دروس سورية في الديمقراطية
عبد الباري عطوان
2011-06-14
جميل ان يكون الرئيس السوري بشار الأسد اول المهنئين
لنظيره اللبناني ميشال سليمان بمناسبة تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة
بعد مشاورات استمرت خمسة أشهر، ولكن ما هو اجمل من ذلك، ان يحدث العكس، أي
ان نقرأ، في يوم ما، نأمل ان يكون قريباً، ان الرئيس اللبناني يبادر
بالاتصال بنظيره السوري لتهنئته بتشكيل حكومة سورية تنبثق عن تجربة
ديمقراطية حقيقية، وانتخابات حرة نزيهة في ظل تعددية حزبية كاملة.
هل
هذا التمني هو نوع من الحلم.. الاجابة نعم، نقولها وفي حلقنا الكثير من
المرارة، فما يجري على ارض سورية من اعمال قتل للمحتجين سواء على أيدي
الجيش ودباباته وطائراته العمودية، او رجال الأمن الذين يطلقون النار بهدف
القتل لا يوحي بان التغيير الديمقراطي بات قريباً، او حتى ممكنا في سورية.
فالأخبار
الوحيدة القادمة الينا من سورية هذه الأيام لا تحمل الا اعداد القتلى
والجرحى المتزايدة جمعة بعد اخرى، وتحركات الدبابات للسيطرة على هذه
البلدة أو تلك، والمقابر الجماعية المكتشفة هناك او هنا، وتضارب التقديرات
حول عدد اللاجئين الى الأراضي التركية من منطقة جسر الشغور وضواحي ادلب
هرباً من القتل والدمار.
كيف يمكن ان يتفاءل المرء بقرب حدوث الاصلاح
الديمقراطي في سورية او بعده، والدكتور فاروق ابو الشامات رئيس لجنة وضع
قانون للأحزاب في البلاد يعترف في حديث لصحيفة 'الثورة' بانه لا توجد
ثقافة سياسية، ولا مشاركة للمواطنين في الحياة السياسية، ولذلك فإن من
صميم عمل اللجنة هو 'الارتقاء بالاحزاب لتصبح رافعة قوية قادرة على تعبئة
جهود، ومكونات المجتمع، بهدف مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وصياغة
مشروع قانون جديد لتأسيس احزاب سياسية وطنية تسهم بتوطيد عملية الاصلاح
السياسي وتعزيز صرح الديمقراطية والتعددية السياسية'.
قرأت تصريحات
الدكتور ابو الشامات اكثر من مرة لعلي افهم ما يريده، او ما تريد لجنته
التوصل اليه، ولكن عجزت عن ذلك، ولا يضيرني الاعتراف علناً بجهلي في فك
طلاسم لغته وتصريحاته هذه، غير انها محاولة لكسب المزيد من الوقت من خلال
الايهام بان هناك تحركاً نحو الاصلاح الديمقراطي، اي اننا نسمع جعجعة دون
ان نرى طحناً.
' ' '
الدكتور ابو الشامات محق في قوله انه لا توجد
ثقافة سياسية أو ديمقراطية تعددية لدى الشعب السوري، فكيف سيتعرف على مثل
هذه الثقافة وهو الذي عاش تحت نظام الحزب الواحد وهيمنته لأكثر من اربعين
عاماً كان محظوراً عليه خلالها ممارسة اي نشاط سياسي او حزبي، وان فعل
فإنه يتعرض للاعتقال بتهم عديدة اقلها التعاون مع قوى اجنبية لتخريب امن
الوطن وزعزعة استقراره.
ومن الغريب ان الدكتور ابو الشامات يقول ان من
ابرز مهام لجنته، حسب ما جاء في تصريحاته، هو تعليم الشعب ثقافة
الديمقراطية والتعددية السياسية، للارتقاء بمستواه في هذا الصدد، ثم بعد
ذلك يمكن اجراء الاصلاحات ووضع القوانين التي تسمح بالتعددية السياسية
والانتخابات الديمقراطية بالتالي.
المشكلة هنا، ان الذين سيتولون تعليم
الشعب السوري ثقافة الديمقراطية والتعددية هم انفسهم بحاجة الى دورات في
هذا الصدد، لانهم يتساوون مع الشعب في الجهل المفترض بمثل هذا العلم، واذا
جادلوا بعدم صحة ذلك، فإن اقصى سقف لهم في هذا المضمار هو أحزاب الجبهة
الوطنية، وهي احزاب منقرضة، تضم ديناصورات ينتمون في معظمهم الى مرحلة
الحرب الباردة، واصيبت بعدوى التوريث، اي توريث الزعامة، بحيث باتت هذه
الزعامة تنتقل في بعض الحالات، من الزوج الى الزوجة، او من الاب الى الابن
وهكذا.
