أغلقتُ الباب…
أشعلتُ ضوءاً باهتاً…
وجلستُ على كرسيّ …
أطرقتُ للحظات….
للوحدة إيقاع طبول وحشية… صوت بدائيّ كغابة…
لكلّ هذي الزوايا لون واحد … ولكلّ الأعين انطفاء مقلِق … لكلّ الوجوه
رَجع مُصمَت… ولوجهي… لوجهي …شيء من… لا شيء…
بعد لحظات… بعد لحظات فقط… سيستحيل عالمي الأعزل بقعة دامية… وبعد
لحظات… سيفجّر هذا الفراغ ذاته… سيتشظّى… سيستحيل أجراماً دون ضوء… فضاءً
جُنّت فيه العناصر.. ثقباً غائراً في مشهد ضبابيّ…
ستمتدّ العتمة، لتلمس عنقي كيد خفية.. وسوف أسمع لهاث الثواني… سأسمع
وقع الزمن - الشبح- يقترب من جسدي… ليجعل منه.. تكويناً آخر… ليجعل مني
مخلوقاً تؤرجحه العتمة… كما يؤرجح الليل ذكرى ما انسفح من عمر نهار قصير…
سيضيق المكان…. سيشِعل أطرافه… وستختفي نافذة وحيدة علّقتها على جدار…
لتختلط الأشياء اختلاطاً مريباً… لتهجر كلّ الجهات جهاتها… ولأستحيل… أنا…
لأستحيل جهة مفردة مغلقة…
وسيجعل منّي كلّ هذا… كائناً مفقوء الأعين… منزوع الأصابع… مهترئ القلب…
دميماً… سيحاصرني هذا المكان المغلق…سيجعل من روحي شيئاً قميئاً…مفرغاً…
صامتاً… متوتّراً كانقباض الحدقة…
أنا… فتاة الظلّ…
حرّرت جسدي من الشهوة… أطلقت من فكري كلّ فراشات الليل… أوقفت قلبي
عنوة… رجمت روحي بأحجار الترقّب… ورششت فيها الصدأ خيوطاً من حديد….
أنا فتاة الظلّ… يلبسني الوجع كما يلبس الدخان وجه الأرض… يعكسني على
صفحة الهواء… ينزع مني احتضار الفكرة..ينزع منّي حتّى ما تبقّى من أشلاء
ذاكرتي…
مسكونة نفسي بهلع الحياة…
مسكونة أنا… بالفرار… مسكونة بالتوحّد… برائحة البراري… بندى السراخس…
بحبوب طلع ميتة… مسكونة بشؤم وجودي المحدود… بجسد لا يسعه إلا التقرّح
شوقاً لأشياء لم تأت… ولن تأتي… مسكونة بتراكض العبث في داخلي.. بفوضى تشبه
بدء الخلق أو نهاياته… مسكونة بهيئات عديدة… بأصوات بُحّ رنينها… بطيور
خفية لا تفتأ ترطم أجنحتها على جدران روحي… لتنزّ مسامّي، دون توقّف، وجعاً
رطباً… ليلفظ جسدي خلاياه كلها… لأنتشي في لحظة انعتاق قاتمة…
بعد لحظات فقط… سأصارع وحدي ثيران وجودي المقلِق… سألطّخ يديّ بدمي…
لأرسم على وجهي خطوطاً بربرية… لأجعل من جلدي رداءً يلفّ العتمة… ومن
أوردتي حبالاً أعلّقها في السقف…
سأطلق صوتي في ذاك النفق الطويل الضيق.. لأستشعر عن بعد… أولى خيوط
العتمة المغرقة.. وسيجتاحني ألق النهايات… كما تجتاح ريح الشمال وجه
السماء… سأحدّق في اختفاء الظواهر.. لأرسم صلباني في كلّ زاوية… لينعق ألمي
كوحش كاسر… لينعق ذاك الفصام المشوّه على ذروة يأسي المتوهج…
سأترك للضجيج مكاني… وسأترك في الجسد علباً فارغة لم تمتلئ يوماً… سأترك
في ذهني ثقوباً ليعبرها أنين خافت… وسأترك عينيّ معلّقتين في نقطة ثابتة…
ولن أستدير… لن أستدير كي لا تشفق عليّ مرآة… كي لا يحزنني انسفاح ظلّي على
صفحة الأرض…
تعال… اقترب أيها الموت الرقيق… اِضرب بأعوامي الثلاثين عرض الحائط…
ألقِ بها في هوّتك السحيقة واجعل منها بخوراً لمعبدك القدسيّ… اجعل منهاً
زيتاً يحترق دون توقّد…
اقترب أيّها الموت الدافئ المشبع نبلاً… اقترب وقدّس ما اقترفت من حزن…
اقترب… لا تخشَ شيئاً…
أسلّمك نفسي… عارية دون تضاريس… مجرّدة من زينتي.. دون وشوم… دون رائحة…
عذراء منزوعة القدسية… أرضاً قاحلة شقّقها العقم…
أسلّمك نفسي… كما يسلم الفكر نفسه للّحظةِ المثلى… لومضة عابرة… لنيزك
يعبر خارج الوقت..
اقترب أيّها الموت… انسج شباكك الرقيقة حولي… أحلني شرنقة… دودة قزّ..
خيطاً واهياً… وامسح كلّ تفاصيل ذاكرتي.. وأبق لي… ربما… شيئاً… من عشق…