بعد العموميات التي أطلقها
اوليغ، أقدم فيما يلي موجزاً للبنى الأساسية التي ارتكزت عليها فرضياته،
ونظرا لطول البحث وتشعبه في كتابين كبيرين، رأيت أن أقف عند أفكار رئيسية
شكلّت المداميك الأساسية للبحث أولها: دراسة ك.لُكسنبرغ الفيلولوجية
المقارنة حول نقش قبّة الصخرة، كما وردت في كتاب "البدايات المظلمة".
وثانيها: دراسة ف.بوب حول تأويل النقوش الأخرى والمسكوكات، ورؤيته للمسار
التاريخي الذي سلكته الأحداث مطلع القرن السابع م. كما وردت في كتاب
"الإسلام المبكّر" آملاً الاختصار بما تسمح به هذه الوريقات.
قبة الصخرة:تحت عنوان "تأويل جديد للنقش الكتابيّ العربيّ على قبّة الصخرة في
القدس" (1)، يُقدّم لُكسنبرغ في البداية تعريفاً بدور اللغة الآرامية
باعتبارها لغة التواصل الدولية Lengua Franca في المنطقة، ولغة إنجيل
"بشيطا" (البسيط) لمسيحيّي المشرق المنسوب للقرن الثاني م. كما يعلمنا بأنّ
النقش الكتابيّ لقبّة الصخرة قد أخذه عن تصوير موثوق جاء في كتاب غرابر O.
Graber ويعود النقش لعبد الملك بن مروان باني الصرح عام 72عربي* 695م ، مع
التنويه بأنّ اسمه قد شُطب من النصّ واستبدل باسم المأمون عام 216 هجري.
وقبل عرض آراء لُكسنبرغ أقدّم الجزء المهمّ من النقش الكوفيّ كما أورده
الكاتب (2)
1ـ بسم الله الرحمن الرحيم/لا إله إلا الله وحده لا شريك له/ له الملك
وله الحمد/ يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير/ هذا المقطع يتطابق مع القرآن
(64آية 1) (57 أية 2)
2ـ محمد عبدالله ورسوله/ إن الله وملائكته يصلون على النبي/يا أيها
الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما/صلى الله عليه والسلم عليه ورحمت
الله/ جزء من المقطع يعود للقرآن (33 آية 56)
3ـ يا أهل الكتاب لا تعلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق/ إنما
المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقيها إلى مريم وروح منه/فآمنوا
بالله ورسوله ولا تقولوا ثلثة/ انتهوا خيرا لكم/ إنما الله إله
وحد/سبحانه/أن يكون له ولد/له ما في السموت وما في الأرض/وكفى بالله شهيدا
(4 آية 171)
4ـ لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون/ومن يستنكف
من عبدته ويستكبر فسيحشركم إليه جميعا/ (4 آية172)
5ـ اللهم صلي على رسولك وعبدك عيسى ابن مريم/ والسلام عليه يوم ولد ويوم
يموت ويوم يُبعث حيا/ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه تمترون/ما كان
لله أن يتخذ من ولد/إذا قضى أمرا يقول له كن فيكون/إن الله ربي وربكم
فاعبدوه/هذا صراط مستقيم (19 آية 33ـ 36)
المقاطع أعلاه نُقلت كما هي تقريبا، وتعود لخط كوفي، تعرض للتنقيط بما
يناسب تطور الكتابة العربية. والملاحظ أنّ ضمير المتكلم (مقطع5) في سورة
مريم الآية 33 "والسلام عليّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أبعث حيّا" قد أصبح
ضميراً غائبا، وهذا برأيي منح سياق النص جمالية. والأهمّ أننا أمام أحد
أقدم الوثائق العربية المدوّنة، لإسلام ذلك العصر، وهذا بالطبع ليس رأي
لُكسنبرغ فإسلام ذلك العصر كان ما يزال حينها مسيحية سورية. وهنا يسوق
لُكسنبرغ أدلّته:
ينطلق الكاتب من الجملة الاسمية "محمّدٌ عبد الله ورسوله" (3) (مقطع2)،
ويرى أنذ لفظ "محمدٌ" ليس اسماً لشخص بل صفة لـ"عبد الله ورسوله" كما لو
كنا نقول: ممجّدٌ أو مبجّلٌ عبد الله ورسوله، والمقصود بهذا التبجيل هو عبد
الله ورسوله المسيح، حيث أنّ عطف عبد الله على رسوله (بالواو)، يتّسق مع
المقطع الخامس في قوله: اللهم صلي على رسولك وعبدك عيسى بين مريم؟ قد يبدو
الأمر مسلياً في هذه اللعبة اللغوية، لكنّ الكاتب يقطع علينا اللهو ويأخذنا
إلى أمور تستحقّ التأمّل (وحكّ الرأس). عندما يُورد السياق التاريخي
لاستخدام "عبد الله" أو "خادم الربّ"، فاللفظ كما يقول ارتبط بالتراث
السوريّ منذ فجر المسيحية، وجذوره تصل إلى القرن السادس ق.م حيث كان "عبد
الله" لقباً لأشعيا أحد الأنبياء المتأخّرين، وصاحب سفر أشعيا. ويضيف بأنّ
هذا اللقب ورد في رسائل المسيحية الأولى لكليمنس أحد آباء الكنيسة
المبكّرين في جماعة كورنثوس الذي قال: الله وحده خالق كلّ شيء "وحبيبه
وعبده (خادمه) يسوع المسيح". وفي منتصف القرن الثاني الميلاد يرد في
الشهداء (14:1) لبوليكارب Polykarp: الله القادر على كلّ شيء، أبُ هذا
الحبيب والمحمود (بمعنى: محمّد أو ممجّد) العبد يسوع المسيح.
وللربط بين عبد الله ونبّوة المسيح يورد الكاتب قول القرآن: قال إنّي
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّا (19 آية 30) ثمّ يُعرّج على إشكالية في
الآيات 18ـ 20 سورة 72: وان المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا/وانه لما
قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا/قل إني أدعو ربي ولا أشرك به
أحدا.
وهنا يعطي لُكسنبرغ مثالاً على غموض بعض الآيات بسبب أخطاء حصلت أثناء
تعريب الآرامية، وتشابه الرسم لأربعة حروف هجائية واختلاف نطقها، والالتباس
كان في قوله: "كادوا يكونون عليه لبدا" إذ إن تفاسير هذه الآية 19 من سورة
الجنّ، تربطها بسماع الجنّ (4) لمحمد وهو يتلو القرآن، فتزاحموا وتكدّسوا
في المكان (لبدا) أو انطرحوا أرضا بسبب الزحام. أما الكاتب فيرى أنّ
الإشكالية نجمت عن تشابه رسم حرف العين الآرامي "حـ"، مع حرف اللام العربي
"لـ" وهذا الالتباس أدّى إلى استبدال العين باللام في كلمة "لبدا" واللام
بالعين في "عليه" والأصل أن الآية كانت: "كادوا يكونون له عُبّدا"
(والمقصود أنهم كادوا يعبدون عبد الله "المسيح") وبهذا يستوي المعنى حسبما
يقول الكاتب.
تقويم العرب:بداية أشير إلى أن هذا المجتزأ هو خلاصة لدراسة ف.بوب التي توزّعت على
الكتابين المذكورين، وهي العمود الفقريّ لهما وتبلغ مجتمعة أكثر من 250
صفحة من الشروح وصور الوثائق، وأسماء المراجع. ولتشعّب الموضوع سأقدّم فيما
ما يلي تعريفا متواضعا للإلمام بهذه الفرضيات التي رمت إلى إعادة بناء
الصورة التاريخية المبكّرة للإسلام حسب تأويل بوب للنقوش الكتابية (خصوصا
الأموية)، مع مرور سريع لمعرفة الوضع الدوليّ آنذاك وما آل إليه النزاع
البيزنطي الساساني مطلع القرن السابع:
في كتاب: الإسلام المبكّر (5) يبدأ الكاتب برحلة أركيولوجية بين أوغاريت
على شواطئ سوريا مرورا بالحضر شمال بلاد النهرين وصولا إلى خورسان في فارس
ويسجل القراءات التالية:
آـ في النصوص الأوغاريتية عُثر على مصطلح "مهمد". الذي اقترن استخدامه
بصفاء الذهب ونوعيته المنتقاة. وقد احتفظ اللفظ الأوغاريتي "محمد" على
محتواه الدلالي بمعنى: منتخب، مصطفى مختار، حتى بداية الإسلام.
ب ـ يجد الكاتب أنّ منطقة غرب دجلة التابعة لمدينة الحضر في القرن
الثالث م. (الجزيرة السورية الواقعة بين دجلة والفرات) هي التي قُصدت
بمصطلح "جزيرة العرب". فالنقوش التي عاصرت المدينة كانت تذكر الحاكم باسم
"ملك حضر وجميع العرب"، وهذا ما تؤكده شهادات لمؤرّخين رومان. أي أنّ أصل
Arabia ليس شبه الجزيرة العربية، بل الحضر إضافة إلى مملكة الأنباط، ومنطقة
حمص، ومملكة الرها شمال بلاد النهرين، كما يفصلها في بحث نشره عام 2006
(6). وسكان هذه المناطق كانوا من العرب والآرب (اصطلاح يقصد به مرحلة لغوية
بين العربية والآرامية، السابقة لعربية سيبويه)، وكانوا من أتباع الكنيسة
السورية الما قبل نيقية [التي تعارضت مع قانون الإيمان لمؤتمر نيقيا 325 م.
ومفاهيم التثليث البيزنطي وتضم بالعادة كنائس إنطاكية والرها، وسلوقيا
(قرب بغداد) إضافة للغساسنة والمناذرة العرب]
ج - يجد الكاتب أنّ هؤلاء، وأثناء الحروب الرومانية البيزنطية مع فارس،
قد تعرّضوا للتهجير مرات عديدة منذ عصر أردشير 241م عندما احتلّ مدينة
الحضر وأنهاها، وحتى عصر خسرو الثاني (قتل عام 628م) الذي قام بترحيل سكان
أنطاكية والقدس والرها وتوطينهم في شرق بلاد فارس (سيستان ومرو)، والمعروف
أن المُهجّرين السابقين إلى خوزستان كانوا قد أنشؤوا هناك مدينة جند يشابور
وغيرها.
د ـ استطاع خسرو الثاني في صراعه مع بيزنطة أن يحتل سوريا عام 614م. وأن
يستولي على الصليب الأصلي (في القدس) وكذلك احتل مصر عام 618م. وكاد أن
يصل القسطنطينية ويسقطها. ثم تغيّرت الصورة بعد اعتلاء هرقل فبدأ
البيزنطيون يحققون النجاح عبر حشد لمسيحي المشرق البيزنطي (سوريا)
والمسيحيين القدماء في فارس، وكان الحلف foderati مع العرب (الغساسنة) يسمى
"قريش" والكلمة تحوير للفظ آرامي: قريشا، وبهذا تمكّن هرقل من تحقيق نصر
مباغت على الفرس (فوق أرمينيا الحالية) في 5 أبريل عام 622م، ثم في نينوى
عام 628م. أعقبها استعادة الصليب، واستسلام ابن خسرو وتوقيعه ما سُمي "سلام
الرشد" أعقبه انهيار الدولة الساسانية.
وهكذا أصبح عام 622م. عام تحرّر المسيحيين العرب/الآرب من الهيمنة
الدولية، فقد اضطرّ هرقل فيما بعد للإقرار باستقلالهم، والتنازل عن لقبه
كإمبراطور واتخاذ لقب باسيليوس (خادم المسيح) وهذا العام أصبح تقويماً
عربياً لذكرى الاستقلال.
وأهمّ إشارة لحقبة العرب أو تقويمهم نجدها على النقش الكتابي اليوناني
في حمامات قادرGadra في الجليل/ فلسطين، وعليه ذُكر الحاكم الأول لجميع
العرب "عبد الله معاوية أمير المؤمنين" MAVIA AMIR ALMOMENIN وينفرد
النقش بذكر الحقبة التي يُنسب إليها حكم معاوية، والتي أرّخت بموجب التقليد
المحلي للمدن العشر Dekapolis في مقاطعة "العربيا" الرومانية، حيث ذكر
النقش حقبة القيصر كونستانوس الثاني Konstanus II يتبعها التقويم المحلي ثم
حقبة الحاكم الإقليمي (الوالي). وكما يلي: السنة السادسة للقيصر، الأسبوع
الثاني، خامس أيام ديسمبر وهذا يوافق نهاية عام 663م. أما حقبة ديكابوليس،
فمسكوكاتها معروفة ومؤرخة منذ العام1 بعد الاحتلال الروماني المصادف 64/63
ق.م. وفي النقش ذُكر عام 726/من حقبة المدينة، وهذا يعادل عام 662/663 م.
وأيضا وردت حقبة الحاكم (الوالي) معاوية وتحديدا عام 42 KAT ARABA/S/ "بعد
العرب" والتي يربطها الكاتب بنصر هرقل على الفارسي عدوّ العقيدة عام 622م.
عليه فإنّ عام 42 يعادل 663م، والجدير بالانتباه أنّ الحساب في الحقب
المذكورة كان بموجب السنة الشمسية وهذا أمر في غاية الأهمية، ويتناقض مع
الموروث الذي يخبرنا بحساب قمري متسلسل؟
بعد وفاة هرقل عام 641م /20 عربي، تحقق للعرب الاستقلال الرسمي وضرب
المسكوكات باسمهم. وخلال القرنين الأولين حملت المسكوكات عبارة "أمير
المؤمنين" لكنها لم تكن تتطابق مع لقب"خليفة"، ويجد الكاتب أن أمير
المؤمنين وردت بمعنى "مسؤول الأمن، أو راعي الأرض" كما يرد ذلك في
كرونولوجيا إسبانية من عام 754م. وورد في اللغة البهلوية (الفارسية
الوسطى) على المسكوكات العرب ـ ساسانية بصيغة: أمير ورييشنيغان.
ومن دراسة الكاتب لتلك النقوش الكتابية والمسكوكات، يصل إلى فرضية أن
(الإسلام؟) بدأ في بلاد فارس وسط جماعات من المسيحية الما قبل نيقية،
تأثّرت بمفاهيم فارسية غذّت مبادئ دين إبراهيم، كصورة للعقيدة النقية وعدم
الشكّ. إضافة إلى أنّ جميع المسكوكات العرب ـ ساسانية تمّ ضربها على الطريق
بين خوزستان ومرو وسيستان مرورا بالريّ، خصوصا في دارابجيرد التابعة
للمقرّ الساساني القديم بيرسيس (جمشيد) وحملت ألقاب قيمة مسيحولوجية: كعبد
الله، وعبد الرحمن ومُهمَت [مهمت: هي الصيغة الكتابية الآرامية لمحمد، حسب
تقاليد الخط البهلوي (وأتت بمعنى مصطفى، منتجب) كما وردت لأوّل مرة على
سكّة من زرنج/سيستان عام 56 أي بمثابة صيغة تفخيمية وليس اسما شخصياً] كما
يذهب الكتاب.
صعود معاوية وهبوطه:بعد أن نال عرب/آرب المشرق (البيزنطي والساساني) استقلالهم على يد هرقل،
عادت الصراعات الدينية مع بيزنطة حول طبيعة المسيح واحتدمت أيام القيصر
كونستانوس الثاني، خصوصا مع أتباع الطبيعة الواحدة في سوريا ومصر، مما
اضطره لانتزاع الوثيقة الشهيرة لهرقل من آية صوفيا والمسماة Ekthesis والتي
نظمت العلاقة بين كنيسة بيزنطة ومسيحيي المشرق، وسن قانون اسمه: Typhos
يمنع النقاش حول مسائل القدرة والإرادة (محور الجدل المسيحولوجي). وبعد
استفحال الصراع اضطر القيصر لترك القسطنطينية، ونقل مقرّ الحكم البيزنطي
إلى سيراكوس في صقلية عام 662م. وفي ذات السنة نصّب معاوية نفسه أوّل أمير
للمؤمنين، كما يوثّقه المسكوك الوحيد الذي ضُرب باسمه في دارابجيرد عام
41/(662م)
وعام 663م انتهز معاوية فرصة رحيل القيصر عن العاصمة، وبدأ مساعي لتوحيد
العرب/الآرب الشرقيين والغربيين، وبدأت قوّاته تشنّ الغارات في آسيا
الصغرى، ثم تقدم بأسطوله في عملية قفز بين جزر قبرص ورودوس ـ كوس ليبلغ عام
672م. كيزيكوس القريبة من القسطنطينية. لكن حصار القسطنطينية أخفق أمام
أسوارها المنيعة، وذهب أسطوله طعما للنار اليونانية، مما سبّب له الخيبة
ودفع الجزية للقيصر الابن قسطنطين الرابع (668ـ685م)، وهذا كان سبب الخلاف
مع حلفائه الشرقيين في فارس (الما بعد ساسانية)، وربما أدت الهزيمة إلى
نهاية سلالته الحاكمة. حيث أنّ يزيد ومعاوية الثاني مازالا بدون أثر
أركيولوجي يدلّ عليهما، فالأول صوّره الموروث شريراً فاسقاً، والثاني
مريضاً وافته المنية بسرعة، وهما بنظر الكاتب جزء من أدب دينيّ، كان يهيّئ
السامع لانتقال السلطة إلى السلالة المروانية.
وما يؤشّر على انفضاض العرب/الآرب الشرقيين عن معاوية، مسكوك ضُرب في
دارابجيرد عام 53/674م باسم أمير جديد للمؤمنين، هو عبد الله بن الزبير أو
أمير وروييشنيغان حسب اللغة البهلوية، [وهذا يتناقض حسب رأيي (كرونولوجياً)
مع قصة الموروث الإسلامي، عن صعود ابن الزبير كخليفة مضادّ لخلافة يزيد.
لأنّ مسكوك ابن الزبير عام 53، يدلّ على تتُويجه في دارابجيرد أميراً
للمؤمنين، في عصر معاوية؟! ولا علاقة ليزيد بالموضوع]
واللافت في سَكّات دارابجيرد، أنّها اقتصرت على ذكر "أمير المؤمنين"
بالصيغة البهلوية مع الاسم الأول للحاكم دون اسم عائلته (قبيلته) وجدير
بالذكر أن درابجيرد حسب تقاليد الحكم الساساني كانت مركز السلطة، ومن أراد
أن يكون حاكماً على فارس القديمة وجب عليه امتلاكها وإخضاعها، ليحصل على
الاعتراف بشرعيته، ولتُضرب له العملة في سنة اعتلائه الحكم، وهذا الأمر
شديد الأهمية لكلّ الحكام، وقد سرى مفعوله أيضاً على معاوية وابن الزبير
وعبد الملك الذين تركوا بصماتهم:
ـ سكّة باسم معاوية عام 41 عليها تصوير الملك الساساني ـ ضُربت في
دارابجيرد ـ وكُتب عليها بالبهلوي: معاوية أمير ـ ي ـ وروييشنيغان
(المؤمنين) ونفس الشيء لابن الزبير بين أعوام 53ـ 60 وعبد الملك بين 60ـ
61.
