سبينوزا فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1432
الموقع : العقل ولاشئ غير العقل تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..
من اقوالي تاريخ التسجيل : 18/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5
| | هل ستسلم الثورة نفسها للسياسيين | |
[b]لا يمكن للثورة أن تتقدم بدون نقد نفسها، لتتجاوز أخطاءها وتتخلص من أوهامها التي نشأت كتعبير عن لحظات ضعفها. كما لا يمكن للثورة أن تتقدم بدون فهم عميق لطبيعة الثورة المضادة التي تواجهها، وهذا غير ممكن بدون إعادة طرح السؤال حول طبيعة هذه الموجة الثورية وطبيعة أهدافها المعلنة منها والمُضمرة، كما طرح السؤال حول المٓحصلة الآنية لهذه الموجة، وما هي الأهداف التي تحققت وتلك التي لم تتحقق، وما هي السبل الممكنة لاستعادة المبادرة الثورية وقطع الطريق أمام مشاريع الثورة المضادة التي بدأت ملامحها العامة تتضح وتنجلي. لعل أهم إنجاز استطاعت الثورة المضادة أن تنجزه من خلال وسائل دعايتها الرسمية منها وغير الرسمية هو الفصل بين المطالب المُسماة سياسية والمطالب المُسماة اجتماعية، وحصر الأولى في بعض الإصلاحات الفوقية للنظام السياسي، بهدف بعث ديكور ديمقراطي ليبرالي يحافظ من جهة على أساسات وعناصر النظام القائم ويُدمج ضمنه، من جهة أخرى، النخبة السياسية المتعطشة للمشاركة في السلطة والتي كانت في موقع المعارضة القانونية منها والسرية، بينما حصرت الثانية في مجموعة مطالب جزئية ومشتتة لا تواجه المنوال الاقتصادي نفسه وأساساته العميقة، بل تكتفي ببعض التنازلات المؤقتة في هذا القطاع أو ذاك، في إطار مفاوضات وتسويات ما قبل ثورية. هذا الانفصال بين البعدين الرئيسيين للثورة (السياسي والاجتماعي) جعل الحركة تُراوح مكانها فاسحة مجال المبادرة للنظام وحكوماته المتلاحقة. فمن جهة كان من نتائج الفصل الوهمي بين المطالب "السياسية" والمطالب "الاجتماعية" أن انفصلت الحركة إلى قسمين يظهر وكأنهما في تعارض، قسم اختصر حركته فيما هو سياسي (إسقاط الحكومة، حرية التعبير، المجلس التأسيسي، الانتخابات..الخ) وقسم آخر اختصر حركته فيما هو قطاعي، سكتاري ضيق (منح البطالة، الزيادة في الأجور، الترسيم..الخ) وهذا ما كان عاملا حاسما في ضرب وحدة الحركة ووحدة أهدافها. كما ساهم في ضرب روح التضامن والتآزر بين الفئات المختلفة للجماهير الثائرة، فكان أن إختص جمهور، في غالبيته من الشباب والناشطين السياسيين، في إدارة النضالات "السياسية" بينما إختص جمهور، في غالبيته من الأجراء والبطالين والمهمشين، في إدارة النضالات ذات الطابع الاجتماعي، وهذا ما مكّن السلطة من الانفراد بكل قسم على حدة. فكانت وسائل دعايتها تواجه القسم الأول بفزّاعة الفوضى وما يُسمى بالانفلات الأمني، بينما تُواجه القسم الثاني بفزّاعة انهيار الاقتصاد وما يسمى بالانفلات الاجتماعي، إلى حد وصل بالحكومة إلى التهديد بقطع رواتب الموظفين. ومن جهة أخرى، جعل هذا الفصل بين المستوى السياسي والمستوى الاجتماعي للثورة المطالبات السياسية فارغة من أي محتوى، مثلما جعل المطالبات الاجتماعية بدون أي أفق سوى بعض الإصلاحات الصغيرة التي سوف تتراجع عنها السلطة بشكل أو بآخر في أول فرصة تستعيد فيها "هيبتها" المفقودة. فالمطالبة بإسقاط الحكومة،كشعار سياسي، لم يكن له أن يتطور، أو أن يفتح أفقا جديدا للنضال، بما أن السلطة كانت ترد عليه بتغيير بعض الوجوه لتأتي بوجوه جديدة، في لعبة تحاول فيها ربح الوقت والمُراهنة على اهتراء الحركة واستنزاف طاقاتها بضرب وحدتها بين مؤيد ومعارض ومن يقول "لنترك لهذه الحكومة الفرصة ثم نحكم عليها". وهكذا فان الاهتمام ينحصر في الأشخاص والأسماء، بينما يغيب كليا السؤال حول ما نريد تحقيقه بالضبط؟ وما هي المهام التي نبتغي تحقيقها؟ فمن خلال تحديد الأهداف والمطالب يمكن للحركة أن تكتشف الوسائل والأدوات الملائمة لتحقيق تلك الأهداف. وبدون ذلك فستبقى السلطة قادرة على المناورة والمُضي في لعبة استبدال هذا بذاك إلى أن تخسر الحركة وهجها الثوري وتخسر التعاطف الشعبي الذي كانت تحظى به، وعندها تجد السلطة كل المبررات لإعادة تشغيل آلة قمعها. لكن الأخطر من الطابع العقيم لهذه المطالبات السياسية هو كونها تُرفع بصفتها مطالبات معارضة للمطالبات الاجتماعية للعمال وعموم الأجراء والبطالين والمهمشين، فكان الشعار الخاطئ والخطير الذي رفعه اعتصام القصبة الثاني: "مطالبنا سياسية وليست اجتماعية"، وهذا الشعار كان من حصيلته أن انفضّت الجماهير الكادحة عن الاعتصام وتضاءلت شيئا فشيئا مساندتها له، لتعود إلى الانغلاق على مطالبها الخاصة في أكثر أشكالها سكتارية وضيقا. وفيما بدأت المطالبات السياسية تفقد أي مضمون ثوري وتنفصل عن قاعدتها الاجتماعية، لتتحول إلى مجرد نزاعات فوقية بين الأحزاب والحكومة حول ترتيبات ما يسمونه بالانتقال الديمقراطي، وهي في الواقع ترتيبات يسعى فيها كل طرف إلى جني أكبر حصة ممكنة ضمنها في لعبة هي أقرب للنزاعات البرلمانية، يكون فيها الشارع وقودا للعبة التسخين والتبريد والضغط على الحكومة لابتزاز شروط أفضل في المحاصصات الحزبية. بينما بدأت المطالبات الاجتماعية تعود إلى طبيعتها السابقة على الثورة، بما هي مجرد نزاعات حول الأجور والتشغيل في حدود النظام القائم نفسه. لكن نجاح الثورة المضادة ليس سوى التعبير الآخر عن ضعف الحركة نفسها. فهذه الأخيرة وبعد أن كانت في بدايتها تتسم بروح هجومية من أجل فرض أهدافها بقوتها الخاصة، قد ركنت في مرحلة لاحقة إلى الأسلوب الدفاعي، فكانت بدل التقدم الثوري باتجاه خلق توازنات سياسية واجتماعية جديدة وفرضها كأمر واقع، اتجهت نحو أسلوب المطالبات العقيم. فكانت تطرح مطالبها ثم تترك مهمة انجاز تلك المطالب بيد أعدائها، وكأن هؤلاء الأعداء الذين سارعوا بالاختباء وراء لباس الثورة ليتكلموا باسمها وبلغتها، لهم مصلحة فعلية في انجاز تلك المطالب. هذا الواقع هو ما جعل روح المبادرة تخرج شيئا فشيئا من يد الجماهير الثائرة لتصبح بيد الثورة المضادة، حيث أن هذه الأخيرة قد استطاعت استيعاب تلك المطالبات لتفرغها من محتواها الثوري ولتحوّلها إلى سلسلة من التوافقات والمعالجات الفوقية لإدارة الأزمة. ولعل بداية التراجع قد انطلق مع تشكيل ما يسمى بالمجلس الوطني لحماية الثورة. فإضافة لكون هذا الأخير لم يكن تعبيرا تنظيميا لقوى الثورة بقدر ما كان تجمعا سياسيا وفق محاصصات سياسية حزبية تحت إشراف البيروقراطية النقابية، وتحالف يميني يساري عجيب، فانه قد اتجه مباشرة إلى طلب الترخيص القانوني من الرئيس المؤقت، أي أنه منذ البداية كان يطمح، ليس