الجزائر.. تنتفض؟ لا تنتفض؟!
تظاهرة للجالية الجزائرية في فرنسا تأييدا لانتفاضة تونس.. (أ.ب) |
محمد دحنون
20/01/2011
التظاهرة
هناك، ليست بعيدة تماماً، لك أن تتفرّس في وجوه المحتجين حتى وإن كانت
ملثّمة، أما الأطفال اللذين لا تتجاوز أعمارهم الثالثة عشرة، واللذين
يرشقون قوات حفظ النظام بالحجارة فلا حاجة بهم للثام، هم يلعبون، ويفترضون
أن طفولتهم ستحميهم.
جلّ المحتجين إن لم يكن كلّهم هم ممن لا تزيد أعمارهم عن الخامسة
والعشرين، قد يبدوا الرقم طبيعيّاً في بلد يشكّل الشباب فيه نسبة تزيد عن
الخمسين في المئة من سكانه، لكن هذا لا يكفي لتفسير «شبوبيّة» الاحتجاجات.
عليك أن تبحث عن أسباب أخرى، وأن تتحمل الصدمة التي تحملها بعض تلك
الأسباب، إذ لا تتردد نسبة معتبرة من الشارع الجزائري بوصف معظم المحتجين
بأنّهم «خيّانة» (لصوص) و«بظوظ» (أولاد) وحتى «فوايو» (أوغاد). لا ينطق
هؤلاء بلسان الحكومة، ولا هم في وارد الدفاع عنها إطلاقاً، لكنهم يفتحون
زاوية أخرى للراغب في قراءة الاحتجاج، الذي سيضطر إلى اعتبار التعمّق في
الكشف عن هوية المحتجين وطبيعة احتجاجهم أكثر أهمية من البحث في الأسباب
المعروفة للأزمة التي باتت تعرف «بأحداث السكر والزيت»، أو على الأقل
ليختار طريقاً آخر لمعرفة الحدود التي بلغتها.
المشهد من بعيد، غير مطمئن، لننس قليلاً قرارات الحكومة برفع أسعار السلع
الأساسيّة التي عادت وتراجعت عنها فيما بعد، ولننس عناوين الصحف والتغطيّة
الفضائيّة للحدث، ولندقق أكثر فأكثر في صورة التظاهرة؛ عاريّة من دون
"أفكار مسبّقة": لن تشاهد، في المجمل، لافتة واحدة يحملها أحد المتظاهرين
وتعبّر عن همّ معيشي أو مطلب اجتماعي، لن تسمع شعاراً يطلقه "هتيف" ما
لتردده الحناجر من بعده، لن تشارك منظمات نقابية أو هيئات المجتمع المدني،
كما لن تشارك أي من الأحزاب المعارضة بصورة رسميّة في التظاهرات باستثناء
المحاولة الفاشلة لعلي بلحاج نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ
(المحظورة أساساً) الذي لم يجد من يستمع له في حي باب الواد الشعبي في
الجزائر العاصمة. هناك ارتجال للعنف فقط، أشخاص راغبون في رمي الشرطة
بالحجارة، وتكسير واجهات المحلات واقتحام بعض المراكز الحكوميّة مثل
البريد (حيث يقبض موظفو القطاع الحكومي رواتبهم) وتحطيم واجهات معارض
السيارات والبنوك الخاصّة، من هم هؤلاء؟ إنهم خلاصة الأزمة التاريخية التي
يعيشها المجتمع الجزائري. هم، في المحصّلة النهائية، الأشخاص الذين لم يبق
لديهم ما يخسرونه، لذا فإنّهم لن يأبهوا لرصاص ولا لاعتقال من قبل قوى
الأمن، ومن هذه الفئة تحديداً، تصدّر الجزائر شهريّاً عشرات «الحرّاقة»
(المهاجرون غير الشرعيون) إلى الشمال، حيث يلقون حتفهم أو تقبض عليهم
شرطتهم الوطنية أو الشرطة الإسبانيّة فتعيدهم.
هل هذه هويّة المحتجين، كل المحتجين؟ ليس تماماً. هناك بالطبع أشخاص على
دراية تامّة بأسباب انتفاضتهم، وهم وإن كانوا يستمدون حماسة ودعماً
معنوياً، وشيئاً من إيحاء قدّمته الحالة التونسيّة، إلاّ أنّ لديهم
دوافعهم الوطنية الخاصّة التي تحرّكهم.
شعب فقير في دولة غنيّة، هي النتيجة المختزلة التي تدور على ألسنتهم،
يطلعونك على أرقام غدت "مشهورة" اليوم: 155 مليار دولار احتياطي الجزائر
من العملة الصعبة، الدولة المغاربية الوحيدة التي لا يزيد فيها الدّين
العام عن مليار دولار، احتياطي كبير من الثروات الطبيعية والغاز في
مقدّمتها، الدولة الأكبر في إفريقيا بعد تقسيم السودان، وفي المقابل، نسبة
بطالة عالية تتجاوز الثلاثين في المئة بحسب جهات مستقلة، تجويع وتهميش
وإفقار (متوسط الراتب الشهري للموظف الجزائري 30000 دينار ويعادل 250
أورو)، أزمة سكن مزمنة كان الرئيس بوتفليقة قد وعد بحلها في عهدته
الرئاسية الأولى 1999، هذا عدا قانون الطوارئ الذي يحكم البلاد منذ عشرين
عاماً، ثمّ بعد كل هذا زيادة كبيرة في أسعار بعض السلع الأساسية السكر
وزيت الطهي والطحين والسميد.
لهذا ينزل هؤلاء إلى الشوارع، لأن التفسير الوحيد للمفارقة الجزائريّة،
وفق رأيهم، هو الفساد الكبير جداً في نخبة الحكم، ليس النخبة الظاهرة
فحسب، بل تلك التي تشغل أمكنتها خلف الكواليس، والتي تسيطر بالفساد
والاحتكار على ثروة وطنية كبيرة جداً، تسمح للمواطن الجزائري، فيما لو كان
هناك توزيع عادل لتلك الثروة، أن يشارك أخوته من الجناح المشرقي الخليجي
سوية حياة ورفاهية معادلة.
أزمة على أزمة، هذا هو الانطباع الذي تخلفه احتجاجات أحداث الزيت والسكر؛
تجويع سلطوي للشعب لن يجد في مواجهته سوى قوقعة مجتمعية فارغة وأحزاب
سياسية مدجنة، قوقعة لا يملؤها سوى الصدى الذي يخلفه صراخ آلاف الشبان
"الضحايا" واليائسين.
لكن هل يجد الجزائريون في تجربة جيرانهم «التوانسة» نموذجاً قابلاً
للاقتداء، خاصّة بعد النتائج الطيبة التي حصدتها التجربة التونسية
والمتمثلّة أوّلاً وقبل كل شيء بإسقاط طاغية؟ لا طغاة في الجزائر على
الطريقة التونسية، لكن محاولات الانتحار التي استلهمت الطريقة
«البوعزيزية» والتي تتالت في عدد من الولايات الجزائرية وبلغ عددها خمس
حتى اليوم، تبشّر بأن الشعب الذي قدّم مليون ونصف مليون شهيد في النضال من
أجل الاستقلال، لن يتردد في تقديم التضحيات لإسقاط طاغيتين لا يقلان شراً
عن شر الاستعمار: التجويع والفساد.