ـ أما سكّات الأقاليم، فكانت تذكر اسم الوالي ولقبه العائلي (بدون أمير
المؤمنين) كما في مسكوك لعام 41 من دارابجيرد باسم: زيات ـ ي ـ أبو سفيان
(عرفناه بزياد ابن أبيه)
ثم يُورد الكاتب أن عبد الله ابن الزبير، الذي يروي التاريخ الإسلامي
قصته في مكّة أثناء حصار الحجاج لها وضرب الكعبة بالمنجنيق عام 72هجري،
وما حدث أثناء هزيمة أخيه مصعب أمام الحجاج في معركة مسكن (البصرة) ومقتله
عام 71. هذه القصة لا تتطابق مع المسكوكات، التي تكشف أن ابن الزبير كان
حتى عام 60 أميرا للمؤمنين كما في سكّات درابجيرد. ثم واليا (حاكما
إقليميا) حسب مسكوكات كرمان للأعوام 62 ـ 69 وأخرى في إصطخر لعامي 63و66،
وثالثة في أردشير خوررا بين أعوام 65ـ 67 وهذه جميعها قد ضُربت باسمه ولقبه
العائلي (عبد الله زبيران) كما هي العادة في سكّات الولاة. (7)
عصر عبد الملك وأولاده:أما المسكوك المثير لعام 75/696م. فيعود لمرو /خوراسان، باسم عبد
الملك: وقد نُقش عليه اسمه بدون ذكر لقب "أمير ورويشنيغان"(المؤمنين)، إنما
بصيغة: عبدالملك مرون ان ـ ي وهذه هي الطريقة التي يُسمّى بها الوالي. أما
لفظ "مروان ان" MRWANAN فيتكون من "مرو" (مدينة) وصيغة المضاف الفارسية
"ان" وصيغة الجمع "ان" هذا يعني أن اسمه: عبد الملك المروزي (الذي تعود
عشيرته لأهل مرو). وهذه الصيغة الفارسية للاسم جرى تعريبها فيما بعد إلى
"مروان".
ممّا تقدم يصبح لزاماً علينا، ولو بصورة مؤقتة، نسيان التدوين الإسلامي
وشجرة الأنساب العربية، فهي بنظر الكاتب مُختلقة من الرواة وحبكها الموروث
في وقت متأخّر، فعبد الملك بن مروان هو: عبد الملك من مرو/خوراسان؟ ومن
خلال مراجعته للنقوش والسكّات الكثيرة المضروبة باسمه بين خوراسان وخوزستان
ودمشق وحمص والقدس وشمال أفريقيا وتأويل ومقارنة ما عليها من صور ورموز
وصل الكاتب إلى النتيجة التالية:
بعد أن حاز عبد الملك على لقب أمير المؤمّنين، الذي توثقه السكّات العرب
ـ ساسانية، اتجه مع أتباعه من شرق فارس غرباً وكانت وجهتهم القدس إيليا،
لإعادة بناء الهيكل (قبة الصخرة) وانتظار عام 77/عربي (نهاية القرن السابع)
موعد قدوم مسيح القيامة، فحينها ساد اعتقاد بقرب الساعة. وهذا الأمر تدل
عليه مسكوكاته التي صوّرت مسيح القيامة على عملاته المضروبة، التي تتماهى
مع نقش قبة الصخرة لعام 72 والذي فُسّر بأنه دعوة لوحدة ووئام (إسلام)
الفرق المسيحية المتنابذة والمتصارعة، من أجل التهيؤ لقيام الساعة، ويسوق
الكاتب أمثلة كثيرة على سيطرة الأفكار القيامية على عبد الملك بنسختها
السورية كما جاءت في أبوكالوبسه دانيال، وهذا يبدو جلياً في أختام من
الرصاص تعود لبريد عبد الملك عُثر عليها في فلسطين، وتحمل اسمه ويرد فيها
اسم "فلسطين" لأول مرة وشعار: يغار ساهادوتا الخاص بعبد الملك، وهو رمز
أبوكاليبسي عن قيام الساعة. وكذلك سكّة أمير المؤمنين لعام 75/ 696م. فعلى
الجهة الأمامية للمسكوك يوجد تصوير لخسرو الثاني(؟) وتأريخ "سنة خمس
وسبعن" بأسلوب ساساني وخط عربي. وعلى الجهة الخلفية يوجد في الوسط تصوير
لمهمت/محمد واقفا بوضعية أبوكاليبسية قيامية ويحمل سيف اللهب كقاضي
الدينونة، وإلى شمال تصويره يُقرأ بالعربية: "أمير المؤمنين" وإلى يمينه
"هلفة الله" (بالآرامية halpa) والقصد خليفة الله.
