تصور أن أحداث الاستفاقة الدائرة منذ 25 يناير تستدعى خطاباً سياسياً
وإعلامياً أكثر جراءة نُضجاً وقدرة على قراءة الصورة كما هى، ومواجهة الذات
بما وصلنا إليه وما دفع بنا إلى ميدان التحرير، منذ نحو عام تقريبا تجرأت
وغيرى كثيرون بمخاطبة الأطياف السياسية فى عدة اتجاهات برسائل تحذير من
منظومة "تفكيك مصر"، وتصور البعض أن ما كتبته هو ضرب من الجنون أو نوع ردىء
من المكيفات المتداولة بين شرائح عدة من المجتمع المصرى لأغراض التخدير
وملازمة الغيبوبة السياسية بمراحلها ومستوياتها الأعمق.
كنت أتصور أن مسئولية الكاتب أن يقرأ من أطياف المستقبل لا أن يتوقف
متجمداً أمام اللحظة بكل ما تحمله من قسمات الإحباط، وألا تستهلكه صراعات
الكراسى الموسيقية الدائرة فى جنبات المجتمع الصحفى حول أغطية زجاجات
المثلجات على طريقة جنرالات المقاهى، وتركت القلم جانباً معتبراً أن إقصائى
من الكتابة الصحفية ليس سوى استراحة مقاتل لن يطول بها المقام كثيراً، وهو
ما تحقق بالفعل فى اللحظات الأولى لثورة 25 يناير، فهدير الشارع المصرى فى
تلك الليلة كان يدفع بنا من جديد فى اتجاه الأوراق والأقلام بحثاً عن ما
تبقى من الدولة المصرية لترميمه، لكننا عفواً لم نجد شيئاً فقد تم التفكيك
الذى حذرنا منه لعام كامل على أتم وجه.. والدولة المصرية هنا لا أعنى بها
الدستور أو الصراع الرئاسى أو الحزب الحاكم، فهؤلاء جميعاً قادرون على
التحدث عن أنفسهم وتبرير مواقفهم ومضى أوان التحدث إليهم أو عنهم.. الدولة
المصرية التى أبحث عنها انسحبت منذ زمن بعيد من كافة المنعطفات والمحاور
المعيشية اللصيقة بنا كأفراد مقيمين فوق تراب الوطن أو مهاجرين لأوطان أخرى
فجمعنا لم يكن الشغل الشاغل لحكومات مرت وعبرت من جدران التاريخ إلى
مزابله الرحبة، انسحبت الدولة من الرعاية الصحية والإسكان والتعليم
والزراعة التصنيع والتشغيل والاستثمار وأخيرا من الأمن.. لحظات الانفصال عن
مقتضيات الحياة الكريمة للأفراد هى ذاتها لحظات الانهيار الحقيقية لمنظومة
الحكم الديجيتال كما شاهدناها، أوامر الاعتقال والتصفية والمطاردة كانت فى
حد ذاتها اعتقال للدولة المصرية وتصعيد لمنظومة العزلة قبل أن تتلاشى
بالكامل.. حصاد السنين يكشف بفظاعة عن أعمال نهب وسلب منظم لكل ثروات الوطن
على أيدى حفنة من داخل منظومة الحكم، وتحول كل ناصح أمين إلى خائن..
مُشكك.. مأجور.. مندس.. والأخطر آتٍ لا محالة سواء قبلنا استمرار مبارك حتى
سبتمبر أم رحل قبل ذلك، فمحاولات الصعود لقوى التيار الإسلامى تنذر بزوال
الدولة المصرية من التاريخ، وهى أيضا مقولة ليست ختامية إذا ما التفتنا إلى
المشهد الأقرب لنا جغرافياً بالمنطقة يأخذ مسارين، الأول هو نموذج الحكم
التركى حيث الجيش يقف خلف الستار يراقب الدستور والأداء العلمانى للحكومة
الإسلامية، والنموذج الثانى هو الصعود السياسى لحركة حماس فى غزة ثم رفض ما
أسفر عنه صندوق الاقتراع من نتائج ديمقراطية وتدشين حصار دولى للتوجه
الإسلامى فى فلسطين المحتلة، والمستهدف فى الحالة المصرية سيكون حصار الدور
السياسى الإقليمى الموازن فى ملفات سياسية عدة، قد يكون أبرزها الملف
الفلسطينى، لكنه ليس الوحيد، فهناك ما يجرى فى جنوب السودان ومنابع النيل
وهى أيضاً مناطق تراجع للسياسة الخارجية المصرية على مدى السنوات الماضية،
علينا أن ندرك أن سقف مطالبنا فى الصراع السياسى الدائر الآن هو ما سيحدد
إن كان قد قُدر للدولة المصرية كما عرفناها أن تبقى وتستمر أو تتحول إلى
شظايا عابرة للتاريخ.