-1- لم تعد المسألة تحتمل اي التباس، ولم يعد السؤال
حول سقوط النظام البعثي في سورية مجدياً. ليس السؤال هل سيسقط النظام،
فالنظام سقط في درعا من زمان. من تلك اللحظة الوحشية التي سمحت لرجال
الأمن والمخابرات باعتقال الأطفال الابرياء وتعذيبهم، وصولا الى لحظة
حمزة، الفتى المكلل بمجد التعذيب وهالة البراءة. النظام سقط وانتهى الأمر،
والسؤال هو متى وكيف؟ وكم من الألم ينتظر السوريات والسوريين الشجعان، قبل
ان تنقشع الغمامة السوداء عن سماء الشام.
لم يعد الشعب قادرا على
احتمال المزيد من العسف. تساوى الموت والحياة في عيون الناس، وخرج الأمل
من اعماق اليأس. ذهب السوريون الى كعب اليأس، قبل ان يكتشفوا، ان الرهاب
من السلطة لم يعد يحمي حياتهم، لأن الحياة صارت مرادفاً للموت.
ماذا
يقول الناس لمن اقتلع اظافر الأطفال واستباح اجسادهم؟ كيف يستطيع اهل
الضحايا ابتلاع جرعة القهر التي جسّدها جسد حمزة المنتفخ بالموت والتعذيب،
حيث تلذذ الساديون بقطع اعضاء طفل كل ذنبه انه اراد ايصال المؤن الى
اقربائه المحاصرين في درعا؟
من اعماق هذا اليأس الذي صنعته مافيا عسكرية سياسية، محولة شعب سورية الى ركام، من هذا اليأس ولد الأمل.
دم
السوريات والسوريين المهدور، يفتح كوة الشمس ، ويعلن ولادة الأمل. هذا هو
سر الثورة، انها تقوم بتحويل اليأس الى امل. امل مثقل بالدم والوجع
والبطولة. امل الشجاعة الخائفة، او الخوف الشجاع. امل يطلع من فقدان
الأمل، وينشر راية الحرية على المدن السابحة في دماء ابنائها.
-2-
السقوط
الحتمي للديكتاتوريات العربية صار واقعاً. علي عبد الله صالح ذهب الى
ملجئه السعودي مع اركان دولته، والقذافي لا يجد ملجأ. لكن المسألة صارت في
حكم المنتهية. زمن كامل يمضي الى الفناء، ولا يترك وراءه سوى بصمات من
الجروح على اجساد المجتمعات العربية.
واذا كانت نهاية القذافي ارتبطت
بالتدخل الأطلسي الذي كان كأسا مرة، فان العهد الليبي الجديد يجب ان لا
يبدأ على الطريقة التهريجية التي صاغها برنار هنري ليفي. مثقف الخبطات
الاعلامية الفرنسي، الذي حوّل دور المثقف الى مسرح هزلي. اراد ليفي ان
ينهي مهمته الليبية بزيارة لنتنياهو، ابلغه فيها ان الثوار الليبيين
يستعدون لاقامة علاقات مع اسرائيل! لا شك في ان خفة ليفي ونجوميته
المفتعلة، كانتا وراء هذه الزيارة.
لا بد وان الكاتب الفرنسي يعرف
جيداً الموقف الاسرائيلي المعادي للثورات الديموقراطية العربية، كما يعرف
عمق العلاقة بين سيف الاسلام القذافي والاسرائيليين، لكن تصريحاته تخفي
رأس جبل الجليد الذي ينتظر العالم العربي في المرحلة المقبلة. من هنا لا
يكفي نفي رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل تصريحات ليفي، بل
يجب منع هذا الرجل من التعاطي في الشأن الليبي، والتوقف عن استقباله.
ومن
اللافت ان اصدقاءنا السوريين تنبهوا للأمر، فأصدرت مجموعة من خيرة مثقفيهم
بيانا ترفض فيه الدعم الذي تطوع به ليفي للثورة السورية. لا يستطيع
المتصهين الذي يؤيد الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين ان يكون صديقا
للديموقراطيين العرب، ولا نريد دعمه او صداقته.
-3-
ولأن الشيء
بالشيء يذكر، فقد اصبت بالأسى وانا اقرأ وقائع اللقاء مع الكاتب المغربي
الطاهر بن جلون، الذي افتتحت فيه الذكرى السادسة لاستشهاد سمير قصير، في
بيروت. كان اللقاء عبارة عن حوار اجراه الروائي اللبناني شريف مجدلاني مع
الكاتب المغربي، وفي حوارات شفهية كهذه تقال بعض الأشياء من دون تمحيص. ما
معنى ان يقول بن جلون ان العالم العربي غير موجود! هل يكفي ان تكون هناك
اختلافات في اللهجات والاديان كي يصير العالم العربي غير موجود؟ لا اريد
الدخول في نقاش لا جدوى منه، لكن كان على صاحبنا المغربي ان يكون اكثر
دقة.
فالحوار العلني في الجامعة ليس شبيها بحوارات المقاهي، بل يفترض شيئا من المسؤولية الأدبية.
لكن
ما يثير الأسى هو ان يدافع المثقف عن نظام بلاده وعن مليكه، في بيروت،
وعلى مبعدة مئة كيلومتر فقط من الشام، حيث تسيل الدماء. 'ملك المغرب شخص
محبوب جداً ومحترم، ويعمل كثيراً'، كما انه 'استبق الاصلاح'!
غريب هذا الكلام في ذكرى سمير قصير، الذي دفع حياته ثمنا للحرية، وفي زمن التغيير العربي والضغط على الحريات الصحافية في المغرب!
-4-
الزمن
العربي الجديد الذي يولد، يبدأ ناقصاً، او هكذا تقول المؤشرات الراهنة على
الأقل. ونقصانه نابع من عدم قدرته على كسر حاجزي الخوف الأكبرين في
المنطقة: الحاجز الخليجي، الذي يتحصن في المملكة العربية السعودية،
والحاجز الاسرائيلي الذي لا يزال يحتمي بالدعم الامريكي.
صحيح ان
مؤشرات تشقق الحاجزين بدأت في البحرين ومن خلال المناخ الفلسطيني الذي
يستعد لنقلة نضالية نوعية بعد ذكرى النكبة، التي اسست لأفق مختلف في هذا
العام.
غير ان هذين الحاجزين سوف يشكلان المختبر الأكبر لقدرة الثورات
العربية على تأسيس أفق جديد، وعلى رسم ملامح العالم العربي باحتمالات
التحرر والحرية.
وبمقدار ما هي المعركة مع استبداد الجمهوريات الوراثية
كبيرة، فان المعركة مع الحاجزين الأخيرين امام نهضة العرب الجديدة، ستكون
مصيرية وبالغة الخطورة، وتتطلب وعيا جديدا وخطابا سياسيا ثقافيا متحررا من
سجن البترودولار من جهة، وقادرا على مواجهة التوسعية الاسرائيلية بعقلانية
وحزم وخيارات تاريخية، من جهة ثانية.
-5-
انه الأمل.
ان ترى
حماة في يومين متتالين وهي تقاوم القتل والعسف بصدور ابنائها، فهذا يعني
ان سنابل الحرية اينعت. قمح حوران يلتمع اليوم في كل البلاد السورية،
ليعلن ان حماة التي استشهدت مرتين، سوف تُنهض معها سورية كلها من القبر.
انه الأمل.
امل مجبول بالدم والتضحيات، يعلن زمن البداية الذي آن له ان يبدأ.