من أيام ثورة 25 يناير في مصر.. يوم الجمعة الدامي (1)
أحمد منصور -
ahmedmansour@aljazirza.net
خرجت مثل مئات الآلاف من المصريين
في ذلك اليوم (الجمعة، الثامن والعشرون من يناير عام 2011) لأشارك المصريين
في يوم الغضب ضد الظلم والفساد والاستبداد الذي يمارسه النظام الفاسد في
مصر بقيادة حسني مبارك منذ ثلاثين عاما، وذلك امتدادا لثورة الشباب التي
انطلقت في الخامس والعشرين من يناير، والتي لم أكن محظوظا للمشاركة في
بدايتها حيث كنت خارج مصر. ولأن الصحفيين شهود يؤدون شهادتهم للتاريخ، فقد
حرصت من اللحظة الأولى على أن أكون وسط الناس أنقل نبضهم وأسجل مطالبهم.
ذهبت صباحا إلى مكتب قناة «الجزيرة» في ميدان عبد المنعم رياض، المواجه
لميدان التحرير، حتى أشارك الزملاء تغطيتهم لهذا الحدث الهام. وقد تم ترتيب
الزملاء وتقسيمهم إلى مجموعات انطلقت إلى أماكن مختلفة في القاهرة لتصوير
التظاهرات التي كانت ستنطلق من المساجد بعد صلاة الجمعة لتتوجه جميعها في
النهاية إلى ميدان التحرير. وبعد مشاورات مع الزملاء، أجمعوا على ألا أذهب
بعيدا لأني سأكون هدفا لقوات الأمن، حسب تقديراتهم، والأفضل أن أصلي معهم
قريبا من المكتب. قررت أن أذهب لأداء الصلاة في مسجد عمر مكرم الذي يقع في
ميدان التحرير الذي حدده شباب الثورة ليكون مكانا لتجمع المظاهرات، لكني
فوجئت بأن الميدان مغلق من قبل قوات الأمن وأبلغوني بأن صلاة الجمعة ألغيت
في مسجد عمر مكرم، وأمروني -كما أمروا الجميع- بالعودة. ذهبت إلى أقرب مسجد
بجوار مكتب قناة «الجزيرة» قريبا من مبني التلفزيون، وأديت الصلاة في
الشارع مع جموع الناس، وكان معي بعض الزملاء الذين قرروا العودة إلى
المكتب، فأخبرتهم بأنني سأذهب إلى شارع رمسيس لمتابعة التظاهرات القريبة،
ولاسيما عند نقابة المحامين بعدما تم تفريغ نقابة الصحفيين من المتظاهرين
فيها بالقوة ـ يوم الخميس ـ وكي أجمع لهم بعض المعلومات عما يدور هناك،
فأنا صحفي ميداني ولا أحب الحصول على المعلومات في المكاتب. وأخبرتهم بأنني
إذا لم أعد خلال ساعتين، فعليهم أن يدركوا أنني قبض علي أو أصبحت مفقودا،
لم أجد أحدا في البداية كي يصاحبني، فقررت الذهاب وحدي رغم مخاطر ذلك، لكن
أحد الزملاء قرر في اللحظة الأخيرة أن يصاحبني.
ما إن دخلنا إلى شارع رمسيس من ناحية ميدان عبد المنعم رياض حتى وجدنا
حشودا هائلة من قوات الأمن محتشدة إلى جوار معهد الموسيقي العربية وجمعية
الشبان المسلمين، فيما كانت قوات أخرى تحيط بنقابة المحامين، التي كانت
فيها مجموعات من المحامين، محاصرة لا يستطيع معها أحد أن يدخل إليهم ولا هم
يستطيعون الخروج إلى الشارع، وسط الحشود الهائلة لقوات الأمن التي كانت
متحفزة.. كانت هناك سيارتان لقوات الأمن مدرعتان من قاذفات القنابل تقفان
في مواجهة نقابة المحامين، مستعدتين للتوجه إلى أي مظاهرة تتحرك في
المنطقة. كان هناك عدد كبير من سيارات الأمن المركزي تقف في شارع رمسيس
وشارع 26 يوليوز، بينما كان المئات من رجال الأمن بالزي المدني، الذي
يرتديه عامة الناس، يقفون في مجموعات حول ضباط المباحث وضباط أمن الدولة
الذين يرتدون الملابس المدنية، غير التشكيلات التي كانت ترتدي الزي
العسكري. وكانت كل مجموعة من هؤلاء الذين يرتدون الملابس المدنية تحمل
الهروات الخشبية بينما، آخرون لا يحملون شيئا. وعلمت بأن هؤلاء يندسون وسط
المتظاهرين ويختطفونهم بينما كان الكثيرون منهم ينتشرون في الطرقات يتنصتون
على الناس ويرصدون تحركاتهم. كان زميلي يعرف كثيرا من السيناريوهات التي
تتم في مثل هذه المواجهات، لذا طلب مني أن أتمالك نفسي وألا أنفعل لأي شيء
أراه أمامي، وأن أحرص على أن أكون هادئا، وفي النهاية فإني صحفي جئت لنقل
الحقيقة إلى الناس، ثم طلب مني أن أخرج بطاقتي الصحفية وأن أضعها في جيب
متاح لأنها ستطلب مني كثيرا في ظل هذا العدد الهائل من رجال الشرطة السرية
ورجال الأمن الذين من السهل عليهم التعرف علي ومحاولة إبعادي عن المكان،
كنت ألتزم بما يقوله لي لأني، في النهاية، أريد البقاء والاطلاع علي كل ما
يحدث لأعود إلى الزملاء بحصيلة كبيرة من المعلومات كشاهد عيان، نقدمها إلى
المشاهدين رغم عدم وجود كاميرا معي.
