سبينوزا فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1432
الموقع : العقل ولاشئ غير العقل تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..
من اقوالي تاريخ التسجيل : 18/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5
| | ثورة التغيير التاريخية - واقع .. وتوقّعات | |
[b]حين اندلعت ثورة التغيير من تونس، وتطايرت شراراتها بسرعة الريح، من مراكش والجزائر غربا الى البحرين وعمان شرقا، على نحو لم يعرفه العالم العربي، قديمه وحديثه.. فانها، بمداها الجغرافي، وتتابعها الزمني، أشارت الى أن أسوار القطرية والتجزئة التي أقامها الاستعمار وعزّزتها الأنظمة الانفصالية، فشلت في الوقوف في وجه طوفان التواصل الكفاحي للشعوب العربية، وأكدت وحدة المصير والطموحات المشتركة للشعوب العربية، وبشّرت بتجدد الطموح العريق للوحدة العربية. واذا كانت وسائل الاتصال العصرية لعبت دورا مشهودا في هذا المجال، لكن ما كان لها أن تحقق هذه النتائج لولا وقوع مفاعيلها على روابط ومقوّمات تاريخية بين الشعوب العربية.
في الوقت ذاته، رسمت ثورة الملايين في الأفق، تباشير نهوض جديد لحركة تحرر قومي عربية، بخصائص وسمات عامة تتميّز عن تلك الحركة التي سادت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ووقفت على رأسها مصر عبد الناصر.
فرغم ما حققته تلك الحركة، في حينه، من انجازات تحررية واجتماعية، فان عداءها للديموقراطية وعزلها للجماهير عن المشاركة المنظمة والواعية في صناعة مستقبلها، وهيمنة عقلية الثكنة العسكرية، التي جاء منها عبد الناصر وزملاؤه، أسفرت بالنتيجة، ليس فقط عن ضياع تلك المكتسبات، بل وعن هزيمة حزيران 1967 المريعة؛ مما أدّى الى انحسار خطير لتلك الحركة، وما ترتّب على ذلك من نشوء فراغ، تقدّمت الحركات الاصولية والنزعات العدميّة لملئه.
ومعلوم أن النموذج المصري المعادي للديموقراطية شكّل نقطة الالتقاء الأساسية مع بقية الأنظمة العربية في المنطقة. ومنذئذ، غدا هذا النموذج السّمة المميّزة للنظام العربي من المحيط الى الخليج، حتى جاءت ثورة الملايين، أخيرا، تستهدف اسقاطه قبل أيّ شيء آخر، ولتصوغ هذه الملايين بارادتها الحرة بديلا يبشّر، ضمن معطياته، بنهوض جديد لحركة تحرّر قومي عربية، عصرية، ديموقراطية، ذات سمات انسانية، علمانية دون قيود أو اقصاء لأي مواطن، بسبب الانتماء السياسي أو الأيديولوجي أو الدين أوالعرق أو القومية.
ولدى محاولة تقدير المدى الزمني، وحجم التضحيات التي قد تتطلّبها هذه الثورة التاريخية حتى انجاز أهدافها الأساسية، لابدّ من الأخذ في الحسبان مجموعة خصائص، لعلّ أهمها : أولا – أنها ثورة شعبية بامتياز، سلاحها الوحيد، لدى انطلاقتها، ارادة الملايين، دون عنف، وكذلك دون عسكر يحدّدون آفاق مسيرتها ومستقبلها سلفا. وهي، بهذا المعنى تقدّم نموذجا خلاّقا للعالم أجمع، ستكون له تداعياته، التي لا يمكن تقدير أبعادها بعد.
ثانيا – هي ليست مجرّد انتفاضة خبز وحسب، كما وقع وتكرّر، في العقود الأخيرة، في أكثر من بلد عربي. وليست كذلك وثبة سياسية فقط، كما وقع في مصر، عام 1946، وأسقطت معاهدة صدقي - بيفن البريطانية، وكذلك في العراق، عام 1948، وأسقطت معاهدة بورتسموث البريطانية، وفي الاردن ضدّ حلف بغداد 1955، وقبل ذلك – بعد الحرب العالمية الثانية – في الشمال الافريقي ضدّ الاستعمار الفرنسي- والانتفاضات الفلسطينية ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، وغيرها.. بل ثورة تداخلت فيها الاهداف الاجتماعية والسياسية. ومن هنا راديكاليتها المستهدفة تغيير الأنظمة وليس مجرد الوجوه والحكومات.
ثالثا – هي ثورة مفتوحة، وليست حصرا بين قوى داخلية، يحسمها توازن القوى بينها، بل لها امتدادات اقليمية ودولية، توازي ما للمنطقة العربية من أهمية، في المعايير الدولية، من حيث موقعها الاستراتيجي وما تختزنه في باطنها من احتياطي هائل من النفط والغاز بشكل خاص. وهذا، بالتالي، لا يستثني احتمالات التدخل الخارجي.
رابعا – أن ثورة التغيير كشفت، منذ لحظة اندلاعها، تخلّف أحزاب المعارضة التقليدية وعجزها عن التصدّي لمهمة تعبئة الملايين وقيادتها، وفق برامج وخطط واعية، في ساح المعركة. كما كشفت أن نظام القمع البوليسي الطويل أفلح في تدجين هذه الاحزاب، بالارهاب أو الافساد، بنسب متفاوتة، سواء داخل البلد الواحد، أو بين بلد عربي وآخر. وقد فرض ذلك على الشباب الثائر، الذي تصدّى لدور الطليعة في هذه الثورة، أن يجتاز دروب التجربة والخطأ المكلفة في نار المعركة. بمعنى آخر، فانفجار ثورة التغيير العربية وعلى هذا النطاق الواسع وما حققته حتى الآن، يؤكد نضوج العامل الموضوعي لهذه الثورة؛ وإن نجاح أهدافها ومدى هذا النجاح، بل واحتمالات النكسة أو حتى الاجهاض، في هذا البلد العربي أو ذاك، يتوقّف على مدى توفر العامل الذاتي، أي القوى الثورية المنظمة والواعية، القادرة على التصدي لقيادة هذه الثورة التاريخية في المواقع المختلفة.
خامسا – أنه اذا تماثلت صور انطلاقة هذه الثورة، في مختلف البلدان التي شملتها، حتى الان، فان مسارها اللاحق، وطبيعة مراحلها، اختلفت بمقدار التباين، بين بلد عربي وآخر، في عدد من المقوّمات الأساسية لكل مجتمع : مدى تطوّره الاجتماعي – السياسي؛ وجود أوعدم وجود مجتمع مدني ومدى رسوخه؛ وجود علاقات قبلية ومدى قوّتها وتأثيرها؛ وجود جيش عصري، ومدى قوّته؛ وجود نفط وغاز وحجمهما، وأخيرا، هل توجد علاقات مع اسرائيل وطبيعتها.
بمعنى آخر: فثورة بهذا الاتساع الذي يغطّي العالم العربي، وهذه الأهداف السياسية – الاجتماعية الطموحة، وهذه الطبيعة غير العنيفة من جانب الملايين، ما كان لها أن تنجز أهدافها في معركة واحدة. أي أنها نوع من حرب متعددة المعارك، تحتمل الكرّ والفرّ، والهجوم والدفاع، وحتى النكسات المؤقتة.. وآلياتها لا تستثني لجوء أنظمة القمع الى الخديعة والغدر، ولا تجنيد غرائز الطائفية والروابط القبلية والاستعانة بالمرتزقة، ولا استعمال العنف الدموي بمدى أو اخر، ولا حتى تنظيم المذابح المروعة، ولا احتمالات التحوّل الى حرب أهلية، وما يهيّئه ذلك من مخاطر التدخل الأجنبي – كما هو جار في ليبيا – وما يحمله ذلك من احتمالات تقسيم البلاد.
لكن ما يمنح الثقة بانتصار ارادة الشعوب العربية، آخر الأمر، في هذه الثورة التاريخية الفريدة من نوعها، أن هذه الشعوب، وبعد عقود من القمع البوليسي الرهيب، والظلم الاجتماعي المتفاقم، كسرت حاجز الرعب، الذي كان يشلّ ارادتها وحركتها. وحين اندلعت الثورة جذبت الى ساحة المعركة ملايين من النساء والرجال، كانت قبل ذلك مهمّشة، لتشارك لأول مرة في نشاط سياسي هادف ومنظّم.
وكان هذا هو الانجاز الأهم الذي حرّر المارد من قمقمه، وأتاح بالتالي للملايين أن تتذوّق طعم النصر، وفرض ارادتها، باسقاط رأس النظام في كل من تونس ومصر حتى الان، بينما الآخرون يتحسسون رقابهم وكراسيهم، ويحاولون تفادي نفس المصير، بمختلف الوسائل، بما فيها الرشاوى المختلفة.لقد قلبت ثورة التغيير المعادلة بين هؤلاء الحكام وشعوبهم، فغدوا يرتعدون رعبا من ارادتها المتحررة، بعد أن كانوا يرعبونها بالارهاب البوليسي.
لقد أفرزت ثورة الملايين، بما حققته حتى الان، ديناميكيتها الخاصة، التي تضمن استمراريتها، حتى استكمال بقية أهدافها الاساسية، رغم المعوّقات والعراقيل المختلفة التي تعترض مسارها. وفي نار الثورة نضجت الملايين وطلائعها الشبابية، خلال أيام وأسابيع، ما يعادل سنين وعقود من الزمن العادي. ولا أدلّ على ذلك من سرعة مبادراتها التنظيمية ، وبلورة أهدافها الواضحة، وارتفاع مستوى يقظتها من محاولات الالتفاف على ثورتها، ولو أن هذه اليقظة تحتاج الى تطوير نوعي لا يتوقّف..
*أي شرق أوسط سيتشكّل من جديد؟* ليس تجاوزا للحقيقة، ولا رجما بالغيب، التقرير بأن شرق أوسط الغد لن يكون كشرق أوسط الأمس، في ضوء مفاعيل ثورة التغيير، التي تغطّي المنطقة من المحيط الى الخليج. ومن جانبها، حدّدت الملايين التي نزلت الى الشوارع والميادين، معالم الشرق الأوسط الذي تتوق اليه. انه ببساطة، الذي يكفل لها، أخيرا، الحرية والكرامة، والعيش كبشر في بداية القرن الحادي والعشرين. بكلمة أخرى، الذي ينقلها من خارج التاريخ الى مكانها اللائق في العالم المعاصر.
أما الولايات المتحدة، فقد سبق لها أن طرحت، على لسان بوش الابن، في أيار 2003، أي مباشرة عقب الغزو الاميركي للعراق وتدمير دولته، مشروعا باسم "الشرق الأوسط الكبير". أما لماذا الكبير، فذلك لتوسيع مداه من المحيط الأطلسي وحتى الباكستان، في ضوء الغزو الاميركي لكل من أفغانستان والعراق. وجدير بالتنويه في هذا السياق، أن الاتحاد الأوروبي طرح بدوره، آنذاك، مشروعه الخاص للشرق الأوسط.وفي صيف 2006، عادت وزيرة خارجية بوش ايّاه، كونداليسيا رايس، لتجديد الاعلان عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، لكن هذه المرّة من بيروت، حين توهّم الاميركيون أن الجيش الاسرائيلي الغازي سينجز تصفية المقاومة اللبنانية.
حينها، اعتبرت رايس الدمار المريع الذي كان يحدثه العدوان الاسرائيلي، بالتنسيق الكامل مع واشنطن، بأنه آلام المخاض للمولود الجديد ! أي الشرق الاوسط الكبير. لكن، كما هو معروف، فالمحاولتان الأولى والثانية لفرض هذا المشروع الاميركي، كان مصيرهما الفشل.
