صبحي حديدي
2011-07-03
قبل أيام تلقى أعضاء مجلس الأمن الدولي رسالة حول
'الوضع الدراماتيكي في سورية'، تحثّهم على تبنّي قرار أممي بإدانة النظام
السوري. أهمية الرسالة تنبع من أنّ بعض الموقّعين عليها نجوم كبار على
المستوى العالمي (الروائـــــي الايطالي أمبرتو إيكو، والروائي النيجيري
وولي سوينكا، والروائي الهــندي ـ البريطاني سلمان رشدي، والروائي التركي
أورهان باموق)؛ والبعض الآخر مشاهير على مستوى محلي (مثل الإسرائيليَيْن
دافيد غروسمان وعاموس عوز)، فضلاً عن شخصية دائمة الرقص، أو بالأحرى:
الذبذبة، بين العديد من العوالم والمِهَن: الفرنسي اليهودي برنار ـ هنري
ليفي، أو BHL كما يحلو للكثيرين تسميته في فرنسا.
نصّ الرسالة لا غبار
عليه، بادىء ذي بدء، إذْ تتحدّث فقرتها الأولى عن أسماء صارت مألوفة، مثل
درعا وحمص واللاذقية والقامشلي وبانياس، عُزلت عن العالم الخارجي، وقُطعت
عنها خدمات الهاتف والكهرباء، واقتحمتها الدبابات، وحلّقت في سماءاتها
الحوّامات، واحتلّ قناصون أسطحة مبانيها، وتعرّض سكانها للإعتقال من سنّ
15 إلى 80. الفقرة التالية تسرد أسماء سجون تدمر وفرع فلسطين وعدرا ودوما
وصيدنايا، وتذكّر بصنوف التعذيب التي ذيقت لآلاف الأبرياء؛ كما تشرح فقرة
أخرى طبيعة النظام الدكتاتوري الذي تمّ توريثه من الأب إلى الابن، وتنتقل
إلى الحديث عن التظاهرات الشجاعة التي جوبهت بالقمع والمجازر، في تغييب
تامّ لوسائل الإعلام العالمية والمنظمات الإنسانية. أمّا الفقرات الختامية
فإنها تواصل حثّ المندوبين على تمرير مشروع القرار، الذي يمكن أن يجبر
النظام السوري على التراجع، أخيراً، عن ارتكاب المجازر دون أي رادع،
وسيترك أثراً طيباً في نفوس السوريين.
بيد أنّ المشكلة ليست في النصّ،
بل في دوافع غروسمان وعوز الحقيقية، أوّلاً؛ وتكتيكات كاتبه وعرّابه،
الفرنسي BHL، ثانياً وأساساً، والذي وجد في الربيع العربي فرصة سانحة،
وغير مسبوقة في الواقع، لممارسة فصول جديدة من رياضته الأثيرة: 'التشبيح'
الإعلامي، كما يصحّ القول، على حساب عذابات الشعوب، بعد قلب قضاياها رأساً
على عقب، والكيل بعشرات المكاييل المتناقضة، المتعارضة في الموقع الواحد،
والمتضاربة حول المسألة الواحدة.
لقد صحا على ليبيا وصار ناطور ثورتها،
بعد أن نام طويلاً عن ثعالب العقيد معمّر القذافي، وذئابه أيضاً؛ ثمّ
ارتأى أن يقيم صلة وصل مبكرة بين الثورة الليبية وإسرائيل، كانت كفيلة بأن
تأتي على ما تبقى من مصداقية للمجلس الإنتقالي الليبي. وقبلها استفاق على
الجزائر، مسقط رأسه، وكأنه لم يكن ذات يوم صاحب سلسلة مقالات كتبها إثر
تكليفه بمهمة رسمية من الخارجية الفرنسية، قال فيها كل شيء عن المذابح،
وسكت تماماً عن دور الجنرالات والأجهزة الأمنية الجزائرية. ولم يكن غريباً
أن يتصدّى له مؤرخون فرنسيون كبار من أمثال بيير فيدال ـ ناكيه وفرانسوا
جيز، قبل أن يسفّه الجزائريون آراءه.
موقفه من الملفّ السوري أوضح من
أن يستدعي جدلاً، فهو التزم الصمت عن النظام طيلة عقود، ولا يُعرف عنه
احتجاج على مجزرة تدمر، 1982، ولم نقرأ له غضبة ضدّ زيارات حافظ الأسد،
ثمّ وريثه بشار الأسد، إلى فرنسا. وحين قام الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي
كارتر بزيارة سورية، لم يجد ليفي أية غضاضة في هذا، واعتبر الحوار مع
الأسد 'أمراً عادياً، يفعله الجميع'، وما أثار حفيظته في كامل زيارة كارتر
الشرق ـ أوسطية، كان هذا التفصيل الوحيد: كيف يضع إكليلاً من الزهور على
ضريح... ياسر عرفات!
وقبل بضعة أسابيع اعتبرنا، برهان غليون وفاروق
مردم بك وكاتب هذه السطور، أنّ عداء ليفي لحقوق الفلسطينيين المشروعة،
ومساندته للإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك في
الجولان السوري المحتلّ، هو سلوك يتنافى مع تأييده لانتفاضة الشعب السوري.
كذلك استخلصنا أنّ كلّ مبادرة تقوم بها مجموعة 'أنجدوا سورية'، بإشراف
ليفي وحوارييه، هي بمثابة مناورات خبيثة تستهدف حرف المعارضة السورية
الديمقراطية عن أهدافها، وتطعن في مصداقيتها أمام شعبها.
وحين نشرنا
الموقف هذا في الموقع الفرنسي المرموق Mediapart، كنّا ندرك مقدار سطوة
ليفي، وشبكة علاقاته الواسعة التي تمكّنه دائماً من حشد كبار الشخصيات
الفرنسية، في مستوى رئيس جمهورية حالي او سابق، فما دون؛ وأننا قد نخسر
بريق النجوم والمشاهير (كما سيحدث اليوم تحديداً، حين سيحضر أحد تجمعاته
ضيوف من أمثال جين بيركن، وعمدة باريس برتران دولانوي، وزعيمة الخضر سيسيل
دوفلو، ورئيس الوزراء الأسبق لوران فابيوس، ووزير الخارجية السابق برنار
كوشنر، وزعيم الوسط فرنسوا بايرو...). وكنّا، في المقابل، واثقين من أننا
سنكسب الكثير على صعيد السلوك الأخلاقي والوطني القويم؛ في أنظار شعبنا
أوّلاً، ثمّ في الأوساط الفرنسية التقدّمية واليسارية الأوسع، التي تعرف
أنّ البواعث الحقيقية خلف مواقف ليفي هي نقيض أقواله.
ذلك لا يعني أنّ
مغانم ليفي لا تجتذب بعض أبناء الجالية في فرنسا، ممّن يساجلون بأنّ
المعركة ضدّ الإستبداد تتطلب استنفار كلّ طاقة، واللعب على التناقضات،
وضرب عدوّ بعدوّ. لستُ أذهب هذا المذهب، بالطبع، وأرى أنّ ما يعرضه ليفي
أشبه بسمّ يُدسّ في الدسم، والحكمة الأبسط تقتضي رفض الإناء المذهّب الذي
يأتي بالمزيج، ليس دون جملة مفيدة: وفّروا علينا دعمكم،