ومن يكون محمد/مصطفى، الذي دارت حوله النقوش الكتابية الفارسية؟ هذا ما
يعلمه المرء للمرة الأولى من نص عربي على مسكوك فضي من عام 66 ضُرب في
بيشابور كُتب فيه " باسم الله محمد رسول الله" والسؤال من يكون هذا الرسول؟
فتأويل لفظ "محمد" على قبة الصخرة أعطى استنتاجا بأنه صفة لعبد الله ورسول
الله، كذلك هو الحال مع سلسلة سكّات عبد الملك، فالمقصود هو: عيسى ابن
مريم، والصيغة "محمد رسول الله" تشبه قولنا: مبارك أو ممجد رسول الله
(المسيح) واختصارا فإن عبد الملك آل مرو (الخورساني) وأتباعه من شرق فارس،
الذين هم بالأساس من المُهجّرين المسيحيين العرب والآراميين وأتباع
الكنائس التوحيدية الما قبل نيقية، قد ارتحلوا إلى الغرب بقيادة عبد الملك
بهدف تأسيس سلالة داوودية حاكمة لاستقبال المسيح المنتظر في الهيكل الجديد
(قبة الصخرة) الذي أعيد بناؤه. هذا ما يصل إليه الكاتب من خلال تعقب الكثير
من النقوش، التي يصعب عرضها وتناولها في هذا المجتزأ، ومن ضمنها السكّات
السورية النحاسية ذات الطابع العرب ـ بيزنطي والصور والرموز الدالة عليها
(وجود السمكة، وحرف Mالقيمة العددية 40 رمز هرقل، والنخلة بدل الصليب في
إشارة لولادة المسيح حسب الصورة القرآنية..إلخ). وكذلك سكّة شرق الأردن
التي ذكرت الاسم "محمد" بالعربية لأول مرة. فكل قراءة الكاتب تذهب إلى أن
محمد هو نعت يتطابق مع المسيح.
وفي السياق التاريخي يمكن ملاحظة إدانة الموروث الإسلامي لمفهوم قيام
السلالة الملكية الأموية، واستنكاره لتحويل الحجيج للقدس أيام عبد الملك،
واعتباره بمثابة صرف نظر عن مكّة. لكن الكاتب يرى أن عبد الملك وبعد إخفاق
توقعاته الأبوكاليبسية حول قدوم مسيح آخر الزمان، اكتشف يوحنا المعمدان
(يحيى) وحوّله إلى رمز جديد وحارس لعاصمته دمشق.
ثم يرسم الكاتب صورة للوضع الدولي آنذاك حول مبادئ الحقّ وشرعية
السلالات الحاكمة، ووفق تلك الصورة فإنّ مقتل جستنيان الثاني آخر السلالة
الهرقلية عام 711م. كان السبب الذي قاد (الوليد) وسليمان بن عبد الملك
للهجوم ومحاصرة القسطنطينية بغرض انتزاعها من غاصبي العرش، باعتبارهم
يمثلون السلطة الشرعية التي ملكت الحقّ في وراثة هرقل. وفي أكثر من مكان
يستنتج الكاتب أن الزحف العربي الذي انطلق من سوريا إلى شمال أفريقيا
وإسبانيا كان عملا ضمن مبادئ ومفاهيم الشرعية الدولية آنذاك، والتي أتاحت
للعرب وراثة بيزنطة، ناهيك عن أنه يرى في قصة الفتح الإسلامي للشام محض
أسطورة. فالفحوصات الأركيولوجية لخط وادي اليرموك تشير إلى أن الروم
(البيزنطيين) تركوا الحدود الجنوبية الحصينة خلال القرن 4 و5 م. (حصنا
فتيان وياسر) وفي نهاية حكم جوستنيان (565م) أخلوا وسلّموا معسكري الألوية
المرابطة هناك، وتتمثل في 16 حصناً وهي عبارة عن مئة كيلومتر من الشريط
الحدودي مع جزيرة العرب الممتد من وادي حازا حتى إيدوم.. وكما يبدو فإن
بيزنطة ومنذ أمد لم تعد تمارس نشاطا إداريا، ولم يُعثر هناك على مبان رسمية
للقرن 6 م. حيث اقتصرت على العرب الغسانيين الذين أنابوا الروم في إدارة
سوريا باتفاق يُسمىFoederati [بالآرامية قريشا Qarisha من جذر "قَراما"
ومعناه "جمّع" ولاحقاً عُرّبت إلى "قريش"] والقرشيون الذين ظهروا في
التاريخ الإسلامي هم عبارة عن حلفاء الروم في الجزيرة وسوريا. فمنذ مطلع
القرن 6م. تم دمج الحكام المحليين للغسّاسنة، داخل هرمية السلطة البيزنطية،
إذ حصل الحاكم العام الغسّاني في بصرى على لقب Patricius (لقب يُخلع على
كبار رجال بيزنطة) وصفة تفخيمية "للنصر" Gloriosissimus تؤهله لوضع التاج
الخاص بالملوك التبّع، وكان الحجاز ضمن نفوذه الإداري، من هنا يخلص الكاتب
إلى أن غزواً عسكريا لسوريا وجنوب العراق لم يحدث، ولا يوجد أثر واحد يدل
على نشوب معارك في اليرموك إنما هنالك انتقال للسلطة إثر تسلم حلفاء هرقل
العرب مقاليد الأمور، ثم اعتمادهم العربية لغة الغساسنة.
خاتمة:في الحقيقة كنت، وكما نوّهت في المقدمة المطوّلة، قد أعددت ما استطعت من
رباط الخيل، لمناقشة ونقد هذه الأطروحات المهمة لبوب واوليغ، لكن الأقلام
جفّت والصحف رُفعت ولم يبق حيز لنقد هذا التجاهل المريب لدور الحجاز وإغفال
عروته الوثقى مع العهد القديم وعصر الآباء، لذا سأختم بإحدى لمحات ف. بوب
الذي يشير بكثير من الذكاء إلى لعبة الأعداد (الأرقام) الإسلامية: بعد هجرة
النبيّ بعام واحد (عدد أساسي لا يقبل القسمة إلا على نفسه) تبوّأ أبو بكر
الخلافة عام 11 (عدد أساسيّ أيضا)، ثمّ عمر عام 13 (عدد أساسي)، ثمّ عثمان
عام 23 (عدد أساسي) وبقي بالحكم لاثنتي عشرة سنة مقدّسة جُمع فيها القرآن،
وعام 35 (حاصل ضرب عددين أساسين 5و7) جاء دور عليّ، الذي أكمل الأربعين سنة
من رحلة موسى في صحراء التيه، إنها أربعون سنة من رحلة الزمن الميثولوجي
في صحراء مكّة.