ما إن وصلنا إلى تقاطع الأسعاف حتى سمعنا صوت أول تظاهرة قادمة من شارع
رمسيس باتجاهنا، ويبدو أنها كانت قادمة من مسجد قريب، سرعان ما تحرك نحوها
رجال الشرطة السرية فأحاطوا بها، وكان كثيرون منهم مندسين داخلها، ومن آن
إلى آخر كانت كل مجموعة منهم تخرج بأحد الشباب تحيط به وتضربه ثم تأخذه إلى
سيارة أمن مركزي كبيرة تدخله إليها.. وقد رأيت معظم الشباب يقاومون رجال
الأمن بقوة، ويمشون بعد ذلك بعزة رافعي الرؤوس تجاه سيارات الأمن. وحينما
وصلنا أمام سيارة الأمن، كانوا يدخلون إليها أحد الشباب وصاح الضابط قائلا:
«هذا رقم 25»، لا أنكر أني كنت أفور من داخلي وهممت، أكثر من مرة، أن أهجم
عليهم حتى أخلص أحد الشباب من بين أيديهم، بينما كان زميلي يلح علي في أن
أتمالك نفسي حتى نكمل مهمتنا.
كان رجال الأمن يتعاملون بهستيريا مع الجميع ويضربون الصحفيين ويكسرون
كاميراتهم، حتى إني وجدتهم يضربون شخصا يحمل كاميرا بقسوة، تبين لي أنه
غربي، وحينما حملوه إلى الضابط أخرج جواز سفره فتركوه بعدما أوسعوه ضربا،
ثم جاء ناحيتي وهو يلهث ويلملم نفسه، قلت له: من أين أنت؟ قال من فرنسا؟
قلت له: هل أنت صحفي؟ تلعثم، لا أعرف أخوفا من أن أكون من الشرطة السرية أم
من الضرب المؤلم الذي تعرض له في كل أجزاء جسده، قلت له: لا تخف، أنا صحفي
مثلك وأخرجت له هويتي حتى يطمئن، لكن صراخ رجال الأمن فينا أن نتحرك بسرعة
من المكان جعله يلملم حاجاته ويختفي. كنت أدرك أن أوامر صارمة صدرت لرجال
الأمن بأن يقتلوا الحقيقة عبر مهاجمة الصحفيين والاعتداء عليهم وكسر
كاميراتهم من اللحظة
الأولى.
بعد اختطاف عدد كاف من الشباب، صدر الأمر للسيارتين اللتين تقذفان القنابل
بأن تتوجها إلى المسيرة، وبالفعل جاءت السيارتان ووقفتا بمحاذاتنا تماما
حيث كنا على أطراف التظاهرة من ناحية رجال الأمن. وسرعان ما بدأتا تمطران
المتظاهرين بوابل من القنابل المسيلة للدموع، بشكل هستيري حاقد وكأنهم
يقاتلون أعداء وليس إخوانا لهم في الوطن. وكانت هذه هي المرة الأولى في
حياتي التي أرى فيها، بشكل مباشر، مثل هذه المواجهات القاسية من قبل رجال
الأمن تجاه المتظاهرين، حيث كانت بالفعل حربا غير متكافئة. لقد غطيت عدة
حروب ورأيت كيف يتعامل السوفيات مع الأفغان والأمريكان مع العراقيين والصرب
مع مسلمي البوسنة والهرسك، لكنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها مصريين
يطلقون فيها القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي القاتل وبعد ذلك
الرصاص الحي على مصريين مثلهم، وهذا ما كان يجعل الدماء تغلي في عروقي وتلح
علي في أن أتجاوز الموقف كشاهد إلى مشارك مع المتظاهرين، لكن بطولة الشباب
وعنادهم ومواجهتهم البطولية لرجال الأمن كانت تشفي غليلي وتملأ نفسي
بالأمل واليقين بأن الدولة الأمنية في مصر تسقط أمامي الآن في هذا اليوم
المجيد طالما أن المصريين قرروا أن يحرروا بلادهم من مختطفيها الذين
يحكمونهم، يحرروها بدمائهم التي بدأت تسيل أمامي في يوم الجمعة الدامي.