ظمآن أنت مثل صفر، مثل نجمة بعيدة لاتطول الماء!
هكذا كنت أحدث نفسي، لاأدري إذا كان ذلك احساس بالعطش انتابني وأنا أرى تلك الشجرة الجرداء الساقطة التي لم يتبقى منها سوى لحاء متكئ على ساق جافة في هذا المكان الغريب وسط الميدان، مهما شربت فهو أنت لن تتحرك للأمام، ولن تتحرك كذلك للخلف، ثابت مكانك كالصفر، كصفر ظمآن يقف وحيدا بين أرقام لامعنى لها، وكتلك النجمة البعيدة التي لاتتحرك منذ بداية الزمن، وكتلك الشجرة في قلب الميدان، كنت أنظر من خلف نافذة الباص الصغير الذي انحشرت فيه، وبجانبي تلك الفتاة التي ترتدي الجينز الأزرق، والبلوزة الزرقاء التي حددت ملامح صدرها الضامر الذي كان يشبه صفران قد التصقا ببعضهما فلايثيران انتباه أحد، وكان شريط الشيخ الذي يحاول التفكه باسم الدين يدور في جنبات الباص، فيما يزعق أحد الجالسين بالخلف:
- مين اللي معاه العيلة الصغيرة دي.
لاأحد يجيب، ولم يتطلع حتى أحد ناحيته، كيف صعدت الصغيره وكيف انتبه هو دوننا جميعا، حتى البنت بجانبي لم تتحرك، ولم تتحرك الأصفار المتناثرة في العربة والمكومة هنا وهناك.
لاحظت فجأة أيضا أن كل الجالسين كانوا يرتدون تلك السراويل السوداء الكالحة أحيانا والباهتة أحيانا أخرى، كأنهم خرجوا هذا الصباح متفقين على ماسيرتدونه لمواجهة هذا اليوم العادي للغاية، العالم يتسم بغرابة تماثلية شديدة، قال الشيخ أيضا:
- أوصيك أخي الموظف بالأمانة..
لا ابتسامة واحدة حتى تخفف من جفاف المكان الضامر كصدر الفتاة، وكتلك الكلمات المتحشرجة التي تخرج الآن من شريط الكاسيت، وكانت السيارة الضامرة تتجه بسرعة شديدة فجأة إلى قلب الميدان لتصطدم بلحاء الشجرة الميتة في قلب الميدان، بينما كان الرجل يردد في الخلف:
- العيلة الصغيرة دي بنت مين؟
كنت متأكدا الآن بأنني سأظل عطشانا كتلك الأصفار التي كانت تتراكم جميعها بفعل الصدمة، لتكون صفرا عطشانا كبيرا أيضا.