لأن يكون أداة من أدوات الثورة (وكيف له أن يكون كذلك وهو يضم في صفوفه كل الأحزاب من اليمين واليسار وبإشراف وإدارة البيروقراطية النقابية) بل كمؤسسة دستورية ضمن النظام القائم، هدفه الأقصى مراقبة أعمال الحكومة ولعب دور البرلمان الذي انحل تلقائيا بمفعول قوة الثورة. وليس غريبا أن قيام هذا المجلس قد مثل طوق النجاة للحكومة التي سارعت، بعد قليل من الشد والجذب، إلى إعادة ترتيبه في شكل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وذلك من خلال إدماج عناصر أكثر موثوقية وحصر نشاطها ضمن الطابع الاستشاري، كل ذلك بالتوافق مع البيروقراطية النقابية التي ساومت في ذلك على الوعد بعدم تسريب ملفات الفساد النقابي إلى الجماهير التي كانت قد شرعت فعليا في حسم أمرها مع هذه الطغمة الفاسدة. ومع خروج البيروقراطية النقابية وأكثر الأحزاب من المجلس والتحاقهم بالهيئة، تحول هذا المجلس إلى هيكل فارغ بلا فاعلية تذكر باستثناء إصدار البيانات السياسية، ليتهمش لاحقا ويختفي. وحتى المجالس المحلية لحماية الثورة (التي في أغلبها لم تكن ترتبط تنظيميا وسياسيا بالمجلس الوطني) فقد عصفت بها التجاذبات الحزبية وتحولت في أغلبها إلى أدوات دعاية لهذا الحزب أو ذاك، ولم تتجه مطلقا إلى فرض نفسها كأدوات تسيير ذاتي حقيقية، أو كأشكال تنظيم جماهيرية لمواصلة النضال الثوري. وفي المدة الأخيرة استطاعت الأحزاب الرجعية بما في ذلك عناصر الحزب الحاكم المنحل أن تسيطر على هذه المجالس وتحولها إلى أدوات لممارسة الضغوط وكسب المواقع والتحضير للحملات الانتخابية. أما اللحظة المفصلية التي حسمت بشكل كبير المعركة لصالح قوى الثورة المضادة، فكانت اللحظة التي سلم فيها الجمهور المنتفض نفسه لمطلب المجلس التأسيسي. فأمام عجز الحركة عن التقدم في تفكيك الأجهزة السياسية والقمعية والإدارية للنظام القائم، بما كان يمكن أن يفتح الأفق أمام ظهور أشكال إدارة سياسية واجتماعية جماهيرية جديدة تتناسب مع طبيعة الثورة وطبيعة أهدافها، وكان لظهور اللجان المحلية في الأحياء والبلدات والقرى بشكل تلقائي أن يمثل الأساس الواقعي والعملي لهذه العملية التاريخية، أمام هذا العجز الذي يمكن إعادته، بنسبة كبيرة، إلى غياب التقاليد الثورية في الأوساط الجماهيرية، كان أن انحصرت الحركة في شكل واحد: هو الاعتصام في ساحة القصبة بالعاصمة. ليتحول هذا الاعتصام إلى مركز الثقل الأكبر للحركة، من حيث استقطابه لأكثر العناصر حيوية ونشاطا، ومن حيث تحول أعداد كبيرة من شباب الجهات للمشاركة فيه، بل ليكونوا نواته الأساسية، ومن حيث أن بقية أشكال النضال قد أصبحت تسير على هامش هذا الاعتصام ومُنشدّة إليه والى المآلات التي يمكن أن يؤول إليها. لكن الشكل الاعتصامي المُمَركز في العاصمة، وبقدر ما عبّر عنه من طاقة نضالية، وبقدر ما مثله من قوة ضغط عظيمة على النظام وأجهزته القمعية التي وقفت عاجزة على صد هذا الموج البشري الكاسح، فلقد كانت له نقاط ضعف قاتلة، هي التي ستكون لاحقا كعب أخيل الذي استطاعت الثورة المضادة أن تسدد سهمها باتجاهه لتضرب الحركة في المقتل. فمن جهة كان لتقاطر أعداد كبيرة من شباب الجهات إلى العاصمة، وهم في أغلبهم مثلوا النواة الحيوية للتحركات في جهاتهم، أن جعلت الحركة الثورية في تلك الجهات تخسر كثيرا