المؤولات السننية وبناء الدلالة الشعرية
قراءة في قصيدة "حزمة ضوء لأجل الجميلة" خلات أحمد
عبد اللطيف محفوظ
(المغرب)
1 - الخلفية النظرية:
ستحاول
هذه القراءة التي تتغيا كشف إحدى أشكال تلقي تجربة الحب عند الأنثى،
الانطلاق من مرجعية نظرية سيميائية تبدو أكثر ملاءمة لموضوعي المداخلة :
التلقي وتجربة الحب الأولى. ويتعلق الأمر تحديدا بنظرية المؤولات البورسية
التي أثبتت، من خلال الدراسات القليلة التي استندت إليها في تحليل الشعر
وغيره، عن قدرة هائلة على كشف آليات إنتاج دلالة مختلف أدلة القصيدة،
وسيتم الاقتصار في هذه المداخلة على نظرية المؤولات الستة التي هي تسميات
للقوانين المجردة لإدراك الأدلة في أبعادها المختلفة وفي خامات وجودها
المقولاتي الثلاث: الممكن والموجود والضروري.
وإذا كان المحلل يستند
إلى المؤولات المنطقية والدينامية المرتبطتين بالوجود والضرورة بغية تشكيل
سياق دينامي متناسق للنص الإبداعي، وكان الشاعر خاصة يبدع بالاستناد إلى
مختلف المؤولات بما فيها الانفعالية من أجل تشكيل استعارات وصور بلاغية
أخرى متضافرة لتوليد دلالة سياقية انفعالية في الغالب، فإن الاختلاف
الأنطلوجي والإيبيستيمولوجي بين شكلي الإدراك والتلقي، يتمظهر جيدا في
الاتجاه المعكوس لخطابي الشاعر والمحلل. فالشاعر وهو يبدع، وفق طاقاته
الإدراكية من أجل بناء موضوعاته ينطلق من الرموز الضرورية، ليجعلها تنحل
إلى أيقونات ممكنة، أما المحلل فينطلق من تمثل مركب لسيرورة الإبداع،
ساعيا إلى ضبط المؤولات الإدراكية . ثم بعد ذلك يقوم بعملية عكسية ينمي
فيها الأيقونات الممكنة إلى مؤشرات - وذلك انطلاقا من الرموز طبعا-. ومن
البديهي أن سيرورة التمثل هذه، باعتبارها تلقيا لأدلة النص المحلل، لا
تتضح ببساطة في خطاب المحلل لأنها تتراكب وتنصهر مع سيرورة التمثيل. ومن
البديهي أيضا أن سيرورة إنتاج المبدع، وهي تنعكس في خطاب المحلل ليست
بالضرورة صادقة أو نهائية، بل هي مجرد قراءة ممكنة من بين قراءات أخرى
لنفس النص.
بناء على ما سبق، وانطلاقا من نهاية تشغيل المؤولات
الدينامية والمنطقية في الذهن وتحصيل خلاصاتها مع إضمارها، نستطيع القول
إن القصيدة هي موضوع دينامي لتجربة حب عاطفية وجسدية لأنثى بكر عاطفيا
وبيولوجيا أيضا. وهي تجربة تحضر في مستوى الزمن الإيحائي في شكل برزخ بين
مرحلتين: مرحلة ما قبل التجربة ومرحلة الخوض فيها. وتوضح المؤشرات الزمنية
وهي تتضامن في ذلك السياق، أن مدة الزمن المظهر في القصيدة لا يجاوز ساعات
من الليل. ليؤشر كل ذلك على سرعة القرار على الرغم من رسم أطوار تحولات
التفكير فيه، والسرعة هنا استعارة واضحة لزمن النزوات العابرة، التي وإن
تعرف صراعا بين الهو والأنا الأعلى، فإن الأنا في النهاية يميل إلى الهو.
ولكي يصنع، هذا الأخير، معادلا مَوْضِعِيًّا لقراره، يعمل على ستر الفعل
وإخفائه، بيد أن هذه المحاولة لا تمضي دون تركها لأمارات الوعي الشقي
تتمظهر جليا حيث الشعور الدائم بالخجل والاعتراف بالخسارة واضطراب الهواء
والذهول والخوف من رحيل الشريك..
ولعل استناد الشاعرة على الاستعارة
الليلية وإصرارها على الفضاء الليلي ورموزه (وهج خفيف وحزمة ضوء والقمر
والندى..) وعلى مخاتلة ومداراة الصباح (يتوقف فيه الزمن كامنا للصباح)
وعلى وصف الإحساس المصاحب للحظات القرار الحاسمة، قد أعطى انسجاما فريدا
لمقاطع القصيدة وفي نفس الوقت جعل الموضوع الدينامي مؤثثا بموضوعات
دينامية جزئية مُحَدِّدَةٍ ومميزة له، تمثلت في المؤشرات السياقية
التالية:
أ - التشتت والانتشار.
ب - الخوف والتوجس.
ت - عدم الإحساس بالكمال.
ث - حالة روحية بين المتعة والألم.
إن هذه الموضوعات الدينامية الجزئية التي ستكون مدار تحليلنا لمقاطع
القصيدة الخمسة، فيما تمنح النص الانسجام اللازم تمنحه أيضا بعده الواقعي.
حيث تبدو القصيدة، عبارة عن تجسيد لشرخ تعيشه الذات التي وهي تحاول مكابرة
الانتصار لرغباتها بتحقيق "معجزة صغيرة" تعي أن الانتصار هو خسارة رغم
تأكيدها المستمر على رزانتها (لا يشغلني القمر أكثر مما ينبغي / ولا
أستعجل تدفقي المدلل/ ألقن الورد بتمهل/ كيف تتسع بتلاته لمعجزة صغيرة)
من
الواضح أيضا أن الشاعرة من أجل التعبير عن هذه الحقيقة، قد اعتمدت أساسا
مؤولين ذهنيين أطرا إنتاج الصور والاستعارات وهما المؤول الدينامي الأول،
والمؤول النهائي الأول. ويعني ذلك أنها قد استندت على مؤولين انفعاليين
وحسب. ويتميز الدينامي الأول بكونه مؤولا إدراكيا يترجم انفعال المُدْرِكِ
ودهشته تجاه الدليل المدرك، والتقاطه لسماته دون القدرة على تحليلها وفق
تجربة اختبارية سابقة، وقد مكن هذا المؤول الشاعرة من جعل الذات المتكلمة
في القصيدة تبدو غير خبيرة بالموضوع الكلي للحب، وبما يترتب عليه، إنها
تدركه بوصفه إحساسا أوليا، بناء على الحدس وعلى المعرفة العامة المجردة،
التي لا تسمح للمدرك أن يكون في تماس مباشر مع الدليل المدرك، بل مع
تصوراته الغائمة عنه، ولذلك بدا غائما في ذهنها (انعكاس غامض). أما المؤول
النسقي الثاني فهو عبارة عن عادة عامة لتأويل الأدلة وفق منطق الجماعة
الاجتماعية. وهو هنا في علاقته بالدليل موضوع الإدراك ( التجربة العاطفية
والجسدية لحب الأنثى الأول) يصبح مصدرا للمؤولات التي ينتجها المجتمع
ويسربها عن طريق العادة والوراثة والتربية في أذهان أفراده، وهي مؤولات
تتصدر الحكم على نسخ هذا الدليل الفردية، ومجملها بصفة عامة في مجتمعاتنا
الشرقية مرفوضة وسلبية وأحيانا مقبولة على مضض، مع اعتبارها أمرا واقعا
مرا لا يمكن الاستعلاء عليه. إنها باختصار حكم بالمروق عن الأعراف وخرق
لها. ولهذا فإن الأفراد الذين يغالبون وعيهم الاجتماعي المتشارك
ومخزوناتهم المترسخة محاولين قبول ذلك، لا يَسْلَمُونَ قطعا من حكمه
المجرد النظري ومن تبعاته الفعلية، لذلك وفي غياب قدرات الفرد أو الأفراد
على تغيير سنن الأحكام الاجتماعية، يعملون في الغالب على ستر تحقيقهم لذلك
الدليل، لأن وعيهم باندراجه ضمن دائرة الممنوع لا يرتفع، ولذلك يصبح
انكشافه اجتماعيا عرقلة للحياة العادية للفرد، خصوصا وأن التصالح مع
الحياة الاجتماعية لا يكون إلا بالانضباط الفعلي أو الصوري على الأقل،
لقيمه وأعرافه. والواقع أن تفعيل الشاعرة لهذا المؤول جعل الصورة الضبابية
المتولدة عن المؤول السابق الخالي من الخبرة في ذهن الذات المتكلمة في
القصيدة، وهي تعيش لحظات الإقدام على إنجاز الفعل، تحس بقوة بالأحكام
المحتملة، حيث تظهر العديد من المؤشرات المفردة والمركبة هذا الاستحضار
وما يترتب عنه من صراع تعيشه الأنا بين مطالب الهو وإرغامات الأنا الأعلى
( أخجل من تحفزي المسبق لخسارة غاية في البهاء) (لا أستعجل تدفقي
المدلل..).
إن تضافر المؤولين الانفعاليين معا وحضورهما بقوة في لحظات
التفكر في الفعل، هو الذي جعل الحقيقة الجمالية متراكبة مع الحقيقة
الاجتماعية للفعل، وجعل من ثمة الصور والاستعارات أدلة مؤشرة على سياقات
الموضوعات الدينامية السابق ذكرها ( التشتت والانتشار- الخوف والتوجس- عدم
الإحساس بالكمال).
قبل الشروع في تحليل كيفية بناء تدلال هذه
السياقات في كل مقطع على حدة وصولا إلى كشف كيفية تشكيلها للموضوع
الدينامي للقصيدة كاملة، يبدو من المفيد الانطلاق من تحليل العنوان في
علاقته بالقصيدة التي أضحى مؤشرا عليها:
2 - العنوان والنص
حزمة ضوء لأجل الجميلة
إن النظر في البداية إلى العنوان بوصفه دليلا معزولا، يفجر في الذهن
عدة أدلة ذات علاقة به. ومن بينها الحكايات الشعبية وعناوينها. وهي تأتي
عن طريق تناصات كنائية قائمة على مبدأ المجاورة، وأهمها الحكايات الخرافية
التي تحكي رمزيا عن أنواع الزواج الأولي الفاسد وغير الشرعي الذي قد يؤشر
أحيانا على مراحل ما قبل ظهور الزواج بوصفه عرفا اجتماعيا، وأحيانا على
مرحلة البلوغ الأنثوي. فما أكثر الحكايات التي تربط هذا الزواج بالتقاط
الجميلة أو تسلمها هدية في شكل حزمة قابلة للانفراط فتصير سببا لامتلاكها.
وما أكثر الحكايات التي تربطه بضربة ضوء قمري خاصة، تساعد دلالة هذا
التناص في البرهنة على أن العنوان يؤشر على المغامرة الوشيكة الموصوفة في
القصيدة، والتي ليس من الضروري أن تكون سعيدة أو مؤلمة، والتي تجسد أيضا
تحولا يسم حياة الذات العاطفية والجسدية. ودلالة القرب والإسراع في
الاستسلام والتنفيذ، التي عادة ما تتلو حدوث تلك الظواهر في الحكايات،
تتدعم بكون العنوان يضمر دلالة اقتراب التحقق لأنه يبدو إجابة لسؤال مضمر
(ما هذا؟).
وستتضح هذه الدلالة أكثر بتحليل الدليلين الأساسيين المشكلين للعنوان في علاقتهما بنص القصيدة وموضوعها الدينامي.
يتألف
الدليل الأول من مركب اسمي (حزمة ضوء)، والضوء كما هو معروف عبارة عن ذرات
لا مرئية تؤشر على مصدرها، الذي يَتَمَثَّلُ نموذجه الأقوى في الشمس، وهو
منعدم الوجود في غياب وجود العين التي بفضله ترى دون أن تراه، ولأنه لا
يحضر بفضل شفافيته الفريدة، التي تتيح للعالم أن يحضر إلى الإدراك الحسي
عن طريق العين، فإنه مشاكل للحب الذي هو أيضا مصدر انتشار الإحساس الداخلي
وفيضه على الآخر الموجود في الخارج، إن العين التي تحس الضوء، فتدرك بفضله
العالم الذي يخرج جراء ذلك من احتجابه إلى ظهوره، هي التي تنقل هذا العالم
إلى مناطق المخ المختصة بفرز الانفعالات. وبما أننا نرى بالعين ونبصر
بالقلب، فإن القلب يستعير فعل العين لكي يدرك العالم، وحين يتعلق الأمر
بالحب الغريزي، فإن المحبوب يصير مشعا ويخترق القلب بشفافية الضوء أيضا
ويصبح القلب مضاء بنوره. ويضاف إلى كل هذا كون النور وفق المؤولات
الموسوعية الثقافية دال على امتلاك الأنثى للذكر، شرط أن يكون بكرا هو
أيضا. وهو ما ينسجم بقوة مع صورة الشريك العاطفي في القصيدة (ثمة ندى مدبر
أعده بحماس لقلبه الغض) (أضحك لذهولك المؤقت) (أرتب الأنين في كفي أتفادى
رحيلك المباغث) " يحكى عن ابن كثير في السيرة النبوية يقول( كانت رقيقة
بني نوفل، أخت ورقة ابن نوفل، توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن
يجامع آمنة، من نور، فودت أن يكون ذلك متصلا بها.. فعرضت نفسها عليه..
فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها، كأنه
ندم على ما كانت عرضت عليه، فتعرض لها لتعاوده، فقالت لا حاجة لي فيك،
وتأسفت على ما فاتها من ذلك)".
من الواضح أن النور هنا شيء يذهب
ويختفي، ولذلك أُوزِرَ بحزمة. والحزمة تعني ضم أشياءَ مؤلفةٍ من أجزاءَ
متناظرةٍ، والحزمة قابلة للانفراط والانفراط يؤدي إلى تناثر المحزوم.
ولذلك ليس غريبا أن يُفْتَتَحَ المقطع الأخير، المؤشر على تحقيق الفعل،
بدليل (أتناثر)
والحزمة أقرب إلى الحزام والحزم. والحزام رابط الثوب عند الخصر والحزم الجد وانفراط ذلك يفتح الباب نحو اللهو والعري..
أما
الدليل الثاني (لأجل الجميلة) فيفرض تحليله في ضوء تركيب العنوان وموضوع
القصيدة البحث عن دلالاته الملائمة في الموسوعة الثقافية، لأن الدلالة
القاموسية غير ملائمة. ذلك أن الجميلة في اللغة ليست الفاتنة بالطبيعة، بل
الحسناء هي الفاتنة. أما الجميلة فهي التي تتجمل وتتصف بصفات الجمال
بواسطة فعل خارجي مدعم. وهي أيضا تلك التي تسلك مسلك الجمال المعنوي
والمادي. أما الحسناء ففي غنى عن كل ذلك. وحين نعود إلى القصيدة ندرك ألا
علاقة للجميلة في اللغة بالذات المتكلمة الموسومة بخرق القيم، والمهملة
وغير الأنيقة(لست متعبة جدا/ ولا أنيقة جدا) (مهملة تماما). وبالعودة إلى
المعنى المستنبط من الموسوعة وتحديدا من الحكايات الشعبية المرتبطة
بالزواج عامة، نستطيع إدراك الدلالة الملائمة للنص حيث الجميلة
مُعَرَّفَةً، هي في الغالب الفتاة الناضجة، التي هي في عمر الورد (ألقن
الورد بتمهل كيف تتسع بتلاته لمعجزة صغيرة) ويدعم التركيب هذا المعنى
فالجميلة مسبوقة بالدليل المركب (لأجل). وسواء كانت الشاعرة تقصد الهبة أو
الهدية "لأجل" أو الأمد "لأَجَلِ"، فإن المعنى لا يختلف كثيرا، فإذا كان
المقصود هو "لأجْل" فهي هدية النور والضوء للجميلة التي اكتملت أنوثتها
ورغبتها في الحب، وإذا كان المقصود لأجَل الجميلة فالمعنى هو أن الضوء
سينهي مرحلة عمرية ويعلن عن أخرى. ومهما يكن من أمر فإن الدليل (أجل) سواء
دل على الهدية أو على الأمد أو الموت حتى، فإنه إعلان عن نهاية فترة
اكتملت طبيعيا وليس ثقافيا وبداية أخرى. مع اختلاف بسيط يلمس مع "الأجَل"
حيث السياق يميل إلى أن المندثر ليس الذات، بل الصفة "الجميلة". إن الذات
ستفقد لقبها الجميلة لتأخذ لقبا آخر مناسب لما بعد ارتياد المغامرة.
3 ـ
3 ـ1 مخاض القرار
تتوسل الشاعرة لبناء الموضوع الدينامي للمقطع الأول، بالالتجاء إلى
المؤول الدينامي، الذي يوفر لها إمكانات التأشير عن طريق السياقات
المناسبة لحالات الذهن المفترض هيمنتها على الذات المتلفَّظة، ولذلك يتشكل
المقطع من سياقين متناظرين بفضل تكرار نوعيات متقاربة: الأول طبيعي
والثاني إنساني. أما الأول فيتجسد عن طريق أدلة تخلق صورا انفعالية تتألف
من أدلة موسومة بعدم الاكتمال، مؤشرة بذلك على الموضوع الدينامي المتمثل
في" النقصان" باعتباره سلبا للكمال الذي يعد، بشكل أو بآخر، وضوحا للأشياء
والأفكار والمشاعر، مثلما يعد غيابه مسببا في تشكيل عالم ممكن تحف به
الحيرة وتمتنع فيه الطمأنينة ويجافيه الوضوح. عالم تتدثر فيه الأشياء
بغلالة من الخفاء. ويعود ذلك إلى الاستناد إلى نوعيات الإحساس الغامضة
المساوقة لحالة ذهن الذات المتلفَّظة.
وتتمظهر مؤشرات سياق النقصان في
الأدلة التي تحدد الكم "خفيف، حزمة، شيء من، مزق من" وكلها تدل على
النقصان في الشيء مع الإقرار بوجوده. ومن الملاحظ أن مؤشرات النقصان مؤلفة
من دليلين يرتبطان بالنور وبحاسة الرؤية، ودليل يرتبط بالغابة وبحاسة
السمع. ويعتبر هذا التراتب، دون شك، بناءً لدليل أيقوني خفي يدل على قصور
البصر، المؤشرة على البصيرة أيضا وعلى اضمحلاله ليترك المكان لحاسة السمع،
ويتضمن ذلك تأشيرا ضمنيا على التراجع نحو الداخل. ويتأكد ذلك من خلال كون
المؤشرين المرتبطين بالضوء، (خفيف وحزمة) يترابطان بدليلين موجهين
للجميلة، وليس للمكان أو للشريك الذي ستعلن عنه المقاطع اللاحقة. الشيء
الذي يخصص الدلالة ويجعلها أكثر ارتباطا بالعوالم الداخلية للذات
المتلفظَّة، مثلما يؤشر على سيادة العتمة، التي حين تتصل بالذات تصير
أيقونة للضلال. أما مؤشر النقصان المرتبط بالغابة، الدالة عن طريق الرسوخ
على الحرية والغريزة والطبيعة المناقضة للثقافة، فيتجسد في الحفيف، الذي
ترتبط كل معانيه في لسان العرب بصوت الأنثى من الأساود، وهي تحك مناطق من
جلدها بجلدها متهيئة لتغييرها..، وبصوت جناح الطائر المرفرف. وكلا
الدلالتين تؤشر على موضوع جنسي واضح، تختلط فيه سمات الذكورة بالأنوثة.
الشيء الذي يجعل الدلالة أكثر ميلا إلى الإحالة الأيقونية على سياقات خفية
من بينها، الأصوات الغامضة التي تأتي، في لحظات العتمة الروحية، من
اللاوعي فتتخايل للمدرك كما لو كانت آتية من الخارج، والتي تدل غالبا على
نداءات تجذب الذات نحو ارتياد المغامرات، وهي هنا إما مرتبطة بنداء
الذكورة الخارجي أو بنداء الأنوثة الداخلي المؤشر عليه بصوت احتكاك
الغابة، باعتبار هذا الدليل المركب أيقونة على تهيؤ العضو الأنثوي للتغيير
من حالة إلى أخرى. وبتضافر هذه السياقات يكتمل السياق الكلي لصورة
الطبيعة، التي تدل على وجود زمن قبلي مفترض معمور بالعتمة والغمة، لكنه
يُخترق خلال حاضر التجربة بشيء من النور الذي مصدره الشعور بالرغبة
وتهيئها. فينعكس على السياق الإنساني المحض الذي لا يسلم هو الآخر من
مؤشرات نقصان الطمأنينة، التي تتمظهر معكوسة في الضجر الذي لا يحضر
انسجاما مع منطق النوعيات المنتقاة بدقة إلا في شكل نقصان في كم الضجر "
مزق ضجر انعكاس غامض" ليحيل الدليل على أن بوادر الضوء وإحساس الرغبة
والتهيؤ لها آخذ في تبديد الضجر الغامض خلال زمن ماكر يتنكر للوضوح
والحقيقة التي هي ضد سياقات توجيه الفعل. ومن المؤكد أن ذلك ناتج عن
الشعور العميق بعدم مقبولية الإقدام على الفعل.
إن المقطع وهو يصاغ
بهذا الشكل، يترجم استناد الشاعرة إلى مؤول سنني عرفي مرتبط بحيرة الأنثى
قبل قرارها بالاستسلام لنداءات رغبتها الغريزية خارج إطار الشرعية
الاجتماعية، بكل ما تنطوي عليه تلك اللحظة من تناقضات وحيرة وتوجس..
3 ـ 2
أما المقطع الثاني فيراكم مجموعة من الأدلة التي تعمل على تأويل الصورة
الغامضة الممثلة في المقطع الأول، فتقوم بتجلية الانفعالات الخفية، فيبدو
المقطع، جراء ذلك، كما لو كان يتغيا نقل المتلقي من الكامن إلى الظاهر،
ومن العالم الداخلي المعمور بالانفعالات الأيقونية الحافلة بمقولات
الإحساس، إلى عالم الوعي بالفعل مع الإصرار على إنجازه. وهكذا تبدو
المسافة الزمنية المطمورة من قبل الخطاب الشعري، بين صراع الوعي واللاوعي،
والمجسدة بالفضاء الفارق بين المقطعين والمؤشر عليه بالرقم 2، أيقونة على
زمن ما تغلبت فيه الذات المتلفَّظة على حيرتها وهواجسها، وأخذت في تظهير
بلورة قرارها بشكل أكثر وضوحا وجرأة، ناقلة الانفعالات الخفية والانكماش
داخل الطوية الخاصة، إلى عالم الوضوح والتفاعل، وقد تجسد ذلك في الاعتراف
بوجود مثير وشريك، هو آخر، وهو موضوع الرغبة ومصدر الوهج والضوء.. وأيضا
من خلال التدرج من الاستعارة المرتبطة بالطبيعة " تمة ندى مدبر" حيث دلالة
الدليل " الندى" المؤشر على الصباح البكر المؤشر سياقيا على إفرازات
بيولوجية أنثوية، والمساوق لعمر الشريك ذي القلب الغض، إلى الأدلة المؤشرة
ذات القصدية الواضحة " أخجل من تحفزي المسبق /لخسارة غاية في البهاء".
ويعني ذلك أن الشاعرة قد نهجت التدريج المساوق للمؤول السنني الشائع لمثل
سيرورة إنضاج هذا القرار. حيث عملت على صبغ الازدواجية على الصيرورة
الزمنية لتفعيل السيرورة الفكرية. وقد تمثلت تلك الازدواجية في التعارض
العصي بين صدى الحكم الأخلاقي على مآل التجربة في ذهن الذات، ونداءات
رغبتها الغريزية، وإغراء الإحساس بوجود الشريك.. وقد تمظهر كل ذلك في
اضمحلال التدليل ذي الصدى الرومانسي إلى تدليل موسوم بواقعية الرغبة
الذاتية التي أضحت تمركز ذاتها، وتصارع الوعي الشقي الذي يتمثل في الشعور
بالخسارة الوشيكة التي تنسحق تحت جموح الرغبة الملطفة بكونها غاية في
البهاء. ليدل ذلك على انتصار الرغبة على التعقل بوصفه جنوحا إلى العرف.
وهذا القرار هو ما ستعمل بقية أدلة المقطع على تظهيره من خلال الانتقال
إلى البوح بحنانها، عن طريق البوح بتمثلها لحنان الشريك.. وهو ما تؤكده
أيضا بقية المقاطع اللاحقة: