كثيراً ما نقرأ أو نسمع أو حتى
نستخدم في لغتنا مصطلح (الإسلاموية)، وبخاصة بعد استشراء الحركات السلفية
والأصولية الإسلامية وتعدد قراءاتها وفهمها أو لافهمها، ومن ثم تصديرها
للإسلام والإسلام السياسي، وما يتولد عنه من تطرّف وتطرّف مضادّ دينياً على
المستوى العالمي. وغالباً ما نجد أنّ توظيف المصطلح ودلالته لا تكون هي
ذاتها دوماً بل تبدو متغيّرة إلى حدّ ما، بحسب السياق الذي يندرج فيه.
ويمكن القول إنّ الجدل الواسع بل والعنف الأوسع الذي أثارته وأنتجته موجة
صعود (الأيديولوجيا الإسلامية) قد حفّز أقلام الدارسين والمفكرين للبحث
فيها. تعدّدت القراءات والتحليلات لكنّ الجدل ما زال قائماً
والظاهرة/المشكلة في تفاقم مستمرّ.
في كتابه الجديد (أيديولوجيا السيطرة ـ دراسة تحليلية في بنية العقل
الإسلاموي) يقدم الباحث السوري الشابّ أيمن صالح سليمان قراءته الخاصة
والفريدة لـ(الإسلاموية)، ولما يسمّيه (العقل الإسلاموي) عاطفاً إياه على
مصطلح آخر هو(العقل العلمانوي) واللذين يتكاتفان، كما يرى، في تكريس ما
يطلق عليه في دراسته (أيديولوجيا السيطرة) تلك الأيديولوجيا التي يحمّلها ـ
في كلمة المؤلف ـ مسؤولية إحراق "صفحات ناصعة من التاريخ"، وهو يعتبرها
موجودة عبر التاريخ كنزوع إمبراطوريّ ومشروع سيطرة وتسلّط تتبدّل تسميته مع
استمرارية الجوهر من زمن إلى آخر.
يشرح لنا الكاتب ما يقصده بكلّ من مصطلحي إسلاموي وعلمانوي في هامش
الصفحة 22 :"إن مصطلحي إسلاموي وعلمانوي يعبّران عن صفة كلّ منهما في
استبداله للاشتغال المعرفيّ على المادة التي يدّعي امتلاكها بالاشتغال
الأيديولوجي". يتوضّح المعنى الذي يقصده الكاتب بشكل أكبر في الصفحة 23 حيث
نقرأ:"الإسلاموية ليست طارئاً تاريخياً مرتبطاً بالحدث المحمّدي فحسب، وإن
كنا نريد أن نركّز دراستنا لها في هذا الإطار، فهي تمثّل الانحرافات
الأيديولوجية والتخريفية التي أصابت جوهرانية الأديان التوحيدية جميعها على
امتداد التاريخ المعروف…والعلمانوية تأتي في هذا الإطار كنزعة اعتراضية
غير قائمة بذاتها، إنّما كردّ فعل متهيّج ومهيج، لا يعنيه الوجه العقلانيّ
الذي يمكن أن تفهم به الرسالة الإسلامية، وهو يتنازل طوعاً عن حقّه في فهم
الكتاب فهماً عقلانياً، فيتركه للاحتكار الإسلاموي". وهذا فيما نرى أوّل
المفاتيح لفهم الأفكار الغريبة بعض الشيء أو لنقل الجديدة التي يتضمّنها
الكتاب. مفتاح آخر يقدّمه الكاتب ليسهل نقل أفكاره للقرّاء نجده في الصفحة
40 تحت عنوان(نحو تجاوز نهائي لإشكالية الإيمان):".. بحثنا هذا يتجاوز
إشكالية الإيمان باعتبارها إشكالية لغوية، بمعنى أننا نقول صادقين (لمن
يحبّ) أننا نؤمن بالله الذي أرسل نبينا محمد ونحن مسؤولون عن هذا، ونقول
صادقين (لمن يحب) لك أن تعتبر أن الله المقصود هنا هو العقل الكلي كامل
العقلنة ونحن مسؤولون عن هذا.."، ثم يقدم الكاتب في الصفحة التالية
التعريفات التي يتبناها ويبني بحثه عليها لكل من: الكون، الطبيعة الكونية،
المادة، الروح، العقل، العقلانية، الدين، الإنسان، الله. مجمل تلك
التعريفات تنطلق من وجهة نظر فلسفية مثالية، ويبدو أنها تفتقر للدقة
العلمية نوعاً ما.
في تناوله للتاريخيات الإسلامية يشير الباحث إلى التناقض الذي يسم
التيارات الإسلامية المختلفة وإلى صعوبة الدخول في حوار معها فيقول: "إن
تناقض الإسلامويين على ذاتهم لا يتجلى فقط بالدور الهامشي والتابع الذي
يتموضع فيه النص القرآني في أدبياتهم مقارنة بالتاريخيات المشبعة بالأدلجة
والتخريف، إنما في تناقض هذه الأدبيات على ذاتها … حتى أنك ما عدت بقادر
على محاورتهم لأنهم فقدوا أي هيكلية تراكمية يمكن أن تبني على بنيتها
النظرية نصاً نقدياً لهوية ثقافية قائمة "(ص45).
في عدة مواضع من الكتاب يحاول أيمن صالح سليمان أن يقدم قراءة للنص
القرآني تختلف عما يمكن أن نطلق عليه (القراءة الرسمية المعتمدة) لدى
الإسلام السائد، بل حتى عن قراءات وتفسيرات الفرق الباطنية في الإسلام،
فيقوم بتأويل الحوادث الواردة في النص معتمداً المجاز ضمن البنية الأسطورية
والدلالات الرمزية البيانية، وبالتالي التأكيد على خرافية القراءة الحرفية
من جهة والتخريف المقابل الذي تنطوي عليه مطالبة (العقل العلمانوي) لذلك
النص القرآني القديم لإثبات واقعيته من خلال أدوات الفكر والتحليل المعرفية
المعاصرة، محاولاً شرح أفكاره وتأكيد قراءته للنص من خلال هذا الأسلوب.
وفي هذا السياق أيضاً يقارن بين نصوص التوراة والإنجيل والقرآن في تعاطيها
مع مفردة ما أو حدث ما ليؤكد صحة القراءة ذات البعد الأسطوري كطريقة للفهم
العميق لتلك النصوص التي يجمعها الأسلوب البياني الرمزي ووحدة البناء
المعرفي التراكمي.
يشغل موضوع اللغة حيّزاً واضحاً من اهتمام الكاتب، سواء من ناحية دعوته
المستمرّة إلى (ضرورة إصلاح اللغة المتداولة) أو من ناحية قراءة تاريخ
منطقتنا التي أنتجت الديانات الرئيسية وتحليله ضمن سياق التأثير المتبادل
بين اللغة المسمارية الأكادية واللغة الهيروغليفية التصويرية، وانعكاس ذلك
على إحداث تغييرات ثقافية وفكرية عميقة في واقع تلك المرحلة، ويعزو إلى
التفاعل الحضاري بينهما الدور الحاسم في الانتقال إلى ظهور مرحلة (الحدث
الموسوي). نقرأ في الصفحة 87 :"إن الحديث عن المسمارية الأكادية وجدليتها
التاريخية مع الهيروغليفية الفرعونية هو حديث غنيّ تتولد منه الكثير من
التساؤلات التي لا تلبث أن تتكامل أجوبتها لتكون رؤية تاريخية متميزة، تكشف
لنا عن الطبيعة الحقيقية للحدث الموسوي وعن حقيقته التاريخية ". ويستشهد
ببعض المراجع التي تناولت تاريخ مصر القديم ويقاربها مع النص القرآني.
نلاحظ في سياق آخر إدراج الكاتب لنصوص تعود لما يسمى (الجاهلية) في
حديثه عن وضع (الحدث المحمدي) في سياقه التاريخي والمعارف المتداولة في
الفترة التي سبقته وعاصرته، حيث نقرأ نصوصاً ملفتة لأمية بن الصلت وزيد بن
فضيل وقس بن ساعدة وغيرهم تزخر بالمعاني والقصص التي ضمّنها محمد في كتابه.
كما يتحدث الباحث في معرض تناوله للقرآن عن (نظرية الأمثال) والتي لم
تنل حقها من الدراسة حسب ما يعتقد، حيث أن من درسها لم يتجاوز التعامل مع
"الأمثال المعدودة الصريحة التي تأتي على نمط مثل كذا كمثل كذا…وبذلك لم
تفهم الكثير من النصوص التمثيلية بالمعنى المثيلي" ص62 .
(العقلانيات البدائية) و(العقل البدائي)عبارات تتكرر في مختلف فصول
الكتاب، ويؤكد الباحث أيمن سليمان على أهميتها وضرورة دراستها بشكل أكاديمي
ليس فقط لقيمتها المعرفية وهي كبيرة ـ كما يقول ـ وإنما لأن: "تلك
العقلانيات البدائية شكّلت في مرحلة من المراحل موروثاً فرض نفسه على بنية
النص التوراتي الذي بدوره كان موروثاً لا يمكن تجاوزه فرض نفسه على بنية
النص القرآني الذي ما زال يفرض نفسه اليوم على كبار المفكرين والمثقفين
سواء بالسلب أو الإيجاب" ص 12 كما يشير الكاتب في الإطار ذاته إلى
(الأسطورة) "كشكل من أشكال التعبير التي اتبعها العقل البدائي في صياغة
وتدوين معارفه" ويبين الكاتب في أكثر من مناسبة أن المقصود بالبدائي ليس
المتخلف أو الوحشي كما قد يتبادر لذهن القارئ للوهلة الأولى وإنما "تلك
العقلانيات المتميزة التي ظلت خالدة عبر العصور رغم بدائية العصر الذي
أنتجها" ص 13الهامش.
لا يخبرنا الكاتب عن(سرّ) تلك العقلانيات البدائية إلا في الصفحات
الأخيرة من الكتاب والذي يشرحه لنا من خلال (نظرية الحلم) ص113 والتي يقدّم
عن طريقها فرضيته عن تجربة العقل البدائي مع (ظاهرة الحلم) حيث يعتبرها
"عملية تواصل بين العقل البدائي والعقل الكلي أثناء النوم الذي يرحل فيه
العقل إلى عوالم مجهولة ويقوم بنشاط تحليل وربط عقلاني خارق فينتج حواراً
بينه وبين عقله الكلي بلغة الصورة والتمثيل البياني"ص114 مشبهاً العقل بهرم
قاعدته العقل البدائي وذروته العقل الكلي مروراً بعدة درجات.
الكتاب من منشورات دار الحوار ـ سوريا. يقع في 125 صفحة من القطع الوسط،
وينقسم إلى فصلين الأول "أيديولوجية السيطرة" والثاني "أيديولوجية الخلق".
يبقى أن نشير إلى أن هذا الكتاب هو الثاني للباحث السوري أيمن صالح
سليمان بعد كتابه الأول: نحو منهجية فكر جديدة، دراسة في تحولات المفردة
القرآنية. صادر عن دار أطلس في دمشق، الطبعة الثانية 2006. والذي كان قد
بدأ فيه مشروعه لإعادة قراءة النص القرآني بشكل مختلف، ونقد القراءات
السائدة والدعوة لإصلاح اللغة المتداولة كأساس للتطوير الثقافي.