من طاقاتها ومن قدرتها على مواصلة الحركة الاحتجاجية، وهو ما أعطى الفرصة لقوى القمع أن تركز جهودها المتبقية في العاصمة، كما سمح لأجهزة الدولة السياسية أن تختصر مواجهتها للثورة في عملية إدارة الأزمة التي خلقها لها الاعتصام. وهذا الواقع نفسه حرم الجهات الأخرى من الطاقة اللازمة لمواصلة إنجاح تجربة المجالس المحلية وتطويرها لتتحول إلى أشكال تنظيم ذاتي قارة، بل إن الجمهور في هذه الجهات قد تحوّل إلى ما يشبه المتفرج السلبي في انتظار حسم المعركة بين المعتصمين والحكومات المتلاحقة. ومن جهة أخرى فان جمهور الشباب الذين التحقوا بالاعتصام قد وجدوا أنفسهم منقطعين عن مجالهم الحياتي الطبيعي (الأسرة، الحي، البلدة) بما جعلهم في مواجهة مشاكل لوجستية (طعام، خيام، صرف صحي..الخ) لم تكن لهم القدرة المادية على حلها، وهو ما جعلهم عرضة للابتزاز من طرف الأحزاب المنظمة وخاصة من طرف البيروقراطية النقابية. ولقد تجلى هذا خاصة في اعتصام القصبة الثاني (في الاعتصام الأول كان تعاطف أهالي العاصمة العظيم والتفافهم حول الشباب مثل حصانة نسبية وحافظ على تلقائية الاعتصام قبل قمعه الدموي) حيث ساومت البيروقراطية النقابية (وهي التي وضعت كثيرا من وسائل النقل المجانية وجانب من طاقاتها المالية على ذمة الشباب للالتحاق بالاعتصام) والأحزاب التي كانت تنشط تحت مظلتها، ولو بشكل مُقنّع، الشباب المعتصم لتفرض عليهم، بأساليب المناورة التي تتقنها، الخضوع لأجندتها الخاصة، وهنا يمكن أن نسجل العمل الكبير الذي قام به محترفو السياسة من اليسار واليمين للهيمنة على الاعتصام وتحويل وجهته صوب المساومات مع الحكومة وإيجاد حلول مرضية للخروج من "الأزمة". لكن كل هذه العقبات لم تكن حاسمة في إيقاف الهيجان الثوري للشباب المعتصم. ولعل الضعف لم يتسرب من خلال هذه العوائق التي كانت تبدو خارجية وغير محددة في تطور الاعتصام. فالضعف الحقيقي للاعتصام (الاعتصام الثاني خاصة) كان يكمن في طابعه الدفاعي وفي روحه المطلبية. إذ كان الجمهور يطرح المطالب منتظرا الموافقة عليها من النظام السياسي القائم. ومن الطبيعي أن هذا الأخير كان يتلقف تلك المطالب ليعلن استجابته الشكلية لها، وفي المقابل يترك مجال تطبيقها وتحديد مضمونها لنفسه ولشركائه من الأحزاب والبيروقراطية النقابية. وفي اللحظة التي ينفضّ فيها الاعتصام يكون الجمهور قد ترك أمر تنفيذ تلك المطالب وتحديد القصد الفعلي والعملي لتلك المطالب في إطار لعبة الشد والجذب بين الحكومة والأحزاب وقيادة الاتحاد البيروقراطية. لكن هذا الأمر طبيعي لكون شكل الاعتصام نفسه وطريقة إدارته كان ذو طابع دفاعي، ولم يكن له من الأصل أن يقوم بشيء آخر غير رفع المطالب وانتظار الاستجابة لها، وما كان للحركة الثورية وقد اختصرت نفسها في الاعتصام، أن تتطور إلى عملية تغيير ثوري شامل للنظام السياسي والاجتماعي، وما كان لها أن تفرض مؤسساتها الناشئة لتستعيض بها عن أجهزة النظام القديم. فالانغلاق في مساحة صغيرة، مهما كانت أهميتها الإستراتيجية (وساحة القصبة كانت ساحة رمزية وليست نقطة إستراتيجية بالنسبة للنظام) هو في الواقع تعبير عن انغلاق في أفق التغيير، والتحول شيئا فشيئا إلى محاولات للمطالبة بإصلاحات لإعادة صياغة النظام السياسي السائد مع المحافظة على أساساته القائمة. ومن هذا الواقع بالضبط انبثق مطلب المجلس التأسيسي. فبقدر ما كان هذا المطلب في ظاهره برّاقا، ويبدو راديكاليا، خاصة وانه كان الشعار الأوّلي لبعض أحزاب اليسار الراديكالية، وبقدر ما كان يستجيب ظاهريا لرغبة حقيقية لدى الجمهور في تأسيس شيء جديد على أنقاض النظام القديم، فانه في المَحصلة قد مثل الفخ الكبير الذي للأسف لم تستطع الثورة ولا الشباب المعتصم تلافي الوقوع فيه وفي ألقه السحري المضلل. لقد كان السقوط المدوي للحكومتين اللتين أنشأهما محمد الغنوشي إشارة واضحة للنظام باستحالة إدارة أزمته بنفس الوجوه القديمة وبنفس النخبة السياسية التقليدية التي كانت تعمل مباشرة مع بن علي، وحتى إدماج بعض وجوه المعارضة القانونية وعناصر مُعيّنة من طرف البيروقراطية النقابية لم يكن كافيا لوقف الموجة الثورية، لذلك اختارت القوى الحقيقية للنظام التي كانت تنشط خلف الكواليس وبدون ظهور إعلامي كبير، أن تحسم الأمر بالتخلص من الوجوه المكشوفة والتخلص من عبء التجمع الدستوري الديمقراطي (الذي فقد وجوده الفعلي بحرق مقراته وملاحقة رموزه من طرف الجمهور الثائر ولم يكن حله القانوني وما صاحبه من هرج سياسي سوى عملية قتل جثة ميتة ومسرحية لحرف الأنظار) لتفتح الباب أمام نخبة سياسية جديدة تتمتع بمصداقية أكثر ويمكنها احتواء حركة الجمهور، وكان هذا غير ممكن بدون الخروج نهائيا من منظومة الدستور القديم ومؤسساته (برلمان، مجلس مستشارين) التي انهارت عمليا هي أيضا ولم تعد قادرة على إدارة الشؤون العامة للنظام، بل إن بقاءها كان يهدد بتوسع الحريق الثوري. ومثلما وجد النظام في الباجي قايد السبسي الرجل المناسب لتأدية هذه المهمة، وجد في تنظيم انتخابات لمجلس تأسيسي المنفذ والحل الأمثل لإعادة استيعاب النخبة السياسية التي أقصاها بورقيبة ثم بن علي من دائرة الحكم السياسي (وهي في أغلبها من الكوادر التي تربت في الأوساط الطلابية وتمرّست على العمل السياسي فيها لتلتحق فيما بعد بأوساط البورجوازية الصغيرة العليا من محامين وقضاة وأساتذة تعليم عالي...الخ) وهي تطمح اليوم إلى استغلال التوازنات السياسية الجديدة والضعف الذي وجدت النخبة السياسية القديمة نفسها تتخبط فيه، لتأخذ نصيبها في المواقع السياسية التي طالما "ناضلت "وحاربت" لعقود من أجل الحصول عليها. وبإعلان الحكومة الثالثة عن قبولها مطلب المجلس التأسيسي، حتى تم الإعلان عن فك الاعتصام في جوّ ظاهره انتصاري واحتفالي، لكن على أرض الواقع كان الأمر يتعلق بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على جمهور انسدّت أمامه الأفاق الثورية ووجد نفسه بين مخالب البيروقراطية النقابية والأحزاب وبين التهديد بالقمع الوحشي والدعاية الإعلامية وانحسار التعاطف الشعبي معهم، وهنا نسجل نشاط البيروقراطية النقابية وأعوانها في تنظيم رحلات عودة الشباب إلى جهاتهم وإقناعهم بانتهاء المهمة وتحقيق الهدف الذي جاؤوا من اجله. وبفك الاعتصام تكون قد بدأت مرحلة الترتيبات السياسية التي لا تزال إلى الآن تديرها الحكومة، ترتيبات ستحاول أطراف النخبة السياسية الجديدة أخذ موطئ قدم فيها وفق حجمها وقدرتها على جر الجمهور وراءها. وبطبيعة الحال، ولأجل استنزاف ما تبقى من الطاقة الثورية للحركة، كان لا بد من افتعال قضايا ومعارك وهمية مرة حول