أنـبـيـاء الـحـداثــة
هناك
ظاهرة خبيثة تلبس بها بعض ادباء الحداثة تكمن في امتهان كل ما هو مقدس و
تناوله بغرض العبث و السخرية و التدنيس ومن ذلك استخدامهم لفض النبوة و
الرسالة واطلاق هذه الاوصاف على ادبائهم و شعرائهم وطواغيتهم، مقتفين بذلك
ما ذهبت اليه المدرسة الرمزية الغربية التي رفع أصحابها منزلة الشاعر إلى
درجة النبي ، و خاصة رامبو الذي لفظ الشاعر النبي.
يقول
مؤلف في النقد الحديث في سياق حديثه عن المذهب الرمزي:( وقد ارتفع الشاعر
عند الرمزيين الى منزلة فوق المنزلة التي رفعها إليه الرومانسيون ، و أطلق
رامبوا على الشاعر اسم الشاعر النبي… الذي يتمتع بقدرة على أن يرى ما وراء
عالم الواقع ، و ينفذ إلى الجوهر الكامن في عالم المثل.
و
الشعر الهام عند بعض الرمزيين يأتي إليهم من غير تدخل منهم فهم مجرد
متلقين يسجلون ما يلقى فيهم ، و قال أحدهم: ثمة اله فينا، و نحن متصلون
بالسماء: من الأماكن العلوية السماوية يأتي إلهامنا) (1)
و
قد ذكر أحد الفلاسفة السريالية أصلا آخر لهذا الانحراف فقال: ( و أعمق ما
في الرومانطيقية مما أثر في السريالية هو قولها: ان الشاعر نبي ، يقرأ نص
العالم ، و يدرك قوانين الكون الخفية بطريقة حدسية).
و
يصف احد نقاد الحداثة مقصد هذا الإطلاق ، في سياق حديثه عن بقايا صورة
الماضي في المتخيل الثقافي العربي ، و عند صورة النبي ، لأنه يرى أن (
النبوة تجمع سلطتي اللغة و السياسة، و الشاعر و هو يتملك اللغة يسعى من
خلالها إلى امتلاك السلطة في هذا الجمع النبوي… الشاعر يتخد من أولويته
معبرا إلى شكل نبوي ، إنه ليس فقط الناطق باسم القبيلة ، كما كان الشاعر
الجاهلي، بل هو معلم الأمة و صورتها النبوية، إنه يستعيد الأصل كله و يعيد
كتابته و يؤسس لأول آخر، هذه الصورة سوف تستعاد في الشعر و الأدب الحديثين
على أكثر من شكل، من جبران في كتابه النبي إلى مردار ميخائيل نعيمة، إلى
استعادة أدونيس لاسم اله كنعاني يقوده في مجاهل الحداثة الى آخره…هذا
الأول الشعري سوف يتفرع الى ما لا نهاية في عبثية أنسي الحاج و لغته
الدينية، أو في جموح درويش الى أحضان غنائية الواقع الفلسطيني و مأساويته،
او في هذا البحث المضني عن شكل جديد للقصيدة الذي بدأ مع السياب، ثم انساب
مع سعدي يوسف في لغة شفافة يرتجف الواقع في ثناياه كأنه يتلألاء بالماء.
النبي يستعاد، و البحث عن الأول يكتمل في القصيدة الحديثة المتعددة
الأغراض) (2).
و
مع اعتبار ان النبوة من بقايا الماضي الذي يعني في أدبيات الحداثة التخلف
و الرجعية، يجعل من ذلك نعتا لأدباء الحداثة، إما من باب تعظيمهم و
تفخيمهم أو من باب الاستهانة بالنبوة و الأنبياء.
و من ملامح هذه
الاطلاقات كلام ادونيس عن سلفه من شعراء المهجر و عن سمات المناخ الثقافي
في أمريكا الذي جعل منها على الصعيد الاجتماعي(…منحى التغيير، أي الخلاص
من الأفكار و القيم و التقاليد القديمة، و من هنا سيطر الطابع النبوي أو
الرسولي في نتاجهم ، لكن بدرجات متفاوتة، و من طبيعة النبؤة أنها تعنى
بالمستقبل) (3).
تم
يستخرج من بين هذه الفئة النصرانية جبران خليل جبران ، فيصفه بقوله: (…
اللهجة التي يتكلم بها جبران في معظم كتاباته هي لهجة النبي، يمكن إذن، أن
نرى في نتاج جبران من الناحية التراثية، استمرارا لتقليد عريق سامي عربي،
فالموقف الأول الديني، خاصيتان متلازمتان: الأولى هي أن نبؤته مفهوم جديد
أو رؤيا جديدة للإنسان و الكون، و الثانية هي أنها تنبئ بالمستقبل، و
تتحقق، و يشير المعنى الذي اتخذته كلمة نبي في العربية، الى أن النبي
يتلقى الوحي، أي انه ليس فعالا بل منفعل يعطي رسالة فيبلغها، و لذلك يسمى
رسولا ، أنه مستودع لكلام الله ، و ليس فيما يقوله شيئ منه أو من فكره
الخاص ، بل كل ما يقوله موحى من الله.
…غير
أن الصلة بين النبوة و الجبرانية هي الآن مايهمنا، الجبرانية هي جوهريا،
نبوة إنسانية، و جبران، بهذا المعنى، يطرح نفسه كنبي للحياة الإنسانية
بوجهيها الطبيعي و الغيبي، لكن دون تبليغ رسالة إلهية معينة، و الفرق بين
النبوة الإلهية و النبوة الجبرانية هي أن النبي في الأول ينفذ إرادة الله
المسبقة،الموحاة، و يعلم الناس ما أوحى له، و يقنعهم به، أما جبران
فيحاول، على العكس ، ان يقرض رؤياه الخاصة على الأحداث و الأشياء، أي وحيه
الخاص. و حين نفرغ النبوة من دلالتها الإلهية، نجد أنها الطريقة و الغاية
لنتاج جبران كله، فجبران يقدم مفهوما جديدا ضمن تراث الكتابة الأدبية
العربية، للإنسان و الحياة، و هو يوحي بما سيكون عليه المستقبل، و هو ليس
منفعلا بل فعال، و هو يرى الخفي المحجوب و يلبي نداءه ، و يسمع أسرار
الغيب و يعلنها) (4)
لعل
هذا النص من أوضح و اشمل النصوص الحداثية التي توضح عناصر هذا الانحراف في
تشبيه و تسمية الشعراء و الأدباء بأوصاف النبوة وأسماء الأنبياء.
فهوا-
أولا – يجعل النبوة مجرد تقليد ديني شرقي، و أنها تعبير عن رؤية جديدة
للإنسان و الكون ، ثم هو –ثانيا- يجعلها مجرد تلق و انفعال، و رؤية و سماع
للمجهول ، و هو في هذا التوصيف الذي يريد ان يظهر فيه موضوعية مزعومة، و
قطعية مكذوبة ، لا يخرج عن دائرة انحرافه في هذا الباب بدءا من جحده و
تكذيبه للنبوة و الأنبياء ، فهو يجعل النبوة تقليدا دينيا ينفي عنها أصل
الاصطفاء و العصمة ، و يجعلها رؤية جديدة للإنسان و الكون يتجاوز الحقيقة
في ان الرسل و الرسالات جاءت بعقيدة واحدة، هي التوحيد المضاد للشرك، و لم
يختلف في ذلك نبي عن آخر.
اما جعله
النبوة مجرد تلق و انفعال فهي ألفاظ تفهم في ضوء ما شرحه و بينه في كتابه
هذا عن قضية الإبداع و الحداثة القائمة على تجاوز التقليد و التلقي، التي
جعلها من أسس التخلف و الرجعية و الثبات و التأخر.
ثم يفهم هذا المعنى في سياق وصفه لجبران