البنت التي لونت خديها يوما
الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد
الطفولة الساذجة والنهاية
المفجعة
مهدي محمد علي
النهاية
الفاجعة.. المفاجئة والمبكرة التي أنهت حياة الشاعرة الإيرانية المختلفة
(فروغ فرخ زاد) لم تكن مفاجئة ولا مبكرة، إذ أن أشعارها ومنذ بدايتها، كانت
تنبئ وتوحي وتهيئ كل من قرأها ويقرأها لمثل ما انتهت به حياتها، وفي الوقت
شبه المعلوم ويكاد ذلك أن يكون معلوما لديها، الى درجة أننا نقرأ سطورا في
واحدة من رسائلها الى صديقها القاص الإيراني (ابراهيم كلستاني) تقول فيها:
"سعيدة أنا، لأن شعري صار ابيض وجبيني تغضن وانعقدت بين حاجبي تجعيدتان
كبيرتان رسختا على بشرتي سعادتي هي أني لم اعد حالمة. قريبا سأبلغ الثانية
والثلاثين، صحيح أن أل 32 عاما هي حياتي التي تركتها خلفي وأتممتها، لكن ما
يشفع لي هو أنني وجدت فيها نفسي".. إذن فهي تنبأت، بل وكأنها قررت أن
حياتها لن تزيد على هذا الرقم، وبالفعل فقد انتحرت أو هو "حادث سير" في
السابع من مارس (آذار) 1967، وهي المولودة عام 1935.
نتذكر الشاعرة،
هنا، معتمدين أول كتاب صدر لها باللغة العربية، عن (اتحاد الكتاب العرب في
دمشق) بترجمة وإعداد: ناطق عزيز وأحمد عبد الحسين.. فمنذ موتها حتى صدور
هذا الكتاب لم نقرأ لها سوى ترجمات متناثرة هنا وهناك، لذا فقد جاء كتابها
(عمدني بنبيذ الأمواج) الصادر ليسد الفراغ الذي نشأ انتظارا لصدور هذه
المجموعة الطيبة من أشعارها المميزة، وبحجم يشبع الانتظار الذي طال، وهو
123 صفحة، تضم اختيارات واسعة من أشعارها وبترجمة موفقة الى حد معقول.
إن أشعار (فروغ) تقع في برزخها الخاص.. تقع بين دنى الطفولة البريئة
الساذجة البسيطة الوضاءة ودنى الحاضر الواعي الملغوم بالأوجاع والشرور
والتشوه.. وما دامت الطفولة، بكل أوصافها، لم تعد مقدورا عليها في السلوك
الحاضر الناضج، فإن الممكن إزاءها هو الاستغراق في التذكر لمواجهة القسوة
الحاضرة الشاخصة، فإن لم يدم هذا الاستغراق، فإن أمام الشاعرة مزية
الاستغراق في الطبيعة، تمرر من خلالها شحنات روحها المتأزمة، بحثا عن
التوازن المستحيل.. فلقد وجدت الشاعرة (فروغ) نفسها أو اكتشفت نفسها فجأة
بعد زواجها المبكر.. وجدت روحها محاصرة بالأوجاع والشرور والتشوه، فكان
طلاقها وكانت رحلتها المحمومة والخطرة على برزخ البراءة الماضية/ القسوة
الحاضرة.
إن مجرد استعراض عناوين دواوينها أو أفلامها القصيرة يمكن أن يعطي فكرة
عن عالمها المتوتر المتراكم بين الوجع والتأمل والحنين: (أسير ـ حائط ـ
عصيان ـ نار ما ـ البيت الأسود).. إن فروغ ـ وكما يقول الناقد الإيراني
(عبد العلي دستغيب) ـ "دائما تفرش ذكريات الطفولة أمام عينيها على خط مليء
بالهيجان، قلقة إزاء لحظة الحاضر وخائفة من الغد المجهول الذي يجبرها على
اللجوء الى ذكريات الطفولة".
* ذهبت تلك الأيام
أيام الانجذاب والحيرة
أيام
النوم والصحو
أيام كل ظل له سر
وكل علبة مغلقة تخفي كنزا
وكل
زاوية من الصندوق في سكوت
الظهيرة، كأنها العالم.
وكل من لا يخاف من
الظلمة
كان في عيني هو البطل
أجل، فلقد اخترقت تلك الأيام، وانعزلت النفوس وجاءت الأوجاع وعم التشوه:
*باحة بيتنا منعزلة
الأب يقول: "فات أواني
فات
أواني
لقد حملت أوزاري
وأتممت عملي"
* أما الأم فهي:
مذنبة بالفطرة.
كل يوم
تقرأ الدعاء
وتعزم على كل الأزهار
وتعزم على كل الأسماك
وتعزم على
نفسها
الأم في انتظار (يوم الظهور)
وحلول المغفرة.
إما الأخ فهو "يسمي الحديقة مقبرة" و"يسخر من شغب الحشائش" وهو يرى أن
شفاء الحديقة في إزالتها.. إما الأخت التي كانت صديقة الزهور، فهي اليوم في
"داخل بيتها الاصطناعي/ مع أسماكها الاصطناعية/ وفي حماية زوجها
الاصطناعي/ وتحت أغصان أشجار تفاحها الاصطناعية. تغني أغاني اصطناعية. وتضع
أطفالا طبيعيين"!
