لو أنّ شخصاً غير الأب باولو
دالوليو تصدى للدفاع عن هذه الأطروحة بهذا العنوان: "مسيحيّ يحبّ الإسلام"؛
لوجد نفسه في موقف "الديندي" المتحدّي المستفزّ، للهامشيّ والاستثنائيّ؛
أو موقف السذاجة التي تثير الشفقة.
لكنّ مرمّم دير مار موسى، ولوحاته الجدارية من القرن الحادي عشر،
متذوّق الجمال دون أن يعبده، الراهب المستعرب، والمؤسّس لجماعة رهبانية من
الرجال والنساء، المطّلع والمتمرّس بالتعامل مع الإشكاليات والمصاعب
السورية والشرق أوسطية…. باولو دالوليو، ليس ذلك الغافل؛ ووريث الأب دي
فوكو ولويس ماسنيون، ليس ممّن يلهث وراء لفت الانتباه عبر المزايدات
الجوفاء. إنّه يتحدّث فقط عمّا عايشه وخبره من الداخل، ولمسه لمس اليد.
فالإسلام بالنسبة لهذا الأوربيّ الذي تبنّى الطقس السرياني، ليس موضوع
دراسة جامعية، وليس افتتاناً رومانسياً. إنّه عناق/ علاقة حيّة، بكلّ ما
يكتنفه هذا الدين من حركية وصعوباتّ، منطلقاً من رفضه للمواقف المسبقة
والجاهزة التي تحشر الإسلام في واحد من النموذجين الحديّيِن الّذَين
يتشاطران تصوّرنا عنه: البستان الأندلسيّ القديم، كصورة مثالية، والذبَّاح
الأفغاني المعاصر، كصورة سوداء وسلبية.
وهو في ردوده على المحكمة العقائدية الفاتيكانية وملاحظاتها المتاخمة
للاحتجاج والاستنكار، ضاعف من مقدار رهانه، لا بل وزيّنه بريشة، معلناً
محبّته للإسلام، وكأنّه يريد من وراء ذلك أن يكسر حدّة رهاب الإسلام
"islamophobie " ويعكس اتجاهها نحو الـ "islamophilie"، ودفع تصوّرنا إلى
نصابه الصحيح.
نحن جميعاً نعلم أنّ الإسلام، الذي يمثّل الخلفية الحضارية لحركات
الإسلام السياسي(التي أبادت من المسلمين أضعاف ما أبادت من الكفار) بات
ينظر إليه، على نحو ضبابيّ منذ الثورة الإيرانية 1979، وبشكل جليّ وواضح
بعد 11أيلول 2001، ويقرُّ في لاوعينا الجماعي الغربيّ، على أنّه العدوّ رقم
واحد.
والإسلام بوصفه الحضارة المناهضة لنا اليوم، والتي نحبّ أن نكرهها،
تشكّل بهذا المعنى، الرابط الثمين الذي يجعل العالم الغربيّ متماسكاً… يكفي
أن نلقي نظرة إلى أغلفة المجلات، واجهات المكتبات الكبرى، جريدتنا
المفضلة، لنعلم أنّ هناك كماً هائلاً من الأحكام الإطلاقية التي لا يمكن
تجاوزها، التصقت بفكرتنا عن الإسلام: التزمّت، التعصّب، العنف، الإرهاب،
الانحطاط، معاداة السامية، الولاء الدينيّ الأعمى، الديكتاتورية،
الذكورية.. الخ.
لا أتصوّر أنني كنت سأكتب تقديماً لمثل هذا الكتاب لو أنّ مؤلّفه لم يكن
الأب باولو. فأنا لست محبّاً للإسلام ولا باغضا له، ولكنّني شأني شأن كلّ
ذي نزعة علمانية جمهورية أميل بشكل عفويّ - مهما ادّعيت من تجرّد ومناوءة
للأحكام المسبقة- إلى الاستماع لكلّ ما من شأنه أن يبرز مساوئ النظم
الدينية كالإسلام، مثل العنصرية أو التمييز الشرعيّ ضدّ المرأة والتحجّر
الزمني، الاستبدادية، العبادة غير النقدية للقرآن.. إلى آخر ما هنالك…
فباولو لا يمارس المديح الأعمى، المتطرّف، وحيد الجهة، للإسلام، ولا يحاول
أن يعرض مثل المؤرّخ الإرث الحضاريّ الإسلاميّ في الحضارة العالمية، ولا
يتمعّن كالسوسيولوجيّ في دراسة الرؤية الأوربية للعالم الإسلامي. بل إنّه
يحاول كروحاني كاثوليكي ملتزم، أن يفتتح الحوار عندما يتساءل: لماذا يدّعي
المسيحيون أنّه في عائلة إبراهيم الخليل يختصّ المسيحيون وحدهم بامتلاك
الإيمان، دون المسلمين الذين لا يحصلون سوى على الاعتقاد؟.
إنّ هذا النوع من المجهود في الحوار المتبادل بات نادراً. وقد التزم به
يوماً الكاهن اللبناني يواكيم مبارك، من منطلق ماروني، ويلتزم به منطلقاً
من روما، عاصمة الكثلكة في العالم.
إنّ الاعتداد المرَضيّ بالنفس، لا يمكنه أن يحلّ محلّ الفكر الحواريّ
المبنيّ على العقل. ولنتذكّر أنّه في قرون الحروب الدينية بين الكاثوليك
والبروتستانت، كانت جميع الأطراف تبحث عن فرصة للتحاور والنقاش حول هذه
النقطة اللاهوتية أو تلك.
أنا لست لاهوتياً بأيّ شكل من الأشكال، لكنني آخذ بعين الاعتبار أن
المواطن، وبالأحرى السياسي، سواء كان من شرق المتوسط أو من غربه، سيتأثّر
شاء أم أبى، بالمواقف والاختيارات اللاهوتية الخاصة بهؤلاء أو أولئك.
وهنا لا بدّ لي من شكر باولو، هذا المهاجر الذي غادر طوعاً شرنقة وطنه
الدافئة، كي لا يكون له وطن سوى الرجاء، فقد تجاوز البلاغية الرنانة،
المدعية والزائفة، لخطابات المؤتمرات، وذهب مباشرة إلى صلب الموضوع، لكي
يلعب، متقبلاً عن طيب خاطر، العقابيل غير المحمودة، لدوره الصعب كوسيط
حياديّ ونزيه، ودون أن يتنازل عن أيّ شيء من إيمانه الخاص.
إنّه لا يرهب الاتهامات التي تكال له، بالإطلاقية في النسبية، وممارسة
الاختلاط الديني، ويعتقد أن الانتماء المزدوج مثل انتمائه الواصل/الرابط
بين الغرب والشرق، بإمكانه على المدى البعيد أن يساعد على اجتياز بعض
الاستحالات والاستعصاءات والتناقضات العقائدية بين الإسلام والكنيسة. فروح
الله لم تزل تعمل بنظره، مشركة في عملها بعض التحديات المخصبة، التي تستطيع
أن تحفز الفكر وتعيد تنشيطه.
ولم تكذبه الوقائع، فالسلطة العقائدية الكاثوليكية الرومانية(من روما)،
اضطرت إلى الاستماع إليه دون أن تجبره على التراجع عن مواقفه.
ولنتذكّر أنّ هذا الذي نتحدث عنه هنا، راهب يسوعيّ، مرسل ومبشّر، يتصدّى
بشجاعة لمخاطر العمل الدعويّ، وينتمي إلى سلاح الخيالة الخفيفة للكنيسة،
طليعة الانثقاف(1) منذ قرون.
ليس محمّد المعلم كونغ، وليس الله الملك الأعلى، وباولو دالوليو ليس
ماتيو ريتشر، المبشّر الايطالي اليسوعي من القرن السادس عشر في الصين.
وروما أيضاً لم تعد خائفة، إنها فقط حكيمة وحذرة. وقد تغيّرت الأزمنة،
فقد اعترفت بدستور الجماعة الرهبانية التي أسّسها باولو في دير مار موسى.
في القرن السابع عشر ثار جدل كبير في الكنيسة حول الطقوس، من جراء
السياسة التبشيرية الانثقافية في الصين، جوهره اتهام اليسوعيين بإذابة
الإيمان المسيحي في الإيمان والعقائد الصينية.
داخل الحصن الصيني تعلم ماتيو اللغة، ولبس البونوزو، وناضل من أجل
تحجيم التناقضات الحتمية بين النظرة المسيحية والثقافة البوذية
والكونفوشية. فاتهمته السلطة البابوية بأنه صار ابن السماء لا تلميذاً
ليسوع المسيح.
طبعاً، لا أحد يتهم باولو اليوم بأنه تحوّل إلى إمام مسلم. وهذا المغامر
في الإيمان، الذي تبنّى موقفاً لاهوتياً ينحاز للفقراء، يعرف كيف يتجنّب
المبالغة في التأقلم اللاهوتي، فهو مخاطر حقاً، لكنه أيضاً بعيد كل البعد
عن الاستهتار. فهو كاهن يصلي القداس بالعربية دائماً. وهو أيضاً كتلميذ
لاغناطيوس دي لويولا، خلافاً لبعض أسلافه يجهل استخدام الغش التقويّ، ولا
يحاول كسب ودِّ الفاعل السياسي أو رضا صانع القرار عبر الإبهار العلمي على
نحو ما فعل ماتيو مع إمبراطور الصين. إنه ليس برجل سياسة ولا سلطة… إنّه
مستقيم، استقامة نبيّ، وموقفه لا يمكن أن يلتبس أو يلتاث بالالتواء أو
المخاتلة.
ولأن الأنبياء يميلون عادة لتحمّل الجراحات والعذابات، أكثر من الميل
لقبول العطايا والامتيازات الدينية والجاه، فهم يتسبّبون أحياناً في حدوث
الاضطرابات والفوضى. ليس لهم سطوة اللقب، ولا قوة العدد، وليس لهم من طاقة
أو قوة سوى ديناميتهم الخاصة وإيمانهم بالحركة التي تحدث تغييراً في الحدود
بين المواقف، وتنقل تلك الحدود من مكان إلى آخر.
اللعبة لم تنته بعد؛ فالإسلام في أوربا لم يعد اليوم ما كانه بالأمس،
والعالم المسيحي بمقدوره أن يتغير غداً من خلال وبفضل قبول فكرة التعايش.
والرهان على إمكانية التسامي الرمزي المتبادل بين نموذجين من المجتمع،
يقرُّ كل واحد منهما بنقصه ونسبيته.
من المشروع لأيّ كان في أن يشكك بإمكانية حصول هذا التقارب تاريخياً،
ولكن عندما يشكل هذا التقارب غاية حياة رجل إيمان، يطبق مثاله عند نقطة
تصالب هذين العالمين فإنك لا تستطيع إلا أن تفرح به، لا.. بل عليك أن تفرح
به.
الهوامش:
(1)الانثقاف: مفهوم كنسيّ يقصد به تجذّر الإيمان المسيحي في الثقافات
المختلفة التي يحضر فيها.
- ريجيس ديبريه Régis Debray : ولد بباريس، يوم 2 سبتمبر 1940، من أب
محامي باريسي كبير، وأم مقاومة قديمة. درس الفلسفة، وتوجه سنة 1965إلى كوبا
والتحق بالمناضل الأممي تشي غيفارا في بوليفيا، فوقع في الأسر وأُودع
السجن لمدة 4 سنوات. بعد إطلاق سراحه انتقل إلى الشيلي، حيث التقى الزعيم
الاشتراكي سالفادور أليندي والشاعر بابلو نيرودا. أثمر، لقاؤه مع أليندي،
كتابه: (Entretiens avec Allende sur la situation au chili). وحوارا
تلفزيونيا، بعنوان: (ce qui disait Allende). ثم، عاد إلى فرنسا سنة 1973.
بين سنوات 1981 و1985
كُلف بمهمة لدى رئيس الجمهورية، تهم العلاقات الدولية، وسكرتيرا عاما
لهيئة: (Pacifique sud). ثم، مُقدم التقارير في مجلس الدولة إلى غاية تقديم
استقالته سنة 1992. دافع عن أطروحته لنيل الدكتوراه بجامعة (باريس الأولى )
تحـت إشـراف المفكـر فرانسـوا داغوني عام 1993.
يهتم ريجيس دوبري بمسألة الديني والاعتقاد داخل الجماعة المجتمعية،
منطلقا من مسلمة بسيطة: ليس هناك من مجتمع لا يؤمن بالمتعالي. ولا يمكن
لجماعة ما، حسب دوبري أن تحدد نفسها إلا من خلال إحالة على المتعالي
(إقليمي، مذهبي أو أسطوري) يتمركز حوله اعتقاد الأفراد.
باولو دالوليو: ولد في روما
1954في أسرة دينية، كان والده سياسيّا كبيرا في الحزب المسيحي الديمقراطي،
انخرط باولو في بداية حياته في الحزب الاشتراكي الايطالي، ثم تحول إلى
الالتزام المسيحي/الاشتراكي. ثم كرس نفسه للخدمة الدينية كراهب. درس
الفلسفة في جامعة نابولي، زار الشرق الأوسط، ثم عاد إليها في أوائل
الثمانينات ليدرس اللغة العربية في لبنان وسورية، ثم تسجل كمستمع في كلية
الشريعة جامعة دمشق. تطوع أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان1982 كممرض في
جنوب لبنان. وفي صيف ذلك العام وصل زار أيضاً دير مار موسى المهجور، وقطن
فيه لعشرة أيام. حصل على الدكتوراه من كلية الدعوة في روما سنة 1989، عن
رسالة بعنوان "مفهوم الرجاء في الإسلام". عاد إلى سورية أوائل التسعينيات
ورمم دير مار موسى وأعاد إليه الحياة الرهبانية. وليجعله واحدا من مراكز
حوار الأديان، واحد أهم مواضع السياحة الدينية في سورية.
يصدر الكتاب باللغة العربية
قريباً.
"عاشق للإسلام… مؤمن بعيسى"تأليف: باولو دالوليوبالتعاون مع: آغلنتين غابي- ياليصادر عن دار: لاتيليه L’ ATELIER -باريس-2009