لا أحد يستطيع تجاهل تأريخ مدينة "x" ،بل أن معالمها الرئيسية وجدت في مخطوط يعود تاريخه لعام 1512 . ومنذ ذلك التاريخ حافظت هذه المدينة المطلة على نهر دجلة، على وتيرة حياتها، المملة في كثيرٍ من تفاصيلها ، فما زال اهلها يتوارثون الكثير من العادات، التي اكتسبتها مدينتهم ، في أعراسهم، ومآتمهم ، وفي أبسط أمورهم الحياتية.ومما يغلب على هذه المدينة الصغيرة ، أنها لا ترحب بالغرباء والدخلاء عليها. حتى انهم يتمسكون بتقليد عدم الزواج للاخرين من غير مدينة x.
هذا الامر أدى الى تزايد عدد الزيجات في البيت الواحد . هذه الملاحظات وجدت ايضا في المخطوط الذي تحدثنا عنه ، لكن أحدا لم يهتم بها باعتبارها من الامور المسلَّمة والبديهية.
غير أن "داود باشا" اختلف عن ابناء مدينته، وكاد يتميز عنهم ، فقد حاول في كثير من المرات ان يحصل على نسخة من هذه المخطوطة لكن مسعاه يبوء دائما بالفشل، اصراره على اقتناء نسخة من تاريخ مدينته، ولو بطرق غير شرعية ، أدى الى عزله عن مشايخ المدينة ، الذين داخلهم الفزع و الرعب، من تصرفات "داود باشا" غير المفهومة لهم.
ينحدر داود باشا من اسرة عريقة تنتمي بجذورها للوالي داود باشا الذي حكم العراق عام 1816-1830، الأمر الذي جعله معتدا بهذا النسب الشريف، ويتصرف وكانه الوريث الشرعي لمدينة " x" فهو كثير الحضور في مجالس القضاء ، وله القدرة على فض جميع النزاعات التي تحدث بين ابناء مدينته، ساهم في تشيد الجوامع والمدارس في المدينة، واستخدم نفوذه الواسع في الدولة لانشاء جسر x، الذي يربط بين ضفتي المدينة، وبذل كل وسعه لانشاء مكتبة x الضخمة في المدينة، والتي تعد ابرز ملامحها لمعماريتها الهندسية، وجلب لها انواع الكتب والمخطوطات من مختلف اصقاع المعمورة. وساعد ابناء مدينته في التطوع في سلك الجيش والشرطة .
صفاته بحب الخير ومشاغله بهموم الناس ورثها من جده الاعلى داود باشا كما تقول عائلته. ولعه بالمخطوطات والتاريخ القديم هو الذي دفعه لاكتشاف مخطوطة" انساب المدينة المدورة" التي تحدثنا عنها انفاً والتي تعود لعام 1512 عن طريق الشيخ" خازن الكرجي" امام جامع الداودية، قبل وفاته بايام قلائل، قيل انه وجد مقتولا في منزله، الذي يقع في الجانب الاخر من المدينة. وبلهجة واثقة قال الكرجي لداود باشا:
- في هذه المخطوطة ستجد تاريخ الرجال الذين مروا في هذه المدينة ، وانسابهم ، وستعرف من هو الحقيقي ومن هو المزيف؟. فمدينتنا مثل النساء ليس لها سر ولا وعاء ، لا احد يعرف ذلك سوى جدك الاعلى رحمه الله" داود باشا" الذي حفظ المخطوطة وصانها درءا للفتنة.
وحينما سأله عن المخطوطة الموجودة في المكتبة الوطنية:
لم يتردد الخازن الكرجي باخباره : انها مزورة كتبها مجلس شيوخ المدينة.
- كل شئ فيها مزور، حتى عادتنا التي توارثناها ، ونساؤنا، ايضا كانت مزورة،وطباعنا..تصور هي ايضاً مزورة، كتبها احدهم وخدعنا كل تلك السنين، الذين مروا على هذه الارض ليس ابناؤها والذين ماتوا ليس منا ونحن ليس منهم. منذ 1512 ونحن نأكل كذبتنا، و نصدق حضارتنا المزيفة .في الواقع نحن لاشيء، أقرب الى الاكذوبة. اي شعور ينتابك وانت ترى الانهيار، اليس طعمه مراً هذا الذي اصفه لك.
- اذن ستبقى مصانة. قال داوود باشا قبل ان يهم بالخروج من منزل الكرجي .
بعدها بثلاثة ايام، شيعت مدينة"x" شيخ الداودية، خازن الكرجي الكبير والذي يعود نسبه كما هو مدون في شهادة وفاته الى الإمام العالم الحافظ أبو أحمد محمد بن علي بن محمد الكرجي القصاب ، سمي بالقصاب لكثرة من قتلوا على يديه اثناء غزواته الشريفة ، تلقى خازن الكرجي تعليمه،في مدينة x، وتدرج في منازل العلم حتى اصبح خطيب مسجد الداودية ،وهو اكبر مساجد المدينة، واكثرها اهمية على الاطلاق، فإمامة المسجد تعني بشكل غير مباشر، مفتي الديار الرسمية، ومن خلال منصبه الديني والافتائي في المدينة، استطاع خازن الكرجي، الاطلاع على مخطوطة انساب المدينة المدورة، ومعرفة تفاصيلها.آنذاك أودعها لدى مجلس شيوخ مدينة x بشرط عدم الإطلاع عليها من قبل أي كائن في المدينة، وتم ختمها بالشمع الاحمر، امام مجلس الشيوخ، وحفظت في مكان لايعلمه خازن الكرجي . حدث هذا اثناء سفر داود باشا لحج بيت الله الحرام ، وكتم مجلس الشيوخ أمر المخطوطة عنه، وطلبوا من الخازن عدم اخباره بقصتها.
