النخب التقليدية نجت ودعاة المقاطعة ليسوا ديمقراطيين
محمد بنعزيز
2011-06-26 19:46:00
حين
ظهرت الحركة الشبابية في 20 فبراير 2011 سخروا منها... حين صمدت
هاجموها... حين تقوت ذهلوا، خافوا واختفوا... من هم؟ رجال النخبة المؤبدة
الذين يحتلون واجهة السياسة في المغرب منذ عشرات السنين... قيادات حزبية
هرمة ونافذين في مختلف المواقع في هرم السلطة... بدت لهم الحركة كسحابة
غامضة ولكن كبيرة، بدأ البعض يسدد عليها والبعض الآخر يستظل بها، بينما
فريق ينتظر المطر لتخصب الأرض ويجني دون أن يبذل جهدا...
طيلة شهر
مارس لم يسمع إلا صوت الشباب... يطالب ويطالب... ثم تمكن أحد من النخبة
التقليدية اليسارية من تنفيس الوضع، لقد وجد الحل، قال "إن مطالب الشباب
هي مطالبنا".
وارتفعت نغمة "نحن قلنا لكم"، "نحن طالبنا قبلكم"،
فخرجت قيادات تقول أنها سباقة للمطالبة بالتغيير والديمقراطية وتعديل
الدستور... هكذا تساوى الشباب والشيوخ...
مرت لحظة تمييع للمشهد بسبب اختلاق التشابهات.
ثم وجد الشباب الرد: صحيح، المطالب هي نفسها، طالبتم بها منذ خمسين سنة. ولماذا لم تتحقق؟
هنا
عاد الفرق ليتضح. هم يريدون الألفاظ فقط. أما الشباب فيريدون الوقائع
والأفعال. هنا والآن. انتهى التمطيط السياسي. من الآن فصاعدا، الشعب لا
يمهل ولا يهمل.
صار الجو مشحونا بسبب الرياح التي تهب من مصر وتونس
وبسبب الفرز، صدرت أحكام قضائية شديدة ضد الشباب، واستمرت الاحتجاجات،
حينها اتضح للجميع أن قوة حركة 20 فبراير تنبع من كونها فكرة أكثر مما هي
تنظيما، يمكن قمع التنظيمات ومنعها... لكن فكرة لا يمكن إغلاقها أو
اعتقالها...
خطب الملك في تاسع أبريل ووعد بتعديل الدستور... تم
تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد... بعد شهرين تقرر موعد الاستفتاء... وجرت
احتفالات فورية.
قال الشباب "هذا الدستور لا يشبه وجوهنا"، كان هذا
متوقعا لأن الحركة هي فكرة تمثل سقفا معينا لن يبلغها الدستور المعدل. لذا
سيبقى هناك فراغ بين المطلب العالي وما تحقق. قال القانونيون أنه دستور لا
يشبه لا دستور المملكة الأسبانية ولا البريطانية... ماذا يشبه؟ لا نظير له
لأن الملكية المغربية لا شرقية ولا غربية وهي فريدة في خصوصيتها. ما هي
إذن؟
يأتي الجواب في حملة شرح وتعبئة للشعب ليقول نعم.
حاليا
يحتل شيوخ النخبة استوديوهات التلفزة ليشرحوا لنا. أولئك الذين دافعوا عن
الدستور السابق والاستفتاء الأسبق... لذلك أقطع صوت التلفزة لأتابع صور
وجوههم صامتة، وجوه ممتلئة وسمتها النعمة... من فرط دسمها لم تتضرر من
الشيخوخة... من مرور الزمن.
وجودهم في التلفزة دليل قاطع على أنهم
نجو مما وقع في تونس ومصر. لقد نجو من الطوفان. هنيئا لهم... مازالوا في
مواقعهم القيادية منذ عشرات السنين... زاهر مستقبلهم ومستقبل أبنائهم...
لا فساد في البلد ولا هم يحزنون... كلما ادخروه حلال طيب... نجوا ويأخذون
الكلمة ليشرحوا لنا... فالشعب لا يريد إسقاط النظام. أي هم. هنا يطابقون
أنفسهم مع النظام.
تدل ألوان ربطات العنق على الفرح باحتلال استوديوهات التلفزة، لكن الشبان سيقاطعون الاستفتاء والمعطلون يحرقون بطائقهم الانتخابية...
الأمر معقد ولا يجري كله في استوديوهات التلفزة ولا في صناديق الاقتراع.
جواب أحد الشيوخ - وهو برلماني ووزير سابق - على التعقيد "الشعب سيصوت بنعم والجبناء يقاطعون الاستفتاء"
سيصوت المتحدث بنعم هو والشعب معا. هنا يطابق نفسه مع الشعب.
الشعب سيصوت. فمن أين جاء الجبناء؟
من المريخ؟ ربما. لكنهم لم يأتوا من الشعب.
ما الدليل؟
كل
الشعب يوجد في الدستور. إلا الجبناء لا يجدون أنفسهم في هذا الدستور
الشامل الذي أعلن المملكة دولة إسلامية بأمير للمؤمنين وتتبنى حقوق
الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا، مملكة لغتها الرسمية العربية
والأمازيغية وتسير إدارتها باللغة الفرنسية ويوجد في هويتها العنصر
الأندلسي والصحراوي وهي ملكية مواطنة لا دستورية ولا برلمانية... بل هما
معا.
من يستطيع رفض دستور شامل جامع كهذا؟
الجبناء لأنهم يطالبون ببنود دقيقة ومحددة لفصل السلط بدل الحديث عن الهوية.
والشجعان؟ سيصوتون بنعم.
لكن
المسألة لم تنته. لأن الشبان يجرون النخب التقليدية خارج قواعدها، خارج
التلفزة وخارج مكاتب التصويت: يجرونها للشارع وهذا ما تكرهه لأنه لا سبيل
للتحكم فيه.
هنا ستجري المعارك قريبا.
وهكذا أعلنت الزاوية
البودشيشية عن تنظيم مسيرة من 80000 مريد لتأييد الدستور الجديد. وأصدر
الشرفاء وعلماء الأمة المغربية بلاغات "نعم". لم يتمكن الشباب من جمع هذا
العدد الكثيف في الشوارع الرئيسية في أية مدينة مغربية. لذا تحاول حركة 20
فبراير نقل المعركة الاحتجاجية للأحياء الشعبية لتحقيق جموع أكبر، لكن هنا
توجد أجيال خطرة لم يحتضنها التعليم، لفظها سوق الشغل فانغلق الأفق
أمامها... وهي قنبلة موقوتة... جيل خطر ينفس عن نفسه بالكحول والمخدرات
والشجارات الدموية لإثبات الذات... وهذا احتمال وارد إذا تم تصدير الأزمة
للشارع وتزايد التنافس على عدد المحتجين لفرض المواقف السياسية على
الخصوم...
توجد مشكلة أخرى: وسائل الإعلام، الدولية و المحلية
المستقلة قليلا لا تهتم ب 80000 مريد وتركز على أحد نشطاء الشباب الذين
يرقد في مستشفي بعد أن ضربه أحد المنتخبين في الشارع.
ضربه لأن حصة النقاش انتهت.
هذا
هو المغرب قبيل الاستفتاء، النخب التقليدية راضية، البسطاء في الأحياء
الشعبية يكرهون هذه النخب، ويرجمون ممثليها في كل حي يحلون به ليخطبوا...
لذا يتحصنون باستوديو التلفزيون المكيف والمحروس... هنا يخطبون ببلاغة
وراحة. لكن من يصدقهم؟
رغم ذلك فقد تمكنت السلطة في المغرب من
تدبير المرحلة، الاستفتاء في الطريق والمهرجانات على قدم وساق، وقد لعبت
الانقسامات بين النخب التقليدية والحديثة لصالحها... والدستور بذكره
للجميع أرضى الجميع... كل واحد يجد اسمه فيه... وهذا من فوائد خصوبة
الهجين.
فالنظام السياسي في المغرب ليس صافيا صرفا، بل نظام هجين
تتعايش داخله توجهات قروسطية وحداثية، إسلامية صوفية وعلمانية... تنظيمات
بيروقراطية وقبلية... وهو تعايش مرن، فيه تجاذب لا يصل إلى الصدام، وصمام
الأمان فيه هو الملك. وليس صدفة أن زعيم حزب العدالة والتنمية المغربي
يعتبر أن المس بصلاحيات الملك سيجعل من المغرب لبنان ثانيا.
في
لحظة البحث عن الملكية البرلمانية، أي تقليص صلاحيات الملك، اتضح لفريق
الشيوخ - وهم اللاعبون الرئيسيون - أنهم يحتاجون الملك أكثر من أي وقت
مضى. الحفاظ على نفوذ الملك أهم من الديمقراطية التي قد تسمح بصدام تلك
التوجهات. هذا ما كرسه الدستور الجديد.
كرس سقف الربيع المغربي.
الآن توجد طموحات للتغيير، لكن هؤلاء الشيوخ يفكرون في الاستقرار وفي استمرار مصالحهم، والشباب ضجروا من المحاصصة بين النخب...
نخب
تعيش انفصاما بين هدفين، من جهة تريد الديمقراطية لتحكم رغم شكها في
شعبيتها. ومن جهة ثانية تحتاج تلك النخب ملكا قويا لكي لا يفترس بعضها
بعضا.
بين هذين الهدفين تمت صياغة الدستور، ولدي انطباع أن خطاب
تاسع مارس رفع السقف بشكل أخاف الأحزاب التقليدية، وقد كان الملك في خطابه
ذاك أكثر حيوية على التلفزة بخلاف خطابه في 17 يونيو، لأن المشاورات كانت
قد انزلت ذلك السقف قليلا. وهنا أغلبية المغربية لذا ستكون النتيجة نعم في
حدود 75%.
وأنا أعتبر دعاة المقاطعة غير ديمقراطيين، لأن عليهم أن يصوتوا بلا لنعرف حجمهم. هذا ما يخافونه. يخافون أن يتضح أنهم أقلية.
منذ
الاستقلال يعيش المغرب ديمقراطية الأعيان والعشائر، وهي مبنية على
المحاصصة، في البرلمان والوزارات والمناصب والأراضي... محاصصة تسببت في
فساد وفي منافسة شرسة للحصول على الامتيازات.
ومن يستطيع جمع محمد
زيان والمحجوبي أحرضان وخليهن ولد الرشيد وحميد شباط وعبد الإلاه بنكيران
والمغراوي وحمزة البودشيشي في صف واحد لا يدري ما يقول. ومن يرى وحدة
المغرب أمرا مسلما به واهم.
فتلك المنافسة تهدد وحدة وسلامة الوطن ويلجمها الملك، وتضطره ليقوم بجولات توحيدية مستمرة بين المناطق.
شعاري
هو ان الممكن القابل للتحقيق أفضل من المثالي غير قابل للتحقق، فمن ضمن
معاني اليوتوبيا لدى توماس مور "اللامكان". أي المثالي الذي لا وجود له.
في السياسة من الجيد الحلم، لكن من الضروري التعامل مع المكان والممكن.