينقلون
عنه ، وإنما أتوا بتوصية من السابقين لهم بإحسان ، أو شخصا وجههم أو حدد
لهم من يتصلون بهم دون غيرهم ، وكان بعض هؤلاء يقعون بالخطأ مع آخرين ،
حدث هذا معي أنا شخصيا أكثر من مرة ، وأخذتني روح "المقالب" المصرية
الشهيرة في أن أمارس الدور حتى نهايته ، فأحدث المراسل بوصفي ناشطا سياسيا
وصحفيا ، ويبدي المراسل سعادته الكبيرة بالكلام والرؤية والتحليل ، رغم
أني أعرف أن جيبه كان يحمل شخصية أخرى ، ويشربها الأمريكان .
بعض هؤلاء المحترفين هنا في مصر ، وكثير منهم في مراكز أبحاث تابعة
لمؤسسات صحفية أو مراكز "ارتزاق" ، يعطون المراسل معلومات مغلوطة أو تعبر
عن رؤية تياره السياسي الذي يميل إليه ويؤمن بمبادئه وقضاياه ، ليس على
أنها مبادئ هذا التيار أو رؤية هذا الحزب ، وإنما على أنها رؤية النخبة
المصرية بشكل عام ، ورأي غالبية المصريين ، واختيارات الثورة المصرية
ورموزها ، ثم تقوم الصحيفة الأمريكية أو الغربية بنشر هذا الكلام ، بنفس
ما عرضه "المحترف المصري" ، ولكن الصحيفة تنشرها بوصفها تأملات الصحيفة
ورؤيتها التي استقتها من تحليل الأوضاع في مصر ومعايشتها ، وبعد النشر
تقوم الصحيفة المصرية التي يعمل فيها "المحترف ذاته" بإعادة نشر هذا
الكلام باعتباره رؤية الصحافة الأمريكية للأوضاع في مصر ، رغم أنه هو الذي
صدر هذه البضاعة في الأساس ، وهو الذي أنتجها ، وهو الذي "شربها" لمراسل
الصحيفة بمزاجه .
هذه اللعبة الشيطانية وغير الأخلاقية تتم يوميا الآن في مصر ، أو
تحديدا ، في شؤون مصر في الصحافة الأمريكية والغربية بشكل عام ، إلا قليلا
بطبيعة الحال ، لأنه ليس كل المراسلين بهذا الكسل المهني والاستهتار ،
ويمكنك أن تراجع الغالبية الساحقة من التقارير التي نشرتها صحف مصرية خاصة
وقومية في الأشهر الأخيرة وستجد هذه اللعبة واضحة وضوح الشمس .
وبنفس الأدوات وذات الأسلوب ، تنشر بعض الصحف المصرية الخاصة تقارير
أمريكية تتحدث عن آراء صدرت عن "مؤسسات بحثية أمريكية شهيرة" عن أحداث
مصرية ومواقف القوى المختلفة ، وهي تقارير تميل إلى وجهة نظر بعض التيارات
السياسية التي كان لها موقف ضد التيار الإسلامي أو الاستفتاء الدستوري ،
وتتعمد هذه الصحف "المحترمة" إخفاء الإشارة إلى أن مدير هذه المؤسسة
الأمريكية البحثية الرفيعة أو ممثلها في الشرق الأوسط ، هو في الحقيقة
ناشط سياسي مصري مشتبك في قلب الأحداث والجدل السياسي ، أي أن المسألة في
النهاية تضليل ، ومحاولة تضخيم "رأي" هذا الناشط السياسي ، بجعل رأيه هو
"رأي مؤسسة بحثية أمريكية كبيرة" من أجل استخدام هذا "التهويل" في صناعة
ضغط سياسي أو نفسي على صانع القرار أو نشطاء العمل السياسي .