المرهوانا
(1) عقّار ذو تاريخ مختلط. فما أن تذكره
أمام بعض الناس حتى تتبادر إليهم صور حشاشين منغمسين في خبل عميق، في حين
أنه
بالنسبة إلى أناس آخرين قد يمثل استرخاء يخفف حدة الجنون المعاصر، كما
تُعني المرهوانا لآخرين غيرهم أملا بالنسبة إلى مرضى السرطان الذين يقاسون
غثيانا
منهكا بسبب المعالجة الكيميائية، أو بشيرا بتهدئة ألم مزمن. إن هذا العقار
هو
جميع هذه الأشياء وأكثر، وتاريخه طويل يمتد آلاف السنين ويغطي جميع
القارات.
وهو كذلك شيء يألفه كل امرئ سواء عرفه أو لم يعرفه. فما من أحد إلا ويُنتج
هذا
العقار أيا كانت تعاليمه السياسية أو ميوله الترويحية، ذلك لأن الدماغ
يصنع
مرهوانا خاصة به على شكل مركبات طبيعية تدعى قنّبيات داخلية
endocannabinoids
(تبعا لاسم النبات الرسمي «القنّب الهندي» Cannabis
sativa).
لقد قادت دراسة القنبيات الداخلية في السنوات القليلة الماضية إلى اكتشافات
مثيرة. فقد أماط الباحثون، عبر فحص هذه المواد، اللثام عن منظومة تأشير
signalling system جديدة تماما تمثل طريقة للاتصال بين الخلايا العصبية لم يكن
أحد يتوقعها قبل 15 عاما فقط. ويمكن أن يكون لفهم منظومة التأشير هذه مضامين
بالغة الأثر. ويبدو أن تفصيلات ذلك تحمل مفتاح تصميم معالجات للقلق والألم
والغثيان والبدانة والتلف الدماغي ومشكلات طبية أخرى عديدة. وفي نهاية المطاف،
يمكن لمثل هذه المعالجات أن تخاط بدقة بحيث لا تولِّد التأثيرات الجانبية غير
المرغوب بها والتي تنجم عن المرهوانا نفسها.
ماض مُبَرقش
(**) تمثل المرهوانا وأشكالها المختلفة (مثل البانگ
bhang والحشيش hashish)
العقاقير الأكثر انتشارا في العالم بين العقاقير الفعالة نفسيا
psyachoactive. وتختلف طريقة استخدام هذا النبات
باختلاف الثقافة. فالصينيون القدماء عرفوا تأثيرات المرهوانا المفرِّجة للألم
والمغيّرة للفكر، وإن لم يستعملوها بشكل واسع لخواصها الفعالة النفسية؛ بل إنهم
بدلا من ذلك زرعوها كتيلةٍ hemp لصناعة الحبال
والنسيج. وعلى نحو مماثل استخدم قدماء اليونان والرومان المرهوانا كتيلة لصنع
الحبال وأشرعة السفن. بيد أن الخواص المُسْكرة للمرهوانا أصبحت شأنا مهما في
بلاد أخرى. ففي الهند على سبيل المثال أُدرج هذا النبات في الطقوس الدينية، كما
شاع استعماله في البلاد العربية خلال القرون الوسطى؛ وقد استخدمه العراقيون في
القرن الخامس عشر لمعالجة الصرع وتعاطاه المصريون كمُسْكِر. وبعد احتلال
نابليون لمصر، بدأ الأوروبيون يستخدمون هذا العقار كمسكر. وفي فترة تجارة
العبيد تم نقل المرهوانا من إفريقيا إلى المكسيك والجزر الكاريبية وأمريكا
الجنوبية.
على الرغم من الفروق في أبنيتها، فإن المركب (THC) الذي تنتجه المرهوانا من جهة والكيماويات الدماغية المؤلفة من الأنداميد والليپيد (2-AG) من جهة أخرى يستطيع تنشيط المستقبلة نفسها (CB1) في الدماغ. |
أما في الولايات المتحدة فقد شقت المرهوانا طريقها
إليها منذ عهد قريب نسبيا. فخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل
القرن العشرين كان نبات القنّب ميسور المنال بحرِّية، دون حاجة إلى وصفة طبية
لاستخدامه في طيف واسع من الأوجاع، بما في ذلك صداع الشقيقة
migraine والقرحة. وقد أدخله المهاجرون من
المكسيك كعقار ترويحي إلى نيوأورليانز ومدن كبيرة أخرى، حيث غدا شعبيا بين
موسيقيي الجاز. وبحلول الثلاثينيات من القرن العشرين ساءت سمعته وقامت حملات
ضغط كثيفة ضد «جنون سيگارة الحشيش»
(2). وفي عام 1937 أقر الكونگرس الأمريكي،
خلافا لمشورة الاتحاد الطبي الأمريكي، قانون ضريبة المرهوانا الذي هدف إلى حظرٍ
فعّال لاستخدام هذا المخدِّر عن طريق جعله باهظ الثمن وصعب المنال. ومنذ ذلك
الحين ظلت المرهوانا واحدة من أكثر العقاقير الخلافية في المجتمع الأمريكي.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتغيير مكانة المرهوانا فإن هذه الأخيرة تظل
مصنّفة في قمة قائمة العقاقير التي تعتبرها الحكومة الاتحادية، إلى جانب المخدر
LSD والهيروين، عقاقير خطرة وعديمة النفع.
