نهاية زمن الأحلام.. عبد الله الدامون -
damounus@yahoo.com في سنة 1956، حصل المغرب على الاستقلال. في تلك السنة بالضبط أو في السنوات القليلة التي تلتها، ولد مغاربة كثيرون، وأعمارهم اليوم تقارب الستين، يعني أنهم من الجيل الأول للاستقلال، وهم الذين فتحوا عيونهم في مغرب بلا حماية فرنسية ولا إسبانية.
اليوم، يقف أولئك الذين ولدوا في تلك السنوات على أعتاب الستين، ومن يقف على مشارف الستين يعني أنه يسير إلى حافة التقاعد والتأمل، ويعني أيضا أن الأحلام والطموحات تصبح جزءا من الماضي، وكل ما يبقى للإنسان في هذه المرحلة هو التفكر والتأمل.
في الأيام الأولى للاستقلال، كانت هناك الكثير من الأحلام، وكثيرون كانوا يعتقدون أن الاستقلال يشبه كائنا خرافيا سيحول معاناتهم مع الحماية إلى نعيم دائم، وكثيرون كانوا يخرجون في المظاهرات أيام الحماية وهم يهتفون «عاش الاستقلال»، وكانوا يعتقدون أن الاستقلال رجل طيب محتجز في مكان ما وينبغي تحريره، وكان الناس يفكرون في الاستقلال بكثير من الرومانسية إلى درجة أنهم رأوا الملك الراحل محمد الخامس في القمر.
شيوخ اليوم، الذين كانوا أطفالا في فجر الاستقلال، يتذكرون الماضي بمزيج من الحسرة والسخرية المرة. ومن الغريب أن الكثيرين منهم يجمعون على سرد حكايات تقول إن نصارى ذلك الزمان، أي زمن الحماية، كانوا يسخرون ممن يطالبون بالاستقلال ويقولون لهم إنهم سيندمون، و»سيأتي يوم تتبعوننا فيه بعد أن نغادر بلادكم».
الطوابير الموجودة اليوم أمام السفارات الأجنبية تكشف عن جزء من ذلك التنبؤ، والإحصائيات واستطلاعات الرأي التي تقول إن 80 في المائة من شباب المغرب يريدون الهجرة ربما تكشف أن أولئك النصارى كانوا يتنبؤون بما سيأتي بكثير من الثقة. وأكثر من ذلك، النصارى ربما كانوا أقل تشاؤما، لأنهم لم يتنبؤوا بقوارب الموت التي لا تزال تشتغل بنشاط على شواطئ البلاد لتصدير المحبطين نحو الضفاف الأوربية أو حملهم إلى قبور كبيرة وفضفاضة في قعر البحار.
الأحزاب المغربية، التي كانت في زمن ما بمثابة قيادات شعبية حقيقية تترجم هموم وأحلام الناس، صارت اليوم تترجم فقط هموم ومشاغل قادتها، لذلك من الطبيعي أن تنكمش أحلام الأحزاب المغربية اليوم في هدف واحد هو المشاركة في الحكومة، لذلك لم يعد أي حزب يدعو إلى التظاهر ضد الغلاء أو التعبئة ضد لصوص المال العام أو مواجهة محتكري النفوذ والثروات.
وفي الأسبوع الماضي، وخلال جلسة برلمانية كان ينقلها التلفزيون، توقفت الجلسة بعد تلاسن «لغوي» بين وزير الاتصال ونائب من «المعارضة»، والسبب هو أن برلمانيا وصف لغة جواب الوزير بكونها خشبية، فرد الوزير بأن اللغة الخشبية هي التي يستعملها النائب، و«ناضْت القيامة» في البرلمان لسبب تافه جدا، وتم توقيف البث.
هذا الوزير اليساري، وذلك النائب من المعارضة، وكل الذين دخلوا في ذلك اللجاج التافه، يعرفون كلهم أن اللعبة واضحة المعالم، وأن البرلمان، بغرفتيه الأولى والثانية، وبمئات الجالسين فيه، لا يساوي جناح بعوضة، وأن المخزن رسم مسبقا للجميع الحلبة التي يجب أن يتصارعوا فيها، وأن القضية -في البداية والنهاية- تشبه تناقر ديكة في رقعة محاطة بسياج، وأن الفرجة مرتبطة بمدى إتقان كل ديك لحيل الصراع.
لا توجد اليوم داخل الأحزاب نقاشات حقيقية حول الانشغالات العميقة للشعب المغربي، ولا توجد في البرلمان نقاشات وجدالات حول الهموم الكبرى للناس، وكل المناقرات التي تحدث داخله لها علاقة بشكليات مريضة، بينما لا أحد يناقش قضايا الاختلاسات الكبرى وفضائح «الكوميسيونات» ونهب الثروات... وأشياء كثيرة أخرى.
النقابات بدورها شُيّعت إلى مثواها الأخير، وذهبت الإضرابات الكبرى والمخيفة إلى غير رجعة، حيث تمر اليوم الإضرابات من دون أن يشعر بها حتى الذين يدعون إليها.
انتهى زمن الأحلام الكبرى والجماعية في المغرب، وصار كل واحد يحمل حلمه في جيبه.