الديمقراطية ليست علماً يدرس في الجامعات والمدارس، وانما هي
مطلب شعبي حتمي، تماماً مثل الخبز والماء والهواء لا يمكن ان تستقيم حياة
الامم بدونها. فجميع الشعوب التي انتقلت من الانظمة الشمولية الى
الديمقراطية، لم تنخرط في دورات تثقيف ديمقراطي تنظمها مؤسسات ولدت من رحم
الديكتاتورية والقمع.
هناك تجارب ديمقراطية عديدة بعضها غربي وبعضها
الآخر عالمثالثي، يمكن الاستفادة منها، ومن القوانين الحزبية والتعددية
المنبثقة عنها لتسريع عملية التغيير استجابة لمطالب الشعب، ولحقن الدماء،
ولكن لا بد من توفر النوايا الصادقة مسبقاً، ولا نعتقد ان تشكيل لجان
تتفرع عنها لجان اخرى، وعقد اجتماعات تلو الاخرى، يصب في هذه المحصلة.
النظام
في سورية يعيش حالة من العناد غير مسبوقة، فهو يرفض تقديم اي تنازلات
ديمقراطية حقيقية تحت ضغط الاحتجاجات حتى لا يظهر بمظهر الضعيف، وهذا خطأ
كبير قد يؤدي الى نتائج كارثية على المدى البعيد.
صحيح ان الحلول
الامنية حققت بعض النجاحات في تقليص حدة الاحتجاجات، وهذا امر لا يبعث على
الفخر، فالانسان الاعزل الضعيف الذي ينزل الى الشارع للتعبير عن مطالبه
المشروعة في الاصلاح، لا يمكن ان يهزم الدبابات التي تطلق القذائف عليه،
او جماعات 'الشبيحة' المدربة على القتل والتعذيب لكل من يختلف مع النظام.
' ' '
ربما
تشعر القيادة السورية بالاطمئنان لعدم حدوث تدخل عسكري خارجي على غرار ما
حدث في ليبيا او العراق، وهو اطمئنان في محله لان الشعب السوري في معظمه
يعارض مثل هذا التدخل، ويصر على سلمية انتفاضته، واستقرار بلده ووحدته
الوطنية، وهذا الحرص يجب ان يقابل بالتقدير لا بالرصاص.
الغرب لا يجرؤ
على التدخل عسكرياً في سورية ليس لان روسيا والصين ستستخدمان 'الفيتو' في
مجلس الامن، ولا لان تدخلاته السابقة في العراق وافغانستان منيت بالفشل
والخسائر الضخمة مادياً وبشرياً، وانما لان هذا الغرب يدرك جيداً ان
الغالبية العظمى من السوريين سيتصدون له، مثلما تصدوا لكل تدخل مماثل
وقدموا آلاف الشهداء.
ما نخشى منه ونحذر، ان يعمي هذا الاطمئنان،
المرتكز على انتصارات صغيرة، حققتها الحلول الامنية، القيادة السورية عن
رؤية المستقبل بعين متفحصة، تقرأ الأخطار المحتملة قراءة صحيحة، فنحن لا
نريد ان تتحول سورية الى بورما او كوريا شمالية اخرى، بل دولة عصرية تقود
المشروع النهضوي العربي.
من المؤلم ان النظام السوري، بالاعتماد كلياً
على الحلول الامنية الدموية، وتأجيل الحلول السياسية، ومعاداة كل من ينتقد
نهجه هذا، وآخرهم السيد رجب طيب أردوغان، بالصورة التي نشاهدها من خلال
الهجمات المكثفة عليه شخصياً وعلى تركيا، وهو الذي كان حتى اشهر معدودة
الحليف والصديق الاوثق لسورية، يجر سورية الى مستقبل مجهول، مفتوح على
جميع الاحتمالات، وابرزها الحرب الأهلية، خاصة في هذا الوقت الذي تتصاعد
فيه عمليات التجييش والحشد الطائفي والتدخلات الخارجية التي لا تريد خيراً
لسورية وللأمة العربية بأسرها.
فكل ما نتمناه ان يعطي الرئيس بشار
الشعب السوري ما يتمتع به حلفاؤه في لبنان من حريات وديمقراطية وحقوق
انسان، والمشاركة في ادارة شــــــؤون بلادهم من خلال برلمان ومؤسسات
منتخبة، وتنافس شريف بيــن الحكومة والمعارضة. او ان يتبنى النموذج التركي
الديمقراطي الذي رفع تركيا الى مصاف الدول الاكثر تقدما ومكانة في العالم
وجعلها سادس اكبر اقتصاد في اوروبا