ملايين الناس يدخنون المرهوانا أو يتناولونها
لتأثيراتها المسكرة، وهي ذهنيّة وغالبا ما توصف بأنها تشبه نشوة كحولية عالية.
ويقدر بأن ما يقارب 30 في المئة ممن تتجاوز أعمارهم اثني عشر عاما من سكان
الولايات المتحدة قد جرّبوا المرهوانا، ولكن 5 في المئة فقط من هؤلاء يستمرون
في تعاطيها. ونشير هنا إلى أن الجرعات الكبيرة من المرهوانا تسبب هلوسات لدى
بعض متعاطيها، في حين تبعث النوم فحسب لدى آخرين. وتفسد هذه العشبة الذاكرة
القصيرة الأمد والإدراك المعرفي cognition، كما
تضر التنسيق الحركي وإن كان يبدو أن هذه الانتكاسات عكوسة
reversible حالما ينطرح هذا العقار من الجسم. كما
أن لتدخين المرهوانا مخاطر صحية تشبه مخاطر تدخين التبغ.
وبالمقابل، فإن لهذا العقار فوائد طبية واضحة، إذ إن
المرهوانا تفرِّج الألم والقلق، ويمكنها أن تمنع موت العصبونات المتضررة. كما
أنها تكبت الإقياء وتحسِّن الشهية، وهذه نواح بارزة مفيدة للمرضى الذين يعانون
نقصا شديدا في أوزانهم نتيجة خضوعهم للمعالجة الكيميائية.
نظرة إجمالية/ مَرْهوانا الدماغ
(***) • تؤثر المرهوانا والمخدرات القريبة منها في السلوك عبر فعلها في مستقبلات تخص مركبات تدعى قنبيات داخلية (أو كانابينوئيدات داخلية) يولِّدها الدماغ. • وتشارك هذه القنبيات الداخلية في تنظيم الألم والقلق والجوع والإقياء وعمليات أخرى غيرها. ويفسر هذا الطيف الواسع من التأثيرات لماذا يبدو أن استعمال المرهوانا يبعث استجابات مختلفة عديدة إلى هذا الحد.
• وباكتشاف العقاقير التي تحاكي الأفعال النوعية المفيدة للقنبيات الداخلية، بدون أن تسبب بعض تأثيرات المرهوانا الضارة، يأمل الباحثون في إيجاد معالجات جديدة لمشكلات متنوعة.
|
العثور على العامل المسؤول
(****) لقد استغرق كشف الكيفية التي يمارس عبرها هذا العقار
تلك التأثيرات الجمة وقتا طويلا. فبعد نحو قرن من أبحاث قام بها العديد من
الأفراد توصل
إلى أن المادة (دلتا-9- تتراهيدروكنابينول(3)، أو
THC) هي المركب المسؤول فعليا عن الفعالية
الصيدلانية للمرهوانا. أما الخطوة التالية فكانت العمل على تحديد المستقبِلة
receptor أو المستقبلات التي ترتبط بها تلك
المادة.
إن المستقبلات هي پروتينات صغيرة منطمرة في أغشية
جميع الخلايا (بما في ذلك العصبونات)، وعندما ترتبط بها جزيئات نوعية
specific، مثلما يتلاءم القفل والمفتاح، تحدث
تغيرات في الخلية. فبعض المستقبلات لها ثقوب مملوءة ماء أو قنيوات تسمح بمرور
أيونات كيميائية عبرها من خارج الخلية إلى داخلها أو العكس. وتعمل هذه الأنواع
من المستقبلات عن طريق تغيير الڤلطية النسبية داخل الخلية وخارجها. وثمة
مستقبلات أخرى غيرها ليست قنوية بل مقترنة بپروتينات متخصصة تدعى «الپروتينات
G». وهذه المستقبلات المقترنة بالپروتينات
G تمثل مجموعة كبيرة تسيِّر تشكيلة منوعة من
شلالات cascades تأشيرية حيوية كيميائية داخل
الخلية غالبا ما تسبب تغيرات في القنيوات الأيونية.
وفي عام 1988 ثبّتت هاوليت> وزملاؤها [في جامعة سان لويس] سِمة مشعة
radioactive tag بمشتق كيميائي من المركب
THC (الآنف الذكر) وراقبوا محط مسير هذا المركب
في أدمغة الجرذان. فاكتشفوا أنه تثبت بما أصبح يدعى المستقبلة
الكانابينوئيدية(4) (والتي تعرف كذلك بالرمز CB1).
وتأسيسا على هذا الاكتشاف وعلى بحث أجراه هيركنهام> و [في المعهد الوطني للصحة
(NIH)] تمت كلونة cloning
المستقبلة CB1. وقد تحققت أهمية هذه المستقبلة في
أداء المركب THC حينما قام باحثان، كل على حدة،
وهما [من بروكسل] و زيمر> [من بون]، بتربية فئران تنقصها هذه المستقبلة. فوجد كلاهما أن المركب
THC عديم التأثير عند إعطائه لفأر كهذا، إذ لم
يجد ذلك المركب مكانا يرتبط به، ومن ثم لم يبعث أي شكل للفعالية. (ونشير في هذا
الصدد إلى مستقبلة كانابينوئيدية أخرى تم اكتشافها مؤخرا وهي المستقبلة
CB2 التي لا تعمل إلا خارج الدماغ والنخاع الشوكي
وتتعلق بالجهاز المناعي.)
وفيما استمر الباحثون يدرسون المستقبلة
CB1 عرفوا أنها واحدة من أكثر المستقبلات
المقترنة بالپروتينات G غزارة في الدماغ. وتكون
أكثر كثافة لها في قشرة المخ cerebral
cortex وفي الحصين
hippocampus وفي الوطاء hypothalamus وفي
المخيخ والعقد القاعدية basal
ganglia وجذع الدماغ والنخاع الشوكي واللوزة
المخية amygdala. ويفسر هذا التوزع التأثيرات
المتنوعة للمرهوانا. فقوتها الفعالة النفسية تأتي من فعلها في القشرة المخية.
أما فساد الذاكرة فمقره الحصين الذي هو بنية أساسية لتكوين الذاكرة. ويسبب هذا
المخدر الخلل الحركي عبر فعله في مراكز التحكم الحركي في الدماغ. وأما في جذع
الدماغ والنخاع الشوكي، فإنه يسبب انخفاضا في الألم، مع العلم أن جذع الدماغ
يتحكم كذلك في منعكس reflex الإقياء. وأما الوطاء
فإنه معني بالشهية في حين تضطلع اللوزة المخية بالاستجابات الانفعالية. ومن
الواضح أن المرهوانا تفعل الكثير لكونها تؤثر في كل مكان.
ومع مرور الزمن، برزت تفصيلات حول أمكنة وجود
العصبونات ذات المستقبلات الكانابينوئيدية (CB1).
فقد كشفت دراسات دقيقة أجراها في
الأكاديمية المجرية للعلوم و [من جامعة واشنطن] أن المستقبلة الكانابينوئيدية لا توجد إلا في عصبونات معينة وفي أمكنة
نوعية جدا على هذه العصبونات. فهي متراصة بكثافة على العصبونات التي تحرر
«الگابا» GABA الذي يَعدُّ الناقل العصبي المثبط
inhibitor الرئيسي في الدماغ، (فهي تأمر
العصبونات المتلقية receptient بأن توقف
اضطرامها). هذا وتتوضع المستقبلات CB1 كذلك
بالقرب من المشبك synapse، الذي يشكل نقطة التماس
بين عصبونين. ويوحي هذا التوضع بأن المستقبلة الكانابينوئيدية معنية بشكل ما
بنقل الإشارة عبر المشابك التي تستخدم الگابا GABA.
ولكن، لماذا تتضمن المنظومة التأشيرية الدماغية مستقبلة لشيء ما ينتجه نبات؟
أين تفعل المرهوانا فعلها(*****)
يرتبط العقار (المخدِّر) كانابيس ساتيفا Cannabis sativa بالمستقبلات الكانابينوئيدية الخاصة بالدماغ في باحات areas مختلفة منه، بما في ذلك تلك الموضحة أدناه. ويفسر هذا النفوذ الواسع الانتشار التأثيرات المتنوعة لهذا العقار (المخدِّر) وأقربائه التي يصنعها الدماغ، كما يوفر فرصا مثيرة لاستنباط أدوية تستطيع بشكل نوعي استهداف مواضع معينة لغرض التحكم، مثلا، في الشهية والألم.
|
أُمثولة الأفيون(******)
لقد طُرح السؤال نفسه في السبعينيات من القرن الماضي
حول المورفين الذي هو مركب يستخلص من نبات الخشخاش، ووُجد أنه يرتبط بمستقبلات
تدعى مستقبلات الأفيون في الدماغ. وقد اكتشف العلماء أخيرا أن الناس يصنعون
أفيوناتهم الخاصة المسماة «إنكيفالينات» و«إندورفينات»(5). وببساطة يختطف
المورفين هذه المستقبلات المسؤولة عن الأفيونيات الدماغية.
