لم تشعر بيروت ولا دمشق ولا رام الله او غيرها أنها انتصرت في الانتخابات
التركية، على ما جاء في خطاب النصر الذي ألقاه رئيس الوزراء التركي رجب
طيب اردوغان في انقره ليل الأحد. الديموقراطية في تركيا إنجاز باهر لا
جدال فيه. لكن تقاسمه مع الناخبين الأتراك، او حتى مع نصفهم شأن آخر،
يحتاج الى كسر المزيد من الحواجز النفسية والسياسية مع الجار التركي
العائد حديثاً الى العالم العربي.
كانت لحظة انفعال عابرة، بدا اردوغان كأنه يؤدي نشيداً أكثر مما كان
يقدم وقائع، عندما اورد اردوغان اسماء الكثير من الدول والعواصم التي وجّه
إليها التحية، او دعاها الى المشاركة في احتفالات النصر الانتخابي
البارز.. وعندما ركز في كلمته الحماسية على مغادرة الحدود التركية ليتفادى
التسليم بأن حاجزاً جديداً قد ارتفع امام مشروعه لتحديث تركيا وتولي حكمها
بدستور معدل غير موروث من العسكر.
كان اردوغان جريحاً. شعر بظلم القانون الانتخابي النسبي، الذي حرمه
من ترجمة غالبيته الشعبية الساحقة الى غالبية برلمانية مؤاتية لإكمال
الانقلاب الإسلامي الأبيض على الجمهورية الاتاتوركية، واقامة بديلها في
موعد لا يتخطى الذكرى المئوية الاولى لتأسيسها في العام 2023، على ما جاء
في أحد أهم شعارات الحملة الانتخابية. ولعله خشي من ان المشروع الاسلامي
كله في تركيا بلغ ذروته، وبات من الآن فصاعداً في مرحلة الانحدار الذي لن
يوقفه تصويت 21 مليون ناخب تركي مع حزب العدالة والتنمية.
التحدي الداخلي صار أكبر. لن يقبل اردوغان بسهولة أنه بات مضطراً
الى التحالف والتفاهم مع ألد أعدائه القوميين والسياسيين من اجل تشكيل
الحكومة المقبلة، ومن اجل تعديل الدستور.. وسيكون الخارج الذي خاطبه
بالأمس وسيلته الرئيسية للدفاع عن منجزاته السياسية والاقتصادية، وستصبح
تركيا بزعامته في السنوات الاربع المقبلة، اشد اضطراباً في الداخل، في
البرلمان وفي الشارع، وأكثر جرأة وحيوية في سياستها الخارجية المتعددة
الجبهات. ليس هناك تعويض آخر عن الخذلان المحلي. وليس هناك مجال لإعادة
فتح الباب الاوروبي، سوى بالمزيد من المكاسب في العالم العربي وفي آسيا
الوسطى.
لكن اردوغان لم يكن في السنوات الاربع الماضية يفتقر الى الجرأة، بل
الى الدبلوماسية. النجاحات الخارجية لم تكن مدهشة. ثمة في تركيا ما يصنف
التجربة العراقية ثم الفلسطينية ثم الليبية، والآن السورية، باعتبارها
نكسات متتالية لدور سياسي طموح جداً، ولبرنامج استثماري مغال في الفصل بين
الاستقرار والازدهار في العالم العربي. والتصويت الشعبي التركي الساحق، لم
يكن ولن يكون تفويضاً مطلقاً للمضي قدماً في هذا الطريق الوعر. كان مجرد
تعبير عن استقطاب داخلي حادّ، يدور حول الإسلام والهوية والدستور، ولا
يتصل بما يدور في دمشق من أزمة داخلية تطرق أبواب تركيا، ولا طبعاً بيروت
التي لا تحتلّ أي مكانة في الذاكرة السياسية التركية.. ولا يمكن أن تقاسم
الأتراك فرحتهم بانتخابات محلية جداً.