موعد الانتخابات ومرة حول القانون الانتخابي ومرة حول إقصاء بعض وجوه التجمع الدستوري الديمقراطي من الانتخابات ومرة حول تصريحات هذا أو ذاك من المسؤولين، وإدخال الحركة في صراعات وهمية بين علمانيين وإسلاميين، بين حداثيين وسلفيين، واستغلال هذه الصراعات ليثبت كل طرف جدارته بأخذ موقع أفضل في الإدارة السياسية الجديدة. ومع خفوت الموجة الثورية، تم فسح المجال إلى الأحزاب، بنخبها المتعطشة للسلطة، إلى الدخول في حبك الخيوط وعقد التحالفات وشراء الذمم وإقامة الاجتماعات الاستعراضية والتقرّب لدوائر رجال الأعمال وكبار التجار والبيروقراطية العليا للدولة ليغدقوا عليهم الأموال في مقابل تبييض ثرواتهم والحفاظ على مناصبهم، وليتسابق الجميع في استرضاء أقطاب رأس المال العالمية ليقدم لها كل حزب الضمانات الموثوقة بعدم المساس بمصالحها العامة. والحكومة، إذ قبلت بفتح الباب أمام هذه النخبة السياسية، فبمقابل أن تقوم هذه الأخيرة بما لم تستطع الحكومة نفسها القيام به: - شل الحركة الاحتجاجية بسحب العناصر القاعدية النشطة لتلك الأحزاب والالتزام بعدم المشاركة في التحركات- إدانة النضالات الاجتماعية للأجراء والبطالين أو التآمر عليها بالصمت واعتبارها تشويشا على مسار الانتقال الديمقراطي – الدعوة للوحدة الوطنية لحماية البلاد من خطر الإرهاب وحماية الاقتصاد الوطني من الانهيار – إعادة إدماج العناصر المسؤولة في التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل في صفوف هذه الأحزاب، وحتى القبول بإعادة تشكّل هذا الحزب في ثوب أحزاب جديدة – تخريب المجموعات الشبابية المناضلة وتحويلها إلى أبواق دعاية للأحزاب وخدمة أجنداتها الانتخابية – وفي العموم استدراج الجمهور إلى اللعبة السياسوية وتلهيته عن كل ما يمكن أن يضع النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي موضع السؤال والنضال. وبعد كل ذلك، لم يكن غريبا أن يجتمع السبسي بالأحزاب والشخصيات "الوطنية" تحت نفس القبة التي كان يجتمع فيها بن علي مع أحزاب معارضته، ليُقابَل إعلانه بتأجيل انتخابات المجلس التأسيسي بعاصفة من التصفيق، في جو من الوئام والتوافق، هو في الواقع وئام وتوافق قوى الثورة المضادة وقد وجدت السيناريو الأمثل للالتفاف الأخير على الثورة وإعلان انتصارها العظيم. من المؤكد أن الثورة قد خسرت معركة مهمة، لأنها ببساطة قد سلمت أمرها للسياسيين ومحترفيها المتعطشين للسلطة والسيادة ولم تكن لها الثقة الثورية في طاقاتها وقدراتها الذاتية المبدعة، كما أنها لم تتوصل في الوقت المناسب لمعرفة طبيعة أهدافها الحقيقية، وطبيعة القوى المتناقضة المصالح داخل صفوفها، كما لم تتوصل إلى وضع النظام ككل موضع التهديم الثوري وحصرت نضالاتها ضد بعض رموز هذا النظام وبعض مؤسساته السياسية. ومن المؤكد أيضا أن الثورة ستعاني كثيرا من أخطائها وتركها الفرصة للنظام ليستعيد أنفاسه ويعيد ترتيب نفسه وقواه من جديد، لكن من المؤكد أن الدروس التاريخية التي ستستخلصها الجماهير من هذه التجربة ستجد صداها سواء في أماكن أخرى حيث لاتزال الجماهير الكادحة تخوض صراعها المرير من أجل تحرر فعلي من ربقة رأس المال ونظامه البربري، أو في الموجات الثورية القادمة وستكون أمضى سلاح يمكُنها من التجرؤ أكثر على أعدائها. [/b] | |
|