التأشير القهقري(*******)
وجد الباحثون أن القنبيات الداخلية المنشأ (أو الكانابينوئيدات الداخلية) تشارك في التأشير القهقري، وهو شكل من الاتصال في الدماغ لم يكن معروفا في السابق. فبدلا من أن يجري بالطريقة الاعتيادية من العصبون قبل المشبكي (الذي يطلق الناقل العصبي) إلى العصبون بعد المشبكي (الذي يتلقى الناقل العصبي)، تعمل القنبيات الداخلية رجوعا، إذ تسير من الخلية بعد المشبكية إلى الخلية قبل المشبكية. وعلى سبيل المثال، يستطيع الكانابينوئيد الداخلي 2-AG الذي تطلقه خلية بعد مشبكية أن يجعل خلية أخرى قبل مشبكية تقلل من إفرازها للناقل العصبي التثبيطي inhibitry المسمى گابا GABA باتجاه الخلية بعد المشبكية (انظر الرسوم التخطيطية).
فإذا أصاب الگابا المنطلق من عصبون قبل مشبكي خلية بعد مشبكية في نفس وقت وصول إشارات استثارية excitatory (كتلك التي يحملها الناقل العصبي گلوتامات) إلى الخلية ذاتها (أعلاه)، فإن هذا الگابا يستطيع منع الخلية بعد المشبكية من الاضطرام. ولكن إذا بعثت تغيرات في مستويات الكالسيوم في العصبون بعد المشبكي إنتاج الليپيد 2-AG (في الأسفل)، فإن هذا الكانابينوئيد الداخلي سيرجع إلى مستقبلته (CB1) على العصبون المولد للگابا. وفي عملية تعرف بكبت التثبيط المحرّض بنزع الاستقطاب (DSI)، سوف يمنع هذا الكانابينوئيد الداخلي إطلاق الگابا، وبذلك يسمح للإشارات الاستثارية بأن تفعِّل الخلية بعد المشبكية.
|
لقد بدا من المحتمل أن شيئا ما مماثلا يحدث مع
المركب THC والمستقبلة الكانابينوئيدية. فبعد 28
عاما من تعيين <ماكولام> المركب THC، اكتشف هو
نفسه في عام 1992 حمضا دسما fatty
acid صغيرا يتولد في الدماغ ويرتبط بالمستقبلة
CB1 ويحاكي جميع فعاليات المرهوانا. وقد سماه
«أنانداميد» anandamide (تيمُّنا بالكلمة
السنسكريتية «أناندا» التي تعني «طوبى».) وفيما بعد اكتشف بيوميلّي> و [من جامعة كاليفورنيا في إيرڤين] أن ليپيدا آخر هو «-2
أراشيدونويل گليسرول» (2-AG) يكون أكثر وفرة في
مناطق دماغية معينة من الأنانداميد. ويعتبر هذان المركّبان معا هما القنبيات
الداخلية المنشأ endogenous الرئيسية. (ومؤخرا
حدد الباحثون ما يشبه قنبيات أخرى داخلية المنشأ، ولكن أدوارها غير مؤكدة). ومن
الواضح أن كلتا المستقبلتين الكانابينوئيديتين تطورتا جنبا إلى جنب مع القنبيات
الداخلية كجزء من منظومة الاتصال الخلوية الطبيعية. وتصادف أن تتشابه المرهوانا
مع القنبيات الداخلية بالقدر الذي يكفي لتفعيل
activation المستقبلات الكانابينوئيدية.
إن النواقل العصبية
neurotransmitters التقليدية ذوّابة في الماء وتختزن في رزم صغيرة
بتراكيز عالية (تسمى حويصلات vesicles) بانتظار
أن يحررها العصبون. فعندما يضطرم fires عصبون ما
مرسلا إشارة كهربائية تسري في محواره axon وصولا
إلى نهايات ذلك المحوار (التي تسمى النهايات المشبكية) تتحرر النواقل العصبية
من هذه الحويصلات لتجتاز فضوة بين خلوية intercellular
بالغة الصغر (تسمى الفالق المشبكي(6)) وصولا إلى مستقبلات خاصة بها على سطح العصبون المتلقي (أو العصبون بعد المشبكي(7)). وبالمقابل، فإن القنبيات
الداخلية هي دهون غير مختزنة، بل يتم اصطناعها سريعا من مكونات الغشاء الخلوي.
وبعد ذلك تتحرر من أمكنة تمتد في جميع أرجاء الخلايا حينما تزداد كميات
الكالسيوم في داخل العصبون أو حينما تتفعل مستقبلات معينة مقترنة بالپروتين
G.
شكّلت القنبيات
(الكانابينوئيدات) cannabnoids، باعتبارها نواقل عصبية غير معهودة،
لغزا من
الألغاز. ولم يستطع أحد أن يبين لسنوات عديدة الدور الذي تؤديه في الدماغ.
وباعتبار القنبيات نواقل عصبية غير معهودة، فقد طرحت
لغزا، ولسنوات عديدة لم يستطع أحد أن يتبين الدور الذي تؤديه القنبيات في
الدماغ. ففي أوائل التسعينيات من القرن الماضي، برز الجواب عن ذلك بأسلوب ملتو
نوعا ما. فقد وجد علماء (ومن بينهم أحدنا ـ Alger
ـ وزملاؤه في كلية طب جامعة ميريلاند) شيئا غير عادي لدى دراسة العصبونات
الهرمية التي تؤلف الخلايا الرئيسية للحصين. فبعد ارتفاع تراكيز الكالسيوم داخل
هذه الخلايا لمدة قصيرة، تناقصت إشارات التثبيط الوافدة على شكل گابا
GABA والواصلة من العصبونات الأخرى.
وفي الوقت ذاته، رأى مارتي> (الذي يعمل الآن في مختبر فيزيولوجية الدماغ التابع لجامعة رينيه ديكارت
بباريس) وزملاؤه الفعل نفسه في الخلايا العصبية للمخيخ. ولقد كانت هذه
المشاهدات غير متوقعة لأنهم اقترحوا أن الخلايا المتلقية كانت بشكل ما تؤثر في
الخلايا الناقلة transmitting
cells وأن الإشارات في الأدمغة المكتملة (على
مبلغ علم كل واحد) تسير عبر المشابك في اتجاه واحد فقط؛ أي من الخلية قبل
المشبكية إلى الخلية بعد المشبكية.
منظومة تأشير جديدة(********)
لقد بدا من الممكن أن نوعا جديدا من الاتصال
العصبوني قد اكتُشِف، فبادر الباحثون إلى فهم هذه الظاهرة، وسمّوا الفعالية
الجديدة (DSI)، اشتقاقا من عبارة «كبت التثبيط
المحرّض بنزع الاستقطاب» depolarization-induced
suppresson of
inhibition. وكيما يحدث هذا الكبت (DSI)
لا بد أن يكون مرسال messenger غير معروف قد
انتقل من الخلية بعد المشبكية إلى الخلية قبل المشبكية المحرِّرة للگابا وأوقف
بطريقة ما تحرر الناقل العصبي.
لقد عُرف أن مثل هذا التأشير الراجع، أو «القهقري»
retrograde، يحدث فقط أثناء تنامي الجهاز العصبي.
فإذا كان له أن يشترك في التآثرات بين العصبونات البالغة، فإن ذلك سيكون
اكتشافا محيرا، لأنه علامة على احتمال اشتراك عمليات أخرى في النقل القهقري في
الدماغ كذلك. ويمكن أن ييسِّر التأشير القهقري أنماطا من معالجة عصبونية
للمعلومات كانت صعبة أو مستحيلة التحقيق بالنقل المشبكي المعهود. ولذلك فقد كان
من المهم أن نتعرف خواص الإشارة القهقرية هذه. ولكن بقيت هويتها مضللة في حينه.
ولئن تم اقتراح عدد كبير جدا من الجزيئات، فإن أيا منها لم يصلح حسبما يُتوقّع.
ومن ثم، في عام 2001، ذكر أحدنا (نيكول) وزملاؤه [في
جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو] و،
في الوقت ذاته ولكن بشكل مستقل، ومجموعة بقيادة كانو> [من جامعة كانازاوا في اليابان] أن كانابينوئيدا (يحتمل أنه 2-AG)
يناسب تماما معايير المرسال غير المعروف. وقد وجدت كلتا المجموعتين أن ثمة
عقارا ما حاصرا bloking للمستقبِلات
الكانابينوئيدية الموجودة على الخلايا قبل المشبكية يمنع الكبت
DSI، وعلى العكس من ذلك فإن العقاقير المنشِّطة
للمستقبلة CB1 تحاكي الكبت
DSI. وسرعان ما بينت هاتان المجموعتان، شأنهما شأن آخرين غيرهما، أن
الفئران المفتقرة إلى المستقبلات الكانابينوئيدية لا تقوى على توليد الكبت
DSI. أما حقيقة أن هذه المستقبلات تتوضع على
النهايات قبل المشبكية للعصبونات الگاباوية GABA
neurons فإنها الآن مفهومة تماما. فهذه
المستقبلات مستنفرة لاكتشاف القنبيات الداخلية المتحررة من أغشية الخلايا بعد
المشبكية المجاورة والاستجابة لها.