إن (فروغ) ترسم وحشة الحاضر وأساه، من فقدان الطفولة وعذوبتها. وهي
تستعير الحديقة المهملة المنسية والمستباحة للطفولة الغاربة دون رجعة أو
أمل بالرجوع إلا في قلبها.. هي التي تعتقد "إن من الممكن اخذ الحديقة الى
المستشفى" لأن "قلب الحديقة تورم تحت الشمس/ قلب الحديقة ينزف، بهدوء،
ذكريات خضراء".
وفي قصيدة أخرى تلخص الشاعرة الماضي والحاضر في قولها بأن:
*البنت التي لونت خديها يوما
بأوراق
الشمعدان
هي الآن امرأة وحيدة!
لقد صار شعورها بالوحدة والوحشة يلازمها، بل هو يتضخم في ذاتها كلما
استعادت صور طفولتها الموغلة في البعد، وكلما شعرت بقسوة المحيط، ابتداء من
تجربة زواجها الفاشلة، حتى فشلها في الانسجام مع كل ما تحبه في الناس وفي
الطبيعة، بسبب الأوجاع والقسوة والتشوه، ففي قصيدة عنوانها (زوج):
*يأتي الليل
ومن بعد الليل ظلام
ومن بعد
الظلام عينان
يدان،
وأنفاس
وأنفاس
وأنفاس
وصوت الماء
المنسكب ـ قطرة قطرة ـ من الصنبور
بعد قطرتي دم
من سيجارتين مشتعلتين
تكتكات ساعة
وقلبان
وعزلتان
إن العودة التذكرية للطفولة لم تكن حلا كافيا لأزمتها الدائمة التي
سببها هو الحاضر المليء بالتشوه، فكانت تلجأ الى سمو آخر غير سمو الطفولة،
فكان لها أن تجول في الطبيعة وتخترق جزئياتها القادرة على احتضانها
وحمايتها من قسوة ما آلت إليه وما آلت إليه الحياة بمعناه الفردي
والجماعي.. تلجأ الى دراما الطبيعة حتى ولو كانت تنطوي على حزن أو فجيعة،
فهي ارحم من قسوة الحياة المباشرة:
*في السماء الملول
نجمة تحترق
نجمة تذهب
نجمة
تموت
إن هذا يعني أن (فروغ) الشاعرة تمهد لغيابها عن هذه الحياة، هذا الغياب
المبكر والمؤكد.. تمهد لذلك بمظاهر الطبيعة الخالدة، وهي تنطفئ أو توشك،
كأنها تريد أن تقنع نفسها بالمصير الذي لا بد منه، فتلتحم بأسمى الأشياء
وأكثرها جمالا وقدسية، وهي كذلك عرضة للفناء، فيكون ذلك شفاء للحظتها..
لحظاتها قبل الرحيل أو قبيل الرحيل.
منذ وعيها لحالتها هذه، وحتى لحظة انتحارها، لم تستسلم (فروغ فرخ زاد)
للعدمية، رغم الوجع الذي صار أغنيتها الدائمة، ولكنها أغنية لها مساحات
واسعة وعميقة من دنى الطفولة ودنى الأشياء السامية: السماء والنجوم
والأفكار ذات النقاء النادر.. تلك التي كانت تلجأ إليها من اجل التوازن، لا
بل من اجل أن تثبت لنفسها، قبل اي احد آخر، بأنها محبة للحياة ومتشبثة
بها، فهي لا تلجأ للتغني بالطفولة التي توغل في البعد ولا للتلاحم مع
الأشياء السامية والسماوية من اجل أن تنسى الناس والحياة، بل هي تنحو هذا
المنحى لتؤكد حبها للناس والحياة:
*أبدا ما تمنيت أن أكون نجمة في سراب السماء
ولا
شبيهة بأرواح المصطفين
أو جليسة للملائكة..
أبدا.. لم أكن منفصلة عن
الأرض
لم أتعرف إلى النجمة.
على التراب وقفت
بقامتي مثل ساق
نبتة
تمتص الهواء والشمس والماء
لتحيا.
بل هي تخاطب من يعطف عليها:
*إذا ما جئت الى بيتي
أيها العطوف
فهات
مصباحا ونافذة
لأرى ازدحام الزقاق السعيد.
أنها مشدودة الى الناس والحياة، ولكنها غير قادرة على تحمل هذا الكم
الهائل من الأوجاع والقسوة والتشوه التي تتخلل هذه الحياة وهؤلاء الناس،
إنها تعيش حالة من اللاتوازن، هي، في الوقت ذاته، حالة توازنها الخاصة:
مغروسة في الأرض تتغذى بالطفولة، ومستجيرة بالسماء من واقع الفكر الذي آلت
إليه، والنقاء الذي تخاف عليه من الوجع والقسوة والتشوه. إنها مشدودة الى
الثرى والثريا!
الشرق الأوسط
24