وحين اندلعت ثورة التغيير التاريخية، في العالم العربي، فقد راحت واشنطن، بعد استيعاب المفاجأة، تركّز جهودها على محاولة التأثير على مسار هذه الثورة، لحصرها عاموديا، في تغيير الوجوه لا الأنظمة، وأفقيا، بسدّ الطريق، ان أمكن، على امتدادها الى مواقع أخرى ولا سيما النفطية. ومعروف، في هذا السياق، أن واشنطن وعلى مدى ثلاث ادارات متعاقبة فيها، كانت تدعو الحكام العرب الى ممارسة الديموقراطية على الطريقة الاميركية، وذلك في ضوء رصدها عن كثب، لمدى عزلة هؤلاء الحكام وتعفّن أنظمتهم، وتقلّص قاعدة حكمهم حتى انحصرت في تحالف البرجوازيتين الطفيليتين : الكومبرادورية ( وكلاء الشركات الأجنبية ) والبيروقراطية؛ وذلك لتفادي انفجارات مفاجئة تخرج عن السيطرة، وتتجاوز تغيير الوجوه – كما تقضي الديموقراطية الاميركية – الى تغيير الأنظمة، التي أقيمت في المنطقة، وفق المعايير الاميركية، من قواعد الليبرالية الجديدة الى تعليمات البنك وصندوق النقد الدوليين.
ولما كانت ثورة التغيير بحجم العالم العربي كله، فقد حسم هذا الواقع استحالة تطويق هذه الثورة والسيطرة عليها بالوسائل العسكرية، سواء من الولايات المتحدة أو غيرها. علاوة على ذلك، فقد صادف انفجار هذه الثورة والولايات المتحدة منهكة من حربين خاضتهما في المنطقة، ومن نتائج الأزمة المالية -الاقتصادية الأخيرة.
في ضوء هذا الواقع، يبدو أن واشنطن اعتمدت في تحركاتها، للتعاطي مع الوضع الناشيء، على عدد من الوسائل والاليات، منها المناورة والخداع والتظاهر بالتماهي مع أهداف ثورة التغيير، والسعي لنشر الفتن، وترويج الشائعات، وكذلك نشر الفوضى أو ما أسمته في حينه، كونداليسا رايس " الفوضى الخلاّقة "، بحيث يسهل الاصطياد في المياه العكرة، وتحريك أتباعها القادرين على الحركة في هذه الأجواء الملتهبة،كما بدا في إرسال السعودية لقوات " درع الخليج " الى البحرين، وتحريك أنصارها في لبنان – كما بدا في خطاب الحريري الأخير- لتفجير الوضع هناك. وتراهن واشنطن، فيما يبدو، على مجموعة هذه النشاطات، بحيث اذا لم تفلح في ترتيب المنطقة وفق مخططاتها، فعلى الأقل تحدّ ما أمكن من راديكالية الحركة والحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من الأوضاع السابقة.
ففي مصر، التي ستؤثّر نتائج الثورة فيها تأثيرا عميقا على مستقبل المنطقة كلها، وعلى الاستراتيجية الاميركية في المنطقة والعالم، وعلى العلاقة مع اسرائيل، وتترك بصماتها على الوضع الدولي كله، فقد آثرت واشنطن، كما يبدو، بعد اندلاع الثورة فيها، عدم تشجيع الجيش المصري على التدخّل لانقاذ مبارك، والاصطدام بالملايين التي نزلت الى الشارع، خشية أن يؤدّي مثل هذا الاصطدام – الذي ينبغي الافتراض بأنه لن يمرّ دون اراقة دماء – الى انقسام الجيش المصري نفسه، بين قيادته المرتبطة بالبنتاغون الاميركي، وقواعده من الجنود والضباط الصغار الوطنيين، مأخوذ في الحسبان أنه جيش خدمة علم، وليس جيش احتراف، ويحوي سجلّه سابقة حركة الضباط (الصغار) الاحرار، عام 1952، بزعامة عبد الناصر.
وواضح من سياق الأحداث، أن واشنطن آثرت التخلّي عن مبارك، والرهان على دور هذا الجيش القوي، كاحتياطي أخير، لمحاولة احتواء حركة الملايين الراديكالية، وتحديد أفقها ما أمكن، بالمراوغة والمناورة، وتقديم تنازلات لا تنسف أسس النظام القديم، مع الرهان على شقّ حركة الملايين، باللعب على تباين المصالح الطبقية والايديولوجية للمشاركين فيها. لكن يبدو، بالمقابل، أن ارادة ويقظة الملايين، واصرارها على استكمال أهدافها العامة المتفق عليها، لا تستبعد، والحالة هذه، احتمالات الصدام، وجها لوجه، مع هذا الجيش، في مرحلة معيّنة من تطوّر هذه الثورة.
في الوقت ذاته تنهمك واشنطن في بلورة سيناريوهات أخرى، منها عقد تحالفات جديدة في مصر. وفي هذا السياق أشار المسؤولون الاميركيون، أكثر من مرّة، منذ اندلاع ثورة التغيير في مصر، الى أنهم لايعترضون على مشاركة جماعة الاخوان المسلمين في السلطة. ويبدو أن واشنطن تتطلّع أن يتجاوز مثل هذا التحالف مصر وحدها الى أقطار عربية أخرى. وفي هذا السياق، يجري التطلّع الى تجربة حزب " العدالة والتنمية " في تركيا كنموذج، مع تجاهل المقوّمات النوعية للتجربة التركية.
ولربما كانت زيارة الرئيس التركي " غول " لمصر، كأول رئيس أجنبي يزورها، بعد سقوط مبارك، لها علاقة في التطلّع لنسخ هذه التجربة. من جانبهم، أبدى الاخوان المسلمون، في مصر، مظاهر سخيّة على "اعتدالهم" و "براغماتيتهم". فلم ينضمّوا الى المعتصمين في ميدان التحرير إلاّ في اليوم الرابع للإعتصام، وحالما دعا عمر سليمان، الذي عيّنه مبارك، حينها، نائبا له، الى مفاوضات، هدفها الإبقاء على مبارك، استجابوا على الفور للدعوة، ثمّ أعلنوا بعد سقوط مبارك التزامهم بالمعاهدات والمواثيق الدولية التي وقّعتها مصر، والتي تأتي في مقدّمتها، بالطبع، اتفاقات كامب ديفيد المذّلة مع اسرائيل.
وحين دعا المجلس العسكري، الذي يحكم مصر بعد مبارك،الى الاستفتاء على التعديلات الجزئية على الدستور بدل تغييره، كما طالبت الملايين، كان تنظيم الاخوان مع حزب مبارك وحدهما من استجاب لهذه العملية الالتفافية، مشاركين بفعّالية في خداع الجمهور البسيط الذي لا يدقّق، عادة، في تفاصيل بنود الدستور ومدلولاتها.
*واشنطن، الاخوان المسلمون والجزيرة..* ورغم تواضع مشاركة الاخوان المسلمين في ثورة التغيير المصرية، فإن بعض الفضائيات، وخاصة "الجزيرة " التي تبثّ من قطر المعروفة بارتباطاتها الاميركية - الاسرائيلية القوية، و يديرها – أي "الجزيرة" - طاقم، للإخوان المسلمين نفوذ قويّ فيه، تلاقت في تغطياتها ليوميات الثورة في مصر مع السيناريو الاميركي السالف الذكر،حيث ضخّمت دور هؤلاء الاخوان في هذه الثورة، وسلّطت ضوءا خاصا على زيارة الشيخ القرضاوي لميدان التحرير، وهو الذي تحوّل من عالم دين الى داعية سياسي، يبارك ارسال قوّات "درع الخليج" الى البحرين لقمع ثورة التغيير فيها، بينما يحرّض المتظاهرين في سورية على التصعيد؛ وذلك في وقت تتجاهل فيه "الجزيرة" أو تختزل تغطية تحركات المعارضة في السعودية وغيرها من دول الخليج.وقد استحقّت "الجزيرة" على هذا الدور المديح الخاص من وزيرة الخارجية الاميركية، كلينتون، حيث صرحت، في الثاني من آذار 2011 ، أنه كان "للجزيرة"، "الريادة والسبق في تغيير طريقة تفكير الناس وتشكيل توجهاتهم".
لكن مواصلة شباب ثورة التغيير، في مصر، ضغطهم من أجل استكمال أهداف هذه الثورة، ورفضهم، وأمثالهم في تونس، مجرد اللقا بوزيرة الخارجية الاميركية – بناء على طلب منها– لدى زيارتها لتونس ومصر، لتقدير الموقف عن كثب، بعد اسقاط الرئيسين فيهما، مؤشر، يعزّز القناعة، على أن الفشل هو مصير المؤامرات والمناورات الاميركية لإجهاض ثورة التغيير التاريخية.
أما في بقية المواقع الملتهبة في المنطقة، فالاميركيون يتعاملون مع كلٍ منها بمكيافيليّة مفضوحة. ففي ليبيا النفطية، التزموا الصمت لإسبوع كامل، بعد اندلاع ثورة التغيير فيها وتعامل القذافي مع الجماهير العزلاء بلغة الرصاص من اللحظة الاولى، ليخرجوا بتصريحات متباينة، تنمّ عن محاولة امساك العصا من الوسط، مما يوحي بأن هاجسهم هو، قبل كل شيء، الحفاظ على الامتيازات السخية التي ابتزّوها من القذافي، لدى عودته الى " بيت الطاعة " الاميركي، عام 2004، مفزوعا من احتمال تعرضّه لمصير صدام حسين عام 2003.
ويبدو أن واشنطن تراهن، حتى الان، على اضعاف الطرفين المتنازعين وابتزاز كل منهما على انفراد، كنتيجة لمعارك الكر والفر التي يتلاعب فيها الطيران الحربي للناتو، وفضحتها تصريحات المسؤولين العسكريين في بنغازي؛ وكل ذلك لخلق الظروف الملائمة لتقسيم ليبيا، وبالتالي: التعامل مع سلطتين ضعيفتين.
وتبدو النتيجة الأولية لتدخل الناتو في ليبيا في رسالة الاستجداء من القذافي الى أوباما من جهة، ومن الجهة الأخرى في شكوى خصومه في بنغازي من ضعف أداء طيران الناتو الحربي في المعركة. وهذا مصدر قلق على مصير ثورة التغيير في ليبيا.
بينما تقع مسؤولية استدعاء الناتو للتدخل في ليبيا والمسؤولية عن دماء الضحايا الليبيين الابرياء – عدا مسؤولية نظام القذافي الدموي – على عاتق الجامعة العربية والنظام العربي الذي تمثّله.
فبدل أن يتولّى هذا النظام، وفيه دول لديها جيوش قوية نسبيا، مهمّة حماية المواطنين الليبيين من جنون القذافي الدموي، لاسيما وهو لا يمتلك جيشا قويا، حرص على عدم قيامه خشية أن ينقلب عليه.. بدل ذلك، سعى - أي النظام العربي - لتسليم هذه المهمة للناتو – عبر مجلس الامن الدولي - بينما لم يتردد في ارسال قوات "درع الخليج" لقمع حركة التغيير في البحرين. من جانب آخر، فإن ما يقوم به الناتو في ليبيا، أضفى ظلا ّ من الوطنية على القذافي لا يستحقّه، وبالمقدارذاته أساء الى خصومه.
وفي اليمن، لزمت واشنطن الصمت لمدة أسابيع بعد اندلاع ثورة التغيير فيه، ليخرج بعدها أوباما داعيا الثوار للتعاطي الإيجابي مع مقترحات علي عبد الله صالح، المستهدفة الحفاظ على نظامه، ثم خرج بعد ذلك، وزير دفاعه، روبرت غيتس،ليصّرح علنا، أن سقوط حليف واشنطن في اليمن سيمثّل " مشكلة حقيقية". ويكشف هذا التصريح، أولا: أن عناد صالح بعدم الرحيل مردّه، في الأساس، دعم واشنطن القويّ له؛ وثانيا: يفنّد هذا التصريح رياء واشنطن بأن دوافع نشاطها في المنطقة هي حماية أرواح الأبرياء، ومعلوم أنه حين قتل صالح أثنين وخمسين متظاهرا أعزلا في يوم 18 آذار وحده، لم تصدر عن واشنطن ولو كلمة أسف أو تعزية؛ ثالثا: أن هاجس واشنطن، هوعدم اختراق نار الثورة الفضاء السعودي والخليجي الأغنى بالنفط، والحفاظ على القاعدة العسكرية غير المعلنة في اليمن، والهيمنة على باب المندب الاستراتيجي.واذ تنمو القناعة بأن لا مردّ لمطلب ثورة التغيير اليمنية بإسقاط نظام علي عبد الله صالح، فإن واشنطن تجهد، ولو عبر الوساطة السعودية – الخليجية، لتقليل الاضرار التي ستتكبّدها من ذلك.
أما سورية، فإن هاجس واشنطن تجاهها ليس إسقاط النظام القمعي فيها، بقدر ما هو في تفكيك تحالفه مع كلٍ من إيران وحزب الله؛ باعتبار سورية الحلقة الوسيطة بينهما. ولا أدلّ على ذلك من إرسال واشنطن سفيرا جديدا لها الى دمشق، مؤخرا، بعد طول مقاطعة. وقد سبق لوزير حرب بوش الابن، رامسفيلد، أن أوضح بأن ما يهمّ واشنطن ليس تغيير النظام في سورية، بل تغيير سلوكه ! ويلفت الانتباه في سلوك هذا النظام، مؤخرا، تأييده لإرسال قوات "درع الخليج " السعودية الى البحرين، بينما أدانته –حليفته الاستراتيجية - إيران بشدّة.
ومنذ اندلاع المظاهرات المطالبة بالتغيير في سورية، بدا النظام فيها مرتبكا، ومترددا في الاقدام، ولو متأخرا،على تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، حيث يخشى أن يؤدّي أي تراخي في قبضته القمعية الى إنهياره. وبينما ما تزال اللغة المفضّلة لحوار هذا النظام مع شعبه هي لغة الرصاص، فإنه يستهجن ظهور متسللين يمارسون نفس اللغة، مما يعني أنه يعتبر التخاطب بالرصاص حكرا عليه!
وعموما، يبدو من تداعيات ثورة التغيير في العالم العربي أن الأنظمة الملكية تبدو، حتى الآن، أكثر تماسكا من الأنظمة الجمهورية. وبالنتيجة، فملامح الشرق الأوسط الجديد سترسمها المحصّلة العامة لصراع ثلاثي الأبعاد، متداخلة ومترابطة، محتدمة اليوم في المنطقة.
البعد الأول – وهو الحاسم – ويتمثّل في المواجهة بين جبهة الشعوب العربية وبين جبهة أعدائها من الدول الإمبريالية وإسرائيل والنظام العربي القديم. وفي هذا الصراع تبدو الشعوب العربية في أفضل حال لها منذ هزيمة حزيران 1967، بعد أن راحت تحطّم أغلالها وتنتصب بقامتها الأسطورية، بعد طول سبات؛ بينما جبهة أعدائها في حال معاكس. وبقدر ما تتهيّأ لهذه الشعوب قيادات في مستوى هذا الصراع المصيري، بقدر ما تختزل الزمن والتضحيات، لاستكال أهدافها والانتصار على جبهة أعدائها؛ وهذا يضاعف عشرات المرات مسؤولية القوى والأحزاب الثورية التي تمتلك التجربة واليقظة المطلوبيْن.
أما البعد الثاني، فيتمثّل في الصراع فيما بين القوى الامبريالية، حيث تجهد كل منها لتأمين مصالحها الخاصة، في خضم هذا الحراك التاريخي لشعوب المنطقة. ولعلّ ما يجري في سماء ليبيا النفطية، يعكس صورة عن ذلك. فالولايات المتحدة، المنهكة من حربي أفغانستان والعراق، تتحاشى التورّط في حرب جديدة، وتضطر، بعد صراعات في قيادة الناتو، للتراجع عن دور القيادة في العمليات الجوية العسكرية في ليبيا. بينما كان الفرنسيون أول من باشر هذه العمليات هناك، وأول من اعترف بالمجلس الوطني المؤقت في بنغازي؛ وأخيرا النقد الفرنسي والبريطاني العلني لأداء طيران الناتو في ليبيا.
بينما يتمثّل البعد الثالث في نشاط القوى الإقليمية، لتأكيد كل منها وجودها في أية خريطة جديدة للشرق الأوسط. فإيران تعترض بقوة على إرسال قوات "درع الخليج " السعودية الى البحرين، لحماية النظام الملكي هناك، مما صعّد من وتيرة التوتر في منطقة الخليج؛ ومن قبل ذلك، ترسل، ولأول مرة، بارجتين حربيتين الى مياه البحر المتوسط.
بينما، من جانب آخر، يحذّر رئيس وزراء تركيا الشعوب العربية من مشروع الشرق الأوسط الغربي، مؤكدا أن هذا الشرق الأوسط يعود لشعوبه ( طبعا، تركيا من ضمنهم ) ويحذّر، من جانب ثان، بأن بلاده لن تقف مكتوفة اليدين في حال تفاقم الوضع في سورية المجاورية؛ ومن جانب ثالث ينشط في محاولات الوساطة في ليبيا، وغيرها.
وفي حمأة نشاط القوى الدولية والإقليمية، في المنطقة اليوم، كل منها وفق أجندتها الخاصة، ينشط حصان طروادة القطري في المهمة الموكلة له، من محاولات الاحتواء الى خلط الأوراق، في المواقع الملتهبة، وتقمّص صورة القوة الاقليمية الفاعلة.
*الخاسر الأكبر! * من النتائج المتوقعة من كل ذلك، يمكن الاعتقاد، بأن الخاسر الأكبر من حصيلة هذا الصراع سيكون – عدا الحكام المتساقطين - كل من إسرائيل والولايات المتحدة. فشهر العسل الطويل الذي تمتعت به الاولى في وجود السادات، ومن بعده حسني مبارك الذي وصفه الوزير الاسرائيلي بنيامين بن أليعيزر، بالكنز الاستراتيجي لإسرائيل، قد وصل نهايته، و دور القوة الإقليمية المهيمن بالدعم الاميركي سيتراجع.
ورغم تظاهر حكومة أقصى اليمين الاسرائيلية بعدم الاضطراب مما يجري حولها؛ فإن البيان الذي أصدره عدد من السياسيين والعسكريين الاسرائيليين والداعي للدخول فورا في مفاوضات على أساس المبادرة العربية، وتصريحات براك، وزير الدفاع الاسرائيلي، لصحيفة الواشنطن بوست الاميركية، مؤخرا، التي يقول فيها :" يجب استئناف المفاوضات بشكل عاجل، فالبدائل أسوأ بكثير، حيث تواجه اسرائيل زلزالا تاريخيا في الشرق الأوسط وتسونامي دبلوماسي قد يبلغ ذروته في أيلول "؛ هذا وذاك يفضحان حقيقة ما يتفاعل من قلق واضطراب شديدين داخل اسرائيل، اليوم.
أما الولايات المتحدة، فمن المتوقع أن توجه ثورة التغيير التاريخية ضربة لنفوذها في الشرق الأوسط تعادل، وربما تفوق، ما عانته من نكسات في حديقتها الخلفية – اميركا اللاتينية – في العقد الأخير، علاوة على أزماتها ونكساتها الأخرى، مما سيسرع، وبقوة، نهاية النظام الدولي أحادي القطبية، الذي تربعت عليه الولايات المتحدة، عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. وهذا سيفتح عهدا جديدا أمام البشرية، ولا سيما شعوب آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، التي كانت أكثر من عانى ويعاني من العدوانية الاميركية.
[/b] | |
|