وبمرور الزمن أثبت الكبت DSI
أنه جانب مهم للفعالية الدماغية. فكبح التثبيط
inhibition يُحسّن بشكل مؤقت، شكلا من التعلم يدعى «التمكين الطويل
الأمد» long-term
potentiation، وهو العملية التي يتم بوساطتها
اختزان المعلومة عبر تقوية المشابك. وغالبا ما يتضمن مثل هذا الاختزان ونقل
المعلومة مجموعات صغيرة، وليس مجموعات كبيرة، من العصبونات. وتكون القنبيات
الداخلية (أو الكانابينوئيدات الداخلية) ملائمة جيدا لأن تفعل فعلها في هذه
التجمعات الصغيرة. وباعتبار القنبيات الداخلية جزيئات ذوّابة بالدهون، فإنها لا
تنتشر فوق مسافات كبيرة في الوسط المائي خارج الخلوي
extracellular للدماغ. وتساعد آليات القبط uptake
والتقويض degradation الشّرهة على ضمان أن تفعل
هذه القنبيات الداخلية فعلها في حيز محدود ولفترة محدودة. وهكذا فإن الكبت
DSI، الذي يعتبر تأثيرا موضعيا قصير الحياة،
يمكّن العصبونات الفرادى من الانفكاك لمدة وجيزة عن جاراتها وتكويد
encode المعلومات.
ثمة حشد من مكتشفات أخرى تملؤها ثغرات في فهم
الوظيفة الخلوية للقنبيات الداخلية (أو الكانابينوئيدات الداخلية). فلقد أظهر
الباحثون أن هذه النواقل العصبية حينما تلتحم بالمستقبلة
CB1، يمكنها في بعض الحالات أن تمنع الخلايا قبل المشبكية من أن تحرر
نواقل عصبية استثارية excitatory. فقد ذكر ريجيهر> [من جامعة هارڤارد] و
[الموجود حاليا في جامعة ستانفورد] أنهما وجدا في المخيخ أن القنبيات الداخلية
المتوضعة على النهايات العصبية الاستثارية تساعد على تنظيم الأعداد الغزيرة من
المشابك التي تضطلع بالتحكم الحركي المتناسق وبالتكامل الحسي. ويفسر هذا
الاضطلاع، ولو جزئيا، خلل الوظيفة الحركية الخفيف والمدركات الحسية المتغيرة
التي تصاحب تدخين المرهوانا.
وكذلك بدأت الاكتشافات الحديثة تربط بدقة بين
التأثيرات العصبونية للقنبيات الداخلية وبين التأثيرات الفيزيولوجية والسلوكية
لهذه القنبيات. وفي العادة يبدأ العلماء الذين يدرسون أساس القلق بتدريب
القوارض على الربط بين إشارة معينة وبين شيء ما يخفيها. فهم يوجهون صدمة خفيفة
سريعة إلى أقدام الفئران في الوقت نفسه الذي يولدون به صوتا ما. وبعد فترة
قصيرة تجمد حركة الحيوان بانتظار الصدمة إذا ما سمع الصوت، ولكن في حال تكرار
إسماع الحيوان الصوت بدون توجيه الصدمة إلى قدميه فإنه لا يعود يخاف لدى سماعه
الصوت، أي إنه يُقلع عن تواؤم الخوف fear
conditioning، وهو ما يسمى الانطفاء
extinction. وفي عام 2003 أظهر مارسيكانو> [من معهد ماكس پلانك للطب النفسي في ميونيخ] ومساعدوه أن الفئران
التي تفتقر إلى المستقبلات CB1 السوية تتعلم
بسهولة الخوف من الصوت المترافق بالصدمة، في حين تخفق الفئران المحرومة من
المستقبلات CB1 السليمة في عدم الخوف حين توقّف
اقتران الصوت بالصدمة.
قد يكون العون في طريقه إلى:(*********)
القلق: توحي التجارب بأن قلة المستقبلات الكانابينوئيدية الداخلية، أو عدم كفاية إطلاق القنبيات الداخلية (الكانابينوئيدات الداخلية) نفسها، تسببان القلق المزمن والاضطراب الكربي بعد الرّضي post traumatic. ولتخفيف القلق يعمل الباحثون الآن على منع تفكك الأنانداميد anandamide، وبذلك يزيدون الكمية المتاحة منه للتأثير في المستقبلات.
الشهية والبدانة: أثبت الدواء المضاد للغثيان والمعروف باسم درونابينال، وهو مركب أساسه كانابينوئيد، أنه ينشط الشهية لدى مرضى الكبت المناعي، مما يوحي بإمكانية أن يكون ثمة مضاد antagonist (على شكل مركب يحصر block المستقبلات الكانابينوئيدية) يستطيع كبت الشهية. ولقد كانت التجارب السريرية على مضاد واعدة، مع أن جرى تسجيل العديد من التأثيرات الجانبية.
الغثيان: ثمة عقاقير في الأسواق، ومن ضمنها الدرونابينال والنابيلون، تشبه المكون الفعال للمرهوانا والمركب THC، وبذلك تقلل هذه العقاقير الغثيان الذي يصاحب المعالجة الكيميائية.
الاضطرابات العصبية: يسبب الدوپامين (وهو ناقل عصبي مهم للسرور والحركة) إطلاق القنبيات الداخلية (الكانابينوئيدات الداخلية). ويأمل الباحثون عبر تنظيم فعالية القنبيات الداخلية المساعدة على معالجة داء پاركنسون والإدمان على المخدرات وأمراض أخرى تتضمن المنظومة الدوپامينية.
الألم: لوحظت وفرة جمّة بالمستقبلات الكانابينوئيدية في بضعة مراكز دماغية، ولذلك فقد تساعد الأدوية التي تفعل فعلها في هذه المستقبلات على تفريج الألم.
إن مريضة السرطان أعلاه هي واحدة من مرضى عديدين يدخنون الماريجوانا لتفريج الغثيان الذي تسببه المعالجة الكيميائية. ولا بد أن تساعد المستحضرات الصيدلانية، التي تعزز أو تحصر block التأثيرات الانتقائية للقنبيات (الكانابينوئيدات) الخاصة بالدماغ، على معالجة حالات مختلفة، بما في ذلك تلك الواردة بالقائمة في اليسار. | |
تشير هذه النتائج إلى أن القنبيات الداخلية مهمة في
إقصاء المشاعر السيئة والألم اللذين تسببهما ذكريات الخبرات السالفة. وتبرز هذه
الاكتشافات إمكانية تورّط الانخفاض الكبير في إعداد المستقبلات الكانابينوئيدية
أو التحرير الخاطئ للقنبيات الداخلية المنشأ في حدوث «متلازمة الكَرب بعد
الرّضِّي» post-traumatic
stress syndrome
والرهابات phobias وأشكالٍ أخرى من الألم المزمن.
ويتلاءم هذا الاقتراح مع حقيقة أن بعض الناس يدخنون المرهوانا لتقليل القلق.
كما يغدو معقولا، وإن لم يكن مثبتا، أن المحاكيات الكيميائية لهذه المواد
الطبيعية قد تسمح لنا بوضع الماضي وراء ظهورنا حين لا تعود الإشارات (التي
تعلمنا إرفاقها بأخطار معينة) ذات معنى في حياتنا الحقيقية.
استنباط معالجات جديدة(**********)
لم يتم بعد اكتشاف جميع أدوار المَرْهوانا الخاصة
بالدماغ، بيد أن الاستبصارات المتعلقة بالقنبيات الداخلية (الكانابينوئيدات
الداخلية) بدأت تساعد الباحثين على تصميم معالجات تستفيد من الخواص الطبية
لنبات القنب الهندي. وتتاح الآن تجاريا بضعة نظراء للمركب
THC، مثل النابيلون
nabilone والدرونابينول dronabilone.
ويقاوم هذان المركبان الغثيان الدي تسببه المعالجة الكيميائية؛ وكذلك يُنَشط
الدرونابينول الشهية لدى مرضى الإيدز. وثمة قنبيات أخرى تفرِّج الألم في الكثير
من الأوجاع والاضطرابات. يضاف إلى ذلك أن مضادا للمستقبلة
CB1، وهو مركب يحصر blocks
هذه المستقبلة ويجعلها غير فعّالة، قد استخدم في بعض التجارب السريرية لمعالجة
البدانة. ولكن هذه العقاقير جميعها، على الرغم من كونها واعدة، ذات تأثيرات
متعددة لكونها ليست نوعية تختص بالمنطقة التي يراد استهدافها. وبدلا من ذلك
فإنها تذهب إلى كل مكان في الجسم فتسبب ردود فعل مضادة مثل الدوار (الدوخة)
والنعاس ومتاعب في التركيز وشذوذات في التفكير.
ثمة طريقة للالتفاف على هذه المشكلات تتمثل في تحسين
دور القنبيات الداخلية الخاصة بالجسم. فإذا أمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح،
فإن القنبيات الداخلية يمكن ألا تُستحضر إلا في ظروف معينة وفي المواقع التي
تحتاج إليها فقط، وبذلك يمكن تفادي المخاطر التي تصاحب التنشيط الواسع الانتشار
وغير الانتقائي للمستقبلات الكانابينوئيدية. ولفعل ذلك، ينكب <پوميلّي> وزملاؤه
حاليا على تطوير عقاقير تمنع «الأنانداميد الكانابينوئيد الداخلي»
endocannabinoid
anandamide من التفكك بعد انطلاقه من الخلايا. ونظرا إلى أن هذا
الأنانداميد لم يعد يتفكك بسرعة، فإن تأثيراته المفرِّجة للقلق تدوم مدة أطول.
يبدو أن الأنانداميد يمثل أغزر القنبيات الداخلية في
بعض مناطق الدماغ، في حين يسود 2-AG في مناطق
دماغية أخرى. ويمكن أن يفضي الفهم الأفضل للمسارات الكيميائية التي تولِّد كلا
من هذين القنبيين الداخليين إلى عقاقير تؤثر في أحدهما أو في الآخر فقط. يضاف
إلى ذلك أننا نعرف أن القنبيات الداخلية لا تتولد حين اضطرام العصبونات لمرة
واحدة فقط، بل حين تضطرم خمس مرات أو حتى عشر مرات من دون توقف. ويمكن تطوير
عقاقير تغير معدل الاضطرام ومن ثم كمية الكانابينوئيد المنطلق. وثمة سلف لهذه
الفكرة يتمثل في صف من مواد مضادة للاختلاج تكبت الفعالية العصبونية المسببة
لنوبات الصرع دون أن تؤثر في الفعالية السوية.
ناسكون هنود يحضِّرون البهانگ bhang والگانگا ganga في هذه اللوحة التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر. ونشير هنا إلى أن تاريخ المرهوانا يمتد بعيدا قبل هذا التاريخ، إذ توجد سجلات مكتوبة عن استعمالها الطبي في النصوص الصينية والمصرية القديمة. أما اكتشاف المكوِّن الفعال للمرهوانا في الستينيات من القرن الماضي (وهو المركب THC) فقد أفضى أخيرا إلى تحديد هوية المرهوانا الخاصة بالدماغ. |
وأخيرا، ثمة مقاربات غير مباشرة يمكن أن تستهدف
العمليات ذاتها التي تنظم القنبيات الداخلية (الكانابينوئيدات الداخلية). فمن
المعروف جيدا أن الدوپامين dopamine ناقل عصبي
مفقود في مرض باركنسون، ولكنه يؤدي كذلك دورا رئيسيا في منظومات الإثابة
الدماغية(8). وتولِّد عدة عقاقير مبهجة أو إدمانية (بما في ذلك النيكوتين
والمورفين) تأثيراتها ولو جزئيا عن طريق تَسبُّبها في إطلاق الدوپامين في عدة
مراكز دماغية. ويتبين أن الدوپامين يمكنه التسبب في إطلاق القنبيات الداخلية،
وقد وجدت مجموعات بحث مختلفة أن ناقلين عصبيين آخرين، هما الگلوتامات
والأستيلكولين، يبادران أيضا إلى اصطناع القنبيات الداخلية وإطلاقها. وبالفعل،
يمكن أن تكون القنبيات الداخلية باعثا لتأثيرات كانت تعزى في السابق لهذه
النواقل العصبية وحدها. وبدلا من استهداف المنظومة الكانابينوئيدية بشكل مباشر،
يمكن تصميم عقاقير تؤثر في النواقل العصبية التقليدية. ويمكن استغلال الفوارق
الجهوية regional في منظومات النواقل العصبية
لضمان عدم إطلاق الكانابينوئيدات الداخلية إلا حيث توجد حاجة إليها وبكميات
مناسبة.
وبطريقة لافتة للنظر، قادت تأثيرات المرهوانا قصة
الكشف الهادئة للقنبيات الداخلية. ويبدو أن المستقبلة
CB1 موجودة في جميع أنواع الفقاريات، مما يوحي بأن المنظومات المستخدمة
للمرهوانا الخاصة بالدماغ موجودة منذ ما يقرب من 500 مليون سنة. وخلال ذلك
الزمن تكيفت القنبيات الداخلية لتخدم وظائف عديدة وغامضة الدلالة على الأغلب.
صحيح أننا عرفنا أنها لا تؤثر في تشكل الخوف، بيد أنها تؤثر في نسيان الخوف.
كما عرفنا أنها لا تؤثر في قابلية تناول الطعام، ولكنها تؤثر في الرغبة
بالطعام، وهلم جرا. أما وجودها في أجزاء الدماغ المترافقة بالسلوك الحركي
المعقد وبالمعرفية cognition والتعلم والذاكرة،
فإنه يعني أن هناك الكثير المتبقي الذي ينتظر الاكتشاف بخصوص الاستخدامات التي
أوجد التطور من أجلها هذه المراسيل messengers
المهمة.