مفارقة حتى المأساة الكافرة، دور الجيوش في
أنظمة العالم الثالث. والتجربة المصرية آخر نموذج عن مهزلة النفاق الضروري
والوصولية المقبولة طوعاً، بحكم نظريات الواقعية ومقتضيات المراحل
البراغماتية.
أمس سقط حسني مبارك، فرافقه المصريون بكل ما يليق بطاغية، عربد ثلاثين
عاماً فوق عذابات الناس. وأمس تسلم العسكر المصري السلطة، فنظم له كثيرون
تقاريظ المدائح وأهازيج التطلعات إلى المنقذ والمخلص.
غير أن التدقيق في العلاقة بين نظام حسني مبارك والجيش، يظهر أن الأخير ليس
غير جيش النظام. هو نفسه جيش الناس المقهورين، الذين يحولهم جشع السلطة
إلى «انكشارية» وظيفتهم قمع أهلهم واستباحة الحرية. تلك البزات والنجوم
التي لم تعرف حرباً خارجية قط، ولم تبذل دماً ولا عرقاً عند حدود ولا في
وجه عدو أو محتل، تصير حرفتها «تكنيس» الطرقات للقائد الزعيم، و«تكنيس»
المعارضين للنظام العقيم. حتى إذا تبدل الأمر وتغيرت الأوضاع، نقلت
البندقية وقُلبت الصورة وتحوّل الولاء، من لواء إلى لواء.
فما لم يقله الثوار في القاهرة أمس أن رؤساء مصر الثلاثة منذ ثورة 1952،
كانوا من ضباط الجيش، وأن «ترويكا» المواجهة والصدام مع ثورة 25 يناير كانت
أيضاً من نتاج ضباط الجيش. فإضافة إلى مبارك، عمر سليمان ضابط، ورئيس
الحكومة الساقطة أحمد شفيق ضابط أيضاً. وما كان يجري التعتيم عليه بعض
الشيء أيضاً، أن نصف الوزراء تقريباً في حكومة مبارك، كانوا من ضباط الجيش.
ومنهم طبعاً وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي، الذي كان أمس يحتفل مع
الثوار، وكان أول من أمس يؤدي التحية للطاغية.
وما لم يفد الثورة ربما، التذكير بأنه حتى اللحظة كانت نسبة 80 في المئة من
المحافظين المصريين في أرجاء البلد المنكوب، من صفوف القوى المسلحة أيضاً.
كل ذلك في دولة يحكمها قانون الطوارئ العسكري والمحاكم العسكرية.
أكثر من ذلك، طوال عقدين من الزمن في ظل توتاليتارية مبارك، تطورت مهمات
الجيش، وتوسعت علائقه وروابطه بكل أنشطة المجتمع، في نتيجة لرسوخ «مساكنته»
النظام. فالجيش المصري الذي يُهلل له اليوم، كان حتى الأمس الجهة التي
«تصادر» مساحات شاسعة من الأراضي المستثمرة لمصلحة أشخاصه، فضلاً عن مئات
الشركات والمؤسسات التجارية. وهو الجيش نفسه، الذي كتبت عنه صحيفة
الـ«غارديان» البريطانية قبل يومين فقط من القاهرة، أنه «متورط في اعتقال
المئات وربما الآلاف من المتظاهرين المناوئين لنظام حسني مبارك وتعذيبهم».
وينقل التحقيق الصحافي نفسه روايات مروّعة عن عمليات التعذيب والتنكيل التي
تعرّض لها المعارضون على أيدي عناصر الجيش في معتقلاته.
أما على المستوى السياسي، فالجيش الذي يستعد بعض رؤوسه لقطف ثمار الثورة
ودعم الثوار، هو نفسه الجيش الذي يستجلب أكثر من مليار دولار من واشنطن
سنوياً، والذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً جداً بالبنى العسكرية الأميركية،
تدريباً وتنظيماً وتسليحاً وسلوكاً ونفوذاً. حتى إن رئيس أركانه كان قبل
ساعات قليلة من اندلاع ثورة 25 يناير، في طريقه إلى العاصمة الأميركية، في
زيارة من تلك العديدة والعادية.
تقول مجلة «تايم» الأميركية في تحقيق استشرافي عن الأوضاع في مصر قبل أيام
من سقوط مبارك، إن الهم الأول والأولوية المطلقة للضباط المصريين الآن،
سيكونان في محاولة الإجابة عن السؤال: كيف يمكن أن نحفظ الديكتاتورية
العسكرية؟
وإنه بعد كل السنين «لا تزال تلك المؤسسة تختبئ خلف جدار من الغموض والسرية».
هل تكرر القاهرة تلك المأساة الثابتة في أنظمة العالم الثالث
وعسكريتارياته؟ وهل ينكفئ الثوار لمصلحة الضباط؟ حتى اللحظة لا تبدو موازين
القوى لمصلحة العسكر. فالزخم الذي أطلقه المتظاهرون يجتاح كل البنى
المهترئة للنظام البائد. ومع الاعتراف بمحاولة مبارك استدامة الديكتاتورية
العسكرية عبر نقل صلاحياته إلى الجيش من جهة، ومع الاعتراف بضرورة العبور
في نفق المرحلة الانتقالية كأمر واقع من جهة أخرى، يظل الحذر واجباً،
والاستنفار الديموقراطي ضرورة. فحين يحفر وائل غنيم بأصابعه العارية على
أزرار حاسوبه، حتى يسقط أبو هول النظام، لا يعود ثمة مكان لأطماع الرؤوس
الموهومة فوق النجوم. ثورة مصر التي قلبت مقاييس كثيرة، تستحق أن تكون
نموذجاً أول لحركة بيضاء، لا تسقط في اللون الأخضر، هرباً من قمع أحمر. ففي
أنظمة كنظام مبارك، مقولة أن الجيش هو الحل كذبة كبيرة جداً.