هكذا، بدأت مغامرة، أرادها الكاتب أن تسرد بطريقة درامية ومشوّقة أكثر، كُل فصل يمضي في التشويق أكثر، وكلّ فصل يوغل في تفاصيل الموت، في نسج خيوط التعذيب، عن أقبية الداخلية، كيف يُربّى الجلاّدون على الجِلْدِ والجَلَدِ، عن الشرّ حين يخرج من طوره، عن الساديّة والتعذيب.
لمن يكتب الصادق بن مهني؟
للمدن المزدهرة، للشوارع المضاءة والصاخبة، حيث يمتد الجوع واليأس وأكواخ الصفيح والوحل والكوليرا والطاعون والموتى الذين لا يجدون قبوراً لهم.
لمن يكتب الصادق بن مهني؟
لحدث موضوعي في سياق ذاتي، لتشوّه سياسي وإعاقة في استكمال مهام الثورة والاستقلال، لدولة علمانية، حداثية، ديمقراطية، للتوازن الداخلي بين التكوين النفسي وتاريخ الوقائع الخارجية.
لمن يكتب الصادق بن مهني؟
للمشهد المأساوي في عصرنا، للعنف والقتل والاتّهام، للمراقبة والمعاقبة، والسلطة العربية المتجبّرة بين ماضيها وحاضرها، حيث النسيج المأساوي المنفرد بين فضاء السلطة وربقة السجن، حيث يحاول ايقاف الزمن في لحظة هاربة تشبه الإنعاش للذاكرة المعطوبة.
لمن يكتب الصادق بن مهني؟
لمدينة المقاهي والخمّارات والحانات القذرة والتماثيل البرونزية لطوطم الدولة “بورقيبة”، حيث المجتمع يسبح على كراسي عائمة فوق محيط الديكتاتورية، حيث تخاض الحروب وتعقد معاهدات السلم، حيث يصبح الماركسي رأسماليًا، والاشتراكي بورجوازيا، واليساري أصولياً يمينياً. وعن هذه الكراسي كان يؤخذ أُناس إلى السجون والمنافي، ويخرج مساجين يعبرون من هنا، في طريقهم نحو كراسٍ أخرى. كما قال حيدر حيدر.
هذا الكتاب في السّياسة وهو إلى ذلك كتاب في الوجود والمؤانسة وفي نحت الذّات وانعتاقها تدور أحداثه حول حياة سجين سياسي أيّام قمعه واضطهاده بإمرة نظام قاهر متجبِّرٍ أراد أن يقصف أحلامه وهي مل تكن بعد قد أينعت. وهو أيضا سؤال أركيولوجي يحفر في ضمائرنا و جنوننا وآليّات تواجدنا وتعاملنا مع بعضنا البعض أرواحا وأجسادا، سلطة وأهلاً ورفاقًا لحظات شاعرية وأخرى سرديّة، عواطف، عواصف، ذكريات، خواطر شاردة واعترافات تتمازج وتتماسك لصياغة نصّ فريد من معدنٍ خاص؛ لغته تشهد على نشأة جيل أراد أن يكون جيل الحريّات و المساواة وحقوق الناس و الإنسان،بطشت به السلط ورمت به في الزنزانات،ولكنّ التاريخ العنيد أبى إلّا أن يفتح له أبواب الفكر الحرّ والعقل العارف المستنير
فرغم الداء والأعداء، لم تكن –ولن تكون- الغلبة للسّلطان، مهما كانت معامل الملك وطبائع الاستبداد، ذلك بعض من خلاصة هذا الكتاب، كما تمّ تقديم الكتاب.
الصادق بن مهني؛ الأنا النرجسيّة في سيرته:
محاولاً بكل عبثيّة، أن يطمس أناه، وأن يأخذ مسافة من الأحداث، وأن يظهر ضبابية في رصد ملامح أناه النرجسيّة التي ترسم إيطوسها الذّاتي( *) فالأنا الكاتبة والساردة في الكتاب، تقابلها نحن الجماعية بحثا عن التفرّد ورغبة في إظهار الخصائص الإبداعية والفكريّة، تمجيدًا للذات، وتقزيمًا للجماعة، ورغمّ أنّ هذا الأثر لم يسعى ولم يحاول حتى تقزيم الجماعة للأمانة. إلّا أنّه سقط في مأزق تمجيد الذات ولو بشكل غير مقصود.
تقول الباحثة سلوى السعداوي؛ ,,إنّ علاقة الأدب الذاتي أو الشخصي أو كتابات الأنا بكلّ اصنافها وفروعها الأجناسيّة التحتيّة، بالعلوم الإنسانية علاقة ابستيميّة جدليّة.
فلقد تراكمت الكتابات الذاتية منذ الاعترافات الأولى للقدّيس سانت أوغستان إلى اليوم، غربًا وشرقًا. وتطوّرت من المكتوب إلى المدوّن إلى فضاءات التواصل الاجتماعي الافتراضي، واتّسع مجال كتابات الاعتراف والشهادة حقية أو تخييلا منذ أن انفصل الفرد عن الهيمنة الكنيسيّة وآمن بمركزيته في القرن الثامن عشر(*)
الذاكرة المتصدّعة؛ أو هل زادك الحبس عُمرًا فعلاً؟
تقودنا الشهادة دُفعة واحدةّ من الشروط الشكلية إلى مضمون ’’أشياء الماضي،، من شروط إمكانية الوجود إلى القضية الفعلية في كتابة التاريخ، مع الشهادة تفتح دعوى ابستيمولوجية تنطلق من الذاكرة الإخبارية، وتمرُّ بالأرشيف والوثائق، وتنتهي بالبرهان الوثائقي. (10)
بعد طول تأمل، كان سارق الطماطم، تحولًا من سؤال الذات إلى انبثاق المعنى، باعتباره تشكيلًا لسيرة جيل كامل، جيل اليسار التونسي ذائع الصيت، تجربة برسبكتيف التي مازال البعض يعتريهم الحنين لها باعتبار نضجها، استبعاد للحظة التسجيل التي هي لحظة الذاكرة المؤرشفة، هذا الأثر هو شهادة عن السياسة وأحوال وطننا في الماضي، بعيدًا عن الأرشفة الجافّة على حدّ عبارة دريدا.
في النهاية، ما الأرشفة سوى الاستشارة التي يقوم بها المؤرخون في أحد الاستعمالات، عدى عن ممارسة الشهادة في الحياة اليومية وبموازاة ذلك استعمالها القضائي الذي ينتهي بحكم صادر عن محكمة، أضف إلى ذلك، وفي داخل الحلقة التاريخية، فإن الشهادة لا تنهي مسيرتها مع إنشاء الأرشيف (المحفوظات)، بل أنها تنبثق من جديد في نهاية المسار الابستيمولوجي على مستوى تمثيل الماضي في القصة وطُرق البلاغة والتصوير. بل أكثر من ذلك، في بعض الأشكال المعاصرة للإدلاء بالاعتراف والتي أنتجتها الفظائع المرتكبة على مستوى الجماهير في القرن العشرين، تقاوم الشهادة لا التفسير ولا التمثيل فحسب، