في ظل هذا اللغط الذي يحوم حول الوثيقة الدستورية،و الذي انتعش بفعل ما
شاب إنزالها من ثغرات، كان من الممكن تفاديها، لو توفرت النية الصادقة لدى
الفاعلين،و من ضمنهم الدولة أساسا،يطرح السؤال المحوري:هل يمكن المشي في
طريق ثالث ،يضمن جمع هذه اللحمة الوطنية الممزقة،حول وثيقة ، قد نختلف
جميعا في مدى إجابتها على تطلعات كل واحد منا، لكننا على الأقل، قد نتوحد
حول انسجام مضامينها و رزانة نصوصها؟؟؟
تحضرني
هنا اللغة و ركاكتها في ديباجة الوثيقة، و أعني النسخة العربية، و التي
تعتبر النسخة الرسمية بقوة القانون، و تحضرني التناقضات داخل النصوص
بذاتها...
تحضرني كذلك التسريبات الأخيرة، لأعضاء
اللجنة الاستشارية المكلفة بصياغة الدستور، و كيف فوجئوا بالتعديلات التي
أفرغت النص الذي أعدوه من محتواه، ليس التقدمي فحسب، بل حتى القانوني...و
يحضرني خبر رفض الفقيه المانوني تلاوة النص بعد الخطاب الملكي،غضبا لا
كسلا....
تحضرني كذلك القراءات المبسترة للعديد
من فصول هذا الدستور،و هي قراءات مسيجة بالموقف الانفعالي، أكثر منها
راضخة لمبضع التشريع العلمي و القانوني الدقيق، و أجد نفسي غير قادر عن
الامتناع من التطرق لحالة الفصل 64 الخاص بالحصانة البرلمانية، و كيف هللت
كل القوى للفتح الذي أقره هذا الفصل، الذي يحصر الحصانة البرلمانية داخل
أسوار البرلمان و داخل الوظيفة النيابية،لكنهم يغضون الطرف على الجزء
الأخير من ذات الفصل الذي ينص " ما عدا إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في
النظام الملكي أو الدين الإسلامي،أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك."
هذا الجزء الملتبس من الفصل،حمال أوجه عديدة، في مضمون كلمة الجدال،و التي
تعني الأفكار و تداولها، و هو ما يدخل في خانة حرية الرأي، المنصوص على
احترامها و صيانتها في شكلها المطلق، وفق مضامين المواثيق الدولية ،و في
علاقة هذا الجدال بالنظام الملكي و الدين الإسلامي،و لما لا الاختيار
الديمقراطي و الوحدة الوطنية، اللتان تعتبران من ثوابت الأمة التي تستند
عليهما في حياتها العامة حسب منطوق الفصل الأول من ذات الوثيقة...
لهذه الثوابت معاني كثيرة، لم يحدد الدستور أيهم هو المستند و المرجع، و
نقاش هذه الثوابت مطلبا وطنيا و مجتمعيا، من أجل تحديد حمولتهم،فكيف تسقط
حصانة ممثل الشعب و هو يؤدي دوره في المطلق المطلوب منه:تحديد ثوابت
الأمة؟؟؟
يبقى الاحترام الواجب للملك حمال أوجه،
فهل اعتراض البرلماني على ممارسة قد تصدر عن الملك، هو إخلال بالاحترام
الواجب للملك؟ و بالتالي تسقط حصانته، هل عدم حضوره نشاط للملك في الدائرة
التشريعية للنائب هو إخلال بالاحترام الواجب للملك؟
إن مثل هذا النص، بمحاذاة نصوص أخرى في الدستور، هو ما يلغم بناءه،مما
يستلزم معه التفكير في تنقيحه ليس من أجل مده بمحتويات تقدمية ، فقد اتضح
أن هذا الهدف بعيد المنال، في ضل هيمنة الفكر المحافظ على هياكل المجتمع
برمته،و في ضل تشردم القوى الديمقراطية و الحداثية، و التي كانت مطالبة
بالترافع لحصر المد ألظلامي داخل المجتمع، لكنها لم تفعل إبانه، و جزء من
ذات القوى هي من أصبحت تعتقد أن مشروع الدستور الحالي يشكل قفزة
نوعية....قفزة في أي اتجاه، و حده المستقبل من سيحدد ذلك...
يجب تنقيحه من أجل إعطاءه مضمونا منسجما و لغويا بسيطا، بموازاة مع عملية
تنقيح مضامين الفصول الأخرى،كي يعتمد هذا الشعب، على الأقل وثيقة تتماها
شكلا على الأقل،مع شيء اسمه الدستور...
أعتقد أن
قرارا سياسيا جريئا، يقضي بسحب الوثيقة و إعادة تمحيصها و مراجعتها، بما
يتطلب ذلك من تأجيل عملية الاستفتاء حولها،مع المحافظة على زخم النقاش
العمومي الدائر حولها و حول الإصلاحات السياسية المرتبقة....
هي فقط إرادات يجب أن تتوفر،و سعة صدر لا تتجاوز القليل من الشهر التي
يتطلبها هذا القرار...لا تفرق كثيرا في تاريخ شعب انتظر كثير....و سينتظر
أكثر.