انتخابات بارتي
عبد الحليم قنديل
2010-12-05
بانسحاب جماعة الإخوان وحزب الوفد من الانتخابات العبثية سقطت آخر ورقة توت تغطي عورات النظام غير الشرعي في مصر.
وقد لا يصح الحديث بأي مستوى من الجدية عن الانتخابات المصرية، فقد انتهت قصة الانتخابات في مصر، وبالذات منذ الإقرار الصوري لتعديلات الانقلاب على الدستور في 26 آذار/مارس 2007، وكل انتخابات جرت في مصر ـ بعد هذا التاريخ ـ هي قصة كوميدية بامتياز، فقد شاخ النظام المصري، وانتهى إلى نوع من التحنيط الفرعوني، ويسلك سلوك العجوز المتصابية، تكثر من الأصباغ على وجهها، وتنتف الحاجبين، وتزيد في كثافة الرموش الاصطناعية، وتغش الزبائن بانتفاخات السيليكون، ثم تبكي آخر الليل، لانها لا تصدق ما تريد للآخرين أن يصدقوه، وكما تفعل السيدات المترفات في أحياء الفراغ الراقي، حين يقمن حفلات 'الجلابية بارتي'، ويلبسن جلابيب الفلاحات على سبيل قتل وقت يبدو بلا آخر، فهكذا يفعل النظام المصري الآن، يقضي وقت فراغه الممل بين موته السياسي ومراسم دفن الجثة، ويقيم حفلات 'انتخابات بارتي'، وعلى ظن موهوم أنه قد يفلت من أقدار التاريخ، ويلعب في الوقت الضائع.
وليست القصة في أنها انتخابات بلا ضمانات، إنها ليست انتخابات من أصله، والحديث عن الرقابة الدولية أو الذاتية ترف لا تحتمله المصائب المصرية الراهنة، فالأصل في مبدأ الرقابة أنه يجري وفق معايير معترف بها، بينما انتخابات النظام المصري خارج التاريخ، ومغشوشة بالكامل، ولا تقاس بمعايير من صنع البشر، ولا من شطحات العفاريت، ولا تكمن عوراتها في نقص المعايير، بل في غيابها بالجملة، لا تكمن عوراتها فقط في الجداول الانتخابية المليئة بأصوات ملايين الموتى، ولا في غياب الإشراف القضائي الكامل، واستبداله بالإشراف العملي لضباط الشرطة، ولا في عمليات شراء الكراسي بالمال الحرام، ولا في الانعدام شبه التام لوجود ناخبين، ولجوء الإدارة الأمنية للتصويت نيابة عن الناخبين الموتى قبل الأحياء، والمبالغة الفلكية العشوائية في الأرقام والنسب، والقفز بنسبة المشاركة التي لم تتجاوز 5' في أفضل الأحوال، وتصويرها فجأة كأنها نسبة 35'، وبقدرة قادر فاجر في كيان وهمي اسمه اللجنة العليا للانتخابات، فكل تلك العورات ـ على بؤسها الظاهر- مظاهر لا جواهر، والسبب الجوهري في التزوير هو نظام الرئيس مبارك، ولا يمكن تصور إجراء انتخابات حرة ـ أو شبه حرة ـ مع اتصال وجوده، وقد اخترع نوعا من الانتخابات بلا مثيل في تاريخ مصر، وبلا سابقة في تاريخ البشرية، ولا تصح معه أية رقابة، وحتى لو كانت رقابة الملائكة.
اخترع النظام المصري 'انتخابات مشفرة'، بلا قضاة، وبلا رقابة، وبلا ناخبين، ولا يمكن معرفة تفاصيلها العجيبة بالضبط، إلا أن يكون المرء مشتركا ـ والعياذ بالله ـ في تواصل خاص مع المقر الرئيسي لجهاز مباحث أمن الدولة في ميدان لاظوغلي بالقاهرة، أو مع مقاره الفرعية في المدن الكبرى، فالنظام يعين معارضيه في البرلمان كما يعين مؤيديه، ومن وراء قناع انتخابي، تصدر القوائم عن بيت الرئاسة، ويتكفل جهاز أمن الدولة بتنفيذها، وقد صنع النظام بهذه الطريقة أعجب مجالس تمثيلية في التاريخ، وجعل سلطات التشريع والرقابة فروعا وزوائد دودية للسلطة التنفيذية، صنع 'مجلس شورى معين' في انتخابات افتراضية جرت في نيسان/أبريل 2007، ثم في حزيران/يونيو 2010، وصنع مجالس محليات 'معينة' في نيسان/أبريل 2008، وصنع مجلس الشعب بالطريقة ذاتها، وكخطوة تمهيد صوري لانتخابات رئاسة افتراضية، يعيد فيها الرئيس مبارك تعيين نفسه رئيسا في ايلول/سبتمبر 2011، هذا إذا مد الله في عمره، ومد الله في عذابنا .
ويكاد المرء ينفجر من الضحك غيظا، وهو يسمع حديث البعض ـ حسني النية - عن تجاوزات في الانتخابات، أو عن مخالفات شابت القصة، وهذا كلام مترفين قد يصح في حديث عن انتخابات تجري ولو في بلاد الواق الواق، لكن القصة في مصر شيء آخر مختلف تماما، فقد تعود المصريون على التزوير المنهجي لدورات الانتخابات العامة، وكان يحدث أحيانا أن يفلت معارضون عبر ثقوب في جدار تزوير مصمت، وكانت آخر مشاهد الرجاء الباهت في انتخابات 2005، والتي سبقها صدور حكم من المحكمة الدستورية العليا، يلزم بوجود قاض فوق رأس كل صندوق انتخابي، وما تبعه من إجراء الانتخابات على ثلاث مراحل، وأسهم حكم المحكمة الدستورية ـ مع عناصر تأثير أخرى ـ في اتساع نسبي بخروق النزاهة في ثوب التزوير السابغ، ووصل أكبر عدد من المعارضين إلى مجلس الشعب، كانت تلك آخر مرة يصح فيها مد حبل الرجاء في مقاومة التزوير، كانت تلك آخر حفلة عشاء شبه انتخابي، بعدها جاءت تعديلات الانقلاب على الدستور، وانتقلنا من التزوير المنهجي إلى المسخرة المنهجية، وإلى أفلام كارتون توالت في مشاهد كئيبة، أهينت فيها مصر كما لم يحدث في تاريخها، وانتفت أي إمكانية لمقاومة التزوير من داخل العملية الانتخابية إياها، وامتلأت الصناديق بالضفادع والسحالي، وبدا الحديث عن الانتخابات كأنه حديث عن عذاب القبر والثعبان الأقرع، بدت القصة كأنها تذكرنا بأهوال يوم الحشر، وبدت مصر كأنها على موعد مع أقدار لا تجيء، بدت ضائعة في انتظار لا ينتهي على رصيف التاريخ، بدت عارية في الشرد والبرد، بدت كأنها على حافة الهذيان، وتحول الواقع إلى جنون فانتازي، وأصبح الجنون واقعنا إلى يوم يرحلون .
وفي الهول العظيم، ثبتت الضمائر الأكثر أصالة، ثبت المصممون على الاحتفاظ بعقولهم في رؤوسهم، وليس في أحذيتهم، ثبتت كفاية وحركات التغيير والجماعات الوطنية على مقاطعة الهزل الانتخابي، وتأخرت جماعة الإخوان في اتخاذ موقف يليق، وبعد أن تأكدت من خسارتها لمقاعد تليق، قررت الانسحاب، وثبت أن الصورة ـ على ما فيها من قتامة مقبضة ـ توحي بتجدد الأمل، فإذا كان تيار استقلال القضاء هو بطل الحراك المصري سنة 2005، فقد أثبت قضاء مجلس الدولة أنه بطل 2010، راح قضاء مجلس الدولة يصدر الإدانة تلو الإدانة لنظام الرئيس مبارك، وتوالت أحكامه الوطنية والشعبية في قضية تصدير الغاز المصري لإسرائيل، وفي قضية الحد الأدنى للأجور، وفي حكمه ببطلان عقد 'مدينتي'، وفي حكمه بطرد حرس وزارة الداخلية من حرم الجامعات، ثم وصلت المواجهة إلى الذروة مع انتخابات البرلمان التي تحولت إلى 'تزويرات' كاملة الأوصاف، وأصدر قضاء مجلس الدولة (القضاء الإداري) مئات الأحكام، بإدراج مرشحين مستبعدين من الكشوف، وبوقف الانتخابات في عشرات الدوائر، وببطلان نتائج الانتخابات ذاتها، وبالطعن في دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية، ثم أن قضاة مجلس الدولة تمردوا على الظلم كله، وامتنعوا جماعيا عن المشاركة في الإشراف الصوري، وقد وقف النظام ضد أحكام القضاء، أهدرها جميعا، ورماها في أقرب مقلب زبالة، وتعامل مع أوراقها كمناديل 'كلينكس'، وأكد طبيعته كجماعة خارجة على القانون، وكعصابة تلبس 'جلابية' دولة .
وقد قلناها من قبل، ونكررها الآن، فلا فرصة لإجراء انتخابات حرة في مصر مع وجود النظام القائم، وقيمة أحكام القضاء ليست في قابليتها للتنفيذ الآن، لكن في كونها تصديقا بختم القضاء على انعدام شرعية النظام، فقد خرجت الجماعة الحاكمة على أبسط مقتضيات الشرعية والوجود الوطني، وتحول النظام إلى قوة احتلال داخلي، تشفط الثروة والسلطة، وتقمع الناس بعسكر الأمن المركزي، وهو ما يعني ببساطة، أن مقاومة النظام المصري سلميا هي السلوك الشرعي الوحيد، والذي تسنده أحكام القضاء، وأن حق العصيان هو العلاج الوحيد لداء الهذيان، فالمصريون الآن على مفترق طرق، إما أن يدخلوا نفق الإحباط واليأس، أو أن يستعيدوا آدميتهم بالاعتصام بأسفلت الشارع وقوة الغضب السلمي، وليس بانتظار أقدار عزرائيل، ولكن ـ ربما ـ باستعجال الأقدار، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.