تصحيح وضع أم تغيير عالم؟
أحمد الزين يفكك المأساة ليرصد تغريبة بني وطنه
القاهرة ـ صبحي موسى*
لا نعرف هل قدر الروايات الهامة والجادة أن تكون صعبة ومعقدة، أم الرحلة الطويلة التي خاضها «شائف» في عبوره من السعودية إلى اليمن هي التي كانت بكل هذا التعقيد؟ أسئلة كثيرة تفاجئنا بها رواية «تصحيح وضع» للكاتب اليمني أحمد الزين، التي صدرت مؤخراً في طبعتها الثانية عن سلسلة آفاق عربية بهيئة قصور الثقافة في القاهرة.
ربما كان البناء الدرامي الذي اختاره الكاتب هو المسؤول الأول، عما يواجهه القارئ من صعوبة في هذا النص، وربما كانت الكارثة التي وضعنا أمامها هي التي فرضت عليه هذا البناء التفكيكي في الأحداث، ومن ثم جعلنا أمام رواية تنتمي إلى ما يسمى بتيار ما بعد الحداثة في الكتابة، فبنية العمل قائمة على لعبة أشبه بالمكعبات الصغيرة، تلك التي تشكل بعد تجميعها بنظام معين بناء مكتملاً ذا معنى، لكن لعبة الزين هنا تقدم لنا المعكبات دون ترقيم أو خريطة توضح طريقة التركيب وتتابعها، ليصبح على القارئ مهمة إعادة البناء وذلك حسب ثقافته وقدراته في التركيز، ومن ثم تضعنا تلك الطريقة المعقدة في البناء الروائي أمام صعوبة الرحلة التي عانها أبطال الرواية، في هروبهم من وإلى السعودية، لكن ما بين الذهاب والإياب جرت في النهر مياه بلا حصر، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي أو السياسي، وكانت نقطة الانطلاق في هذه المتاهة هي حرب الخليج الأولى .
عمل ملحمي
يمكننا أن نصف هذه الرواية بأنها عمل ملحمي رغم أنها لا تتجاوز المائة والثمانين صفحة من القطع المتوسط، يمكننا أيضاً القول انها «تغريبة» مماثلة لبني هلال في القرون الوسطى، لكنها ليست بحثاً عن كلأ ومرعى بل عن وطن، فاليمنيون الذين هاجروا إلى الشمال منذ الصراع بين أنصار الإمام وعلي سالم البيض، جاءت حرب الخليج لتخرجهم من مستوطناتهم، ليعودوا إلى بلد أصبحت معالمه باهتة في عيونهم، وما إن انتهت الحرب حتى أخذوا من جديد في التسلل إلى ما كان بالأمس ممتلكاتهم، لكن القوانين تغيرت، وأصبح على الذين كانوا يتمتعون بالإقامة ـ كأبناء البلد ـ أن يؤهلوا أنفسهم للتعامل كأجانب، فما عادت ألاماكن التي كانوا يملكونها، أماكنهم، ولا أعمالهم صارت تخصهم، وإن بحثوا عن عمل فالصراع بينهم وبين العمالات الأخرى صار على أشده، ولأنهم بلا أوراق هوية / ثبوتية، فالمطاردة هي العنوان الرسمي لحياتهم الآن.
تاريخ نصف قرن
يستعرض أحمد الزين هذا التاريخ الممتد لما يقرب من نصف قرن، عبر عدد من الشخوص، تعد شخصية الجدة هي نقطة الارتكاز الأهم في إعادة بناء هذا العمل، فقد هربت من بلادها حين انقسم الناس الى مؤيدين ومعارضين للثورة، رغم أنها لا تعرف معنى لكلمة ثورة، وفي الشمال حيث مدن المملكة السعودية وجدت الوطن، فقد كان البلد خاليا وتحتاج للكثيرين،، وظلت هي وبيتها الملجأ الذي يأتي إليه اليمنيون المهجرون قبل الحرب، والهاربون من اليمن إلى السعودية من جديد، ومن ثم احتل هذا البيت مقام خشبة المسرح الذي رصدت من خلاله أغلب الأحداث .
كان عبد الله صالح قد اتخذ موقفاً مناهضاً لها، فصدر قرار سعودي بتهجير اليمنيين إلى بلادهم، ولأن هؤلاء الذين هاجروا من بلادهم منذ زمن طويل رفضوا أن يحملوا الجنسية السعودية، تلك التي كثيراً ما عرضت عليهم، فقد جاءت اللحظة التي لم يتوقعوها، لكن إلى أي وطن يمكن أن يهاجروا الآن، فحياتهم وأحداثها وذكرياتها في السعودية، وما اليمن إلا شبح باهت لا يربطهم به غير مسمى في الهوية، لكن الشرطة لا تعرف غير الأوامر الصادرة، وكان على الجميع أن يتفنن في طرق للهروب بكل ما يملك، أو التهرب من التهجير لحين تنتهي الحرب، وهنا تكمن لعبة السرد في التقطيع والتوزيع، وتداخل الماضي بالحاضر عبر الحديث عن المستقبل، هنا تتجلى شخصية الراوي أو البطل الحقيقي للأحداث، إنه شائف، وهو مسمى ملغز في لحظة أكثر إلغازاً وتشابكاً .
دلالات الاسماء
وللأسماء في هذا العمل دلالاتها الواضحة، فشائف لا يرى غير الماضي المتداخل والمستقبل المجهول، وقبول انتهكت جسدياً على الحدود في رحلة تهريبها، وظلت ما بين الخجل في الحديث عما حدث وبين الاستمتاع به، وسالم يرى أبناء وطنه بلا عمل ولا مأوى ولا يستطيع سوى أن ينفذ الأوامر الصادرة اليه في تشغيل غيرهم، والجدة وأمها المريضة نوع من الـتأصيل والتأريخ لسنوات لم تكن فيها حدود وفواصل وهويات وأوراق، وكثير من الشخصيات تجيء بلا اسم، وكثير من الأسماء بلا حضور، ولا يجيء ذكرها إلا لإثبات فاجعة وتعيين وضع صعب . فهل يمكن القول ان هذه الرواية معارضة حقيقية لموسم الهجرة إلى الشمال، لأنها ترصد ما يمكن تسميته بموسم الترحيل إلى الجنوب، أم أنها «لعبة حجلة» جديدة أرادها أحمد الزين، عاكساً من خلالها ما أصاب العالم العربي من تفتت وانكسار وتغريب في وطنه بعد حرب الخليج وحول العالم إلى نظام القطب الواحد، الكثير من التساؤلات التي تطرحها علينا، وكأننا لسنا أمام عمل فني بقدر ما نحن أمام الواقع بكل تشابكاته وتعقيداته وانعدام القدرة على فهمه.