ربّما
كان مطلع تسعينات القرن العشرين توقيتا مزعوما ًًلآخر مسمار دقّه تاريخ
الفكر الإنسانيّ/السياسيّ يومذاك في نعش الماركسية على خلفية انهيار نظام
التجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفييتي، وظهر أنّ الماركسيين واليسار
العالميّ لم يعد لديهم ما يقولونه، سواء على صعيد التبشيربأيّة جنّة على
الأرض تأوي إليها البروليتاريا وحلفاؤها سائر الكادحين بعضلاتهم وأدمغتهم،
أوعلى صعيد نقد النظام الرأسماليّ بتناقضاته وبما يحمله للبشرمن بؤس وويلات
يخلّفها نهبه وجشعه لعرق الشعوب ودمائها، وتراكبت الآثار المادية والمعنوية السيئة لأفول
التجربة الإشتراكية، مع الاختلال الصارخ في موازين قوى الصراع العالميّ
لصالح النظام الرأسماليّ الذي أعلن على لسان الإدارة الأميركية بعد حرب
تحريرالكويت من جيش النظام العراقيّ، عن بدء سريان النظام الرأسماليّ
العالمي الجديد الذي حلّ محلّ نظام القطبين(الرأسمالي والإشتراكي)
أواخر1991.ويبدو أنّ أزمة الرأسمال العالميّ الجارية
هذه الأيام (أيلول2008) والمنفلتة من كلّ عقال(الإعصار المالي)، والمستمرة
دون أفق والإنهيارات المتتابعة للبنوك والمصارف والمرتكزات المالية
العالمية لدى الأنظمة الرأسمالية في الدول السبع الصناعية وغيرها، والذعر
الذي يلاحق رموز هذا النظام الرأسمالي وكوادره البشرية القيادية وإدارات
دوله، المتهافتة لإيجاد مخارج لهذه الأزمة دون جدوى حتى الآن، قد أعادت
الحراك من جديد إلى موضوعات الماركسية، في إطار جدل العلاقة التاريخية بين
تصوّرات الفكرالماركسيّ من جهة(والذي تأسّس وقامت أركانه أساسا ًنظرية ً
ومنهجا ًعلى نقد الظاهرة الرأسمالية
وتجاوزها) وبين معطيات الواقع
الرأسماليّ من جهة ثانية، وبات لدى الماركسية ما تعيد طرحه في بيئة النظام
الرأسماليّ من خلال المبررات التالية:لقد أمدّ ظهور
تناقضات الرأسمالية وأزماتها وأعراضها(كساد، بطالة …الخ) بهذا الوضوح في الأزمة
الحالية(ايلول 2008) البنية المعرفية للماركسية ومنهجها ومرتكزاتها
النظرية وتصوراتها بنسغ، وزاد الإستمرار والمشروعية على صعيد حركة
الفكرواستقلاليته في حقوله الخاصة عن أبعاده التنفيذيه وتجاربه الميدانية،
وبات على الماركسيين أن يتحرروا من عقدة تهدّم عمارة الماركسية(التجربة
الإشتراكية في الإتحاد السوفييتي)، ويعيدوا الماركسية إلى العائلة المعرفية
العلمية من حيث العلاقة والإستقلالية النسبية بين العلم كحقل تصوّرات
وحالة وعي نظري، وبين تطبيقات هذا العلم كحالة ميدانية عملية، إذ لم يشهد
تاريخ العلوم أن قاد فشل التطبيقات بالضرورة إلى إعلان موت هذا العلم أوذاك
وانقراضه جراء فشل تطبيقاته كما حصل في الإفتراء التاريخيّ على
الماركسية التي تمّ اجتثاثها من الوعي الإجتماعيّ وألحقت حيّة ً بركام
وأنقاض الإتحاد السوفييتي على انّه تطبيق عمليّ تاريخيّ(زائل) لتصوّراتها.
وكذلك يمكننا القول انطلاقا ً من نفس الإستقلالية بين الفكر والتصورات من
جهة وبين الأبعاد التنفيذية لهذا الفكر من جهة ثانية، أنّ الشمولية
والديكتاتوريات والإستبداد التي عرفتها أنظمة حكم التجربة
الإشتراكية(كالستالينية وغيرها)، لم يتأسس لها في أرض المعرفة الماركسية،
وإنما انطلقت وأخذت سياقها الدولتيّ الأمنيّ الخاصّ في إطار الصراع
السياسيّ الدوليّ بين القطبين الرأسماليّ والإشتراكيّ، ومقتضياته على
الساحات المعنية التي نشأت فيها فئة بيروقراطية حاكمة استأثرت بما تدافع
عنه من ثروة ونفوذ أدى إلى سلب المجتمع حرياته، وكانت الماركسية إحدى
ضحاياها بما هي علم ومنهج .
السياق
التاريخيّ المندفع منذ منتصف القرن التاسع عشر( إرهاصات مولد الماركسية)،
والمتواصل حتى مطلع تسعينات القرن العشرين، يرينا كيف وضعت الماركسية في
صرة واحدة معظم التراث الفكريّ الإنساني(من إقتصاد وسياسة وفلسفة
وغيرها)مقروءاً قراءة نقدية فاحصة ومعدا ًبأدوات علمية ومصاغاً ليصبح
مرشداً ودليل عمل عابرا ًللقارات المعرفية، حيث استمدت منه الثورات وحركات
التحرر وشتى أشكال النضالات، المعرفة الممكنة واللازمة وعلم الثورات
وبرامجها وأدواتها وآليات عملها وأسسها ومرتكزاتها النظرية، وشهد هذا
السياق التاريخي على خلفية انتصار الثورات وحركات التحرر انحسارا ًمتزايدا
ًللنفوذ الرأسماليّ عن مساحات واسعة من العالم في الإتحاد السوفييتي والصين
وأوربا الشرقية وبلدان عديدة في مختلف القارات، ماخلق رسوخا ًتاريخيا
للماركسية كإيديولوجيا خلاص مقنعة استطاعت لقرن ونصف تجاوز شتى صنوف
مقاتلها وقدمت ما يبرّر وجودها التاريخيّ المعقول.
ثمّة فرق بين
أن نعزو أسباب انهيار(الماركسية/الإتحاد السوفييتي) إلى اختلال موازين قوى
الصراع الدوليّ لصالح القطب الراسمالي، ما مكّن هذا القطب من دحر القطب
الإشتراكيّ في سياق تاريخيّ عرف استمرارية حركة الصراع والندية بين
القطبين، وبين ان تعود أسباب الإنهيار إلى انعدام الحظوظ التاريخية وعقم
الحياة في الظاهرة السياسية التي لها نشوؤها وتطوّرها وتناسلها في سياق
مستمر.وأعتقد انّ مراعاة هذا الفرق لا بدّ أن تنصف ظاهرة التجربة
الإشتراكية برمتها على أنها ظاهرة تاريخية فكراً وسياقا ً تاريخيا ً ونمط
إنتاج وحياة، ما يسعف المنطق بإيجاد مبررات تجدد هذا النمط وتكراره الدوري
وفق قانون الظاهرة الإجتماعية/السياسية بما هي ظاهرة عضوية.
والآن إذا
كانت الأزمة الحالية المستفحلة في النظام الرأسماليّ العالميّ ستقود إلى
تزايد جيوش العاطلين عن العمل، وتفاقم بؤس وفقروتردي حياة العاملين في
مختلف مواقع العمل المأزومة، فإنّ عمال العالم لابد وأن يتّحدوا. واليسار
العالميّ مدعوّ إلى هنا.