علم اذن داود باشا بالامر، وظل القلق يساوره في تلك الليلة، الخوف ايضا كان هاجسا يسيطر على داود باشا:
- يا ترى من اطلع على هذه المخطوطة، كم نفر من اهالي المدينة علم بامرها. كان يحدث نفسه باستمرار حول انساب المدينة المدورة.
عدم معرفته بهذه التفاصيل هو الذي جعله منعزلا وتصرفاته تبدو غريبة كما لاحظها اعيان المدينة، وبالاخص مجلس شيوخها.
- لكن الامور سوف لن تستمر هكذا ، ولن تبقى بهذا الشكل المعقد، ولابد ان تختفي اساطير الانساب المزورة؟. كان يحدث نفسه.
تحول هدف داود باشا في ايامه الاخيرة لزعزعة صورة المخطوطة لدى مجلس الشيوخ، وقرر مفاتحتهم بامر المخطوطة المزورة. ولعله طلب مشورة مدير الشرطة في المدينة. وبلهجة لاتخلو من تهديد مبطن:
-انتم تعرفون ان مدينتنا المدورة حرسها الله تعالى ولدت من رحم المعاناة ،وقد حافظنا على تقاليدنا. تلك التقاليد التي ورثناها من ابائنا عبر مئات السنين. واليوم لن نسمح لاي كائن ان يستمر في الاساءة لمدينة x. وبصوت اكثر حدة:
ولا حتى لمجلس شيوخها
كان حديثه بمثابة الصدمة التي نزلت على رؤوس مجلس الشيوخ، لكنهم في ظل تواجد رئيس الشرطة ومدير الامن ادركوا انهم لم ينجوا من مصيبة ما، او كارثة ستحل بهم،
ومثلما توقع الاعيان تماما، فبعد ثلاثة ايام، تم انتخاب مجلس جديد للشيوخ،يدير شؤون المدينة، بدل المجلس السابق الذي لقى حتفه، في حادث سير مروع على الطريق الخارجي.
لكن عمليات الموت المفاجئ استمرت في المدينة، لا احد يعرف الاسباب .بعد شهر ماتا مدير الشرطة ومدير الامن ، الاول مات بالسكري والثاني بجلطة قلبية حسب التقرير الطبي الصادر من مستشفى x . بعدها بثلاثة ايام عثر على جثة مدير المستشفى منتحراً في عيادته. ثم عثر على جثة مجهولة قيل انها تعود لاستاذ مادة التاريخ في مدرسة الداوودية للبنين ، بعض الطلبة، قال انه كان يتكلم كثيرا عن الانساب. لكن بمرور الوقت انخفضت نسبة الوفيات في المدينة. مثلما اختفت الآثار التي تتحدث عن وجود مخطوطة بهذا المعنى، وبعد عام من هذه الحوادث ظهر دليل المخطوطات في مدينة x لكنه لم يحتوي على ذكر "مخطوطة انساب المدينة المدورة" ومنذ ذلك الحين لم تذكر تلك المخطوطة على السن العامة والخاصة.
عودة اخيرة لمدينة x بعد الاحتلال :
لم تحتفظ مدينة x بطابعها التقليدي، بعد الاحتلال الكوني ، بل اصبحت مدينة سياحية يرتادها السواح من جميع دول العالم، من امريكا واستراليا،وبريطانيا، وفيلندا .من اقصى المعمورة لاقصاها.ابوابها فتحت على مصراعيها. اكتشفت المدينة انها عارية عن كل شئ، كل شئ تقريباً، من الثياب حتى وسائل الاتصالات.
اكتشف اهالي xان هناك وسائل اتصالات حديثة وان العالم من حولهم يبدو قرية صغيرة . لمسوا هذا المعنى وادركو ان القرية الصغيرة التي يسمعون بها باتت بين ايديهم.تم افتتاح مطعم للاكلات العالمية المشهورة ماكدونالدز، وشاهد اهالي x لاول مرة شركات شوفر، و أودي ،وفولكسوجن، تدخل مدينتهم وهي تتسابق لمنحهم المنتجات وبالاقساط.عرف اهالي المدينة شركات النقل السريع DHL. وشركات النقل الجوي التي تركت ابلغ الأثر لدى الكبار والصغار في المدينة على أثر بناء أول مطار،اتسعت الحركة التجارية والعمرانية فيها .ارتفعت البنايات الشاهقة، وامتلاءت جيوب اهالي x بالنقود والعملات الاجنبية، تحول الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمدينة. واصبحت اسماء جديدة وشخصيات تحتل واجهة مدينة x بيوتات جديدة صارت لها السطوة في المدينة، وانزوت اسر اخرى في حالة النسيان او الهروب من المدينة. الا أن داوود باشا ظل الشخصية القوية والمتفردة والساحرة في هذه المدينة. والرقم الذي لا يمكن لاي جهة التغافل عنه .بل العكس فجميع الغرباء حاولوا كسب وده والتقرب اليه. ومرة اخرى استطاع داود باشا ان يمد نفوذه في مدينته وان يحافظ على على اسرار مدينته التي ورثها من اسلافه.
الجمعة سبتمبر 17, 2010 6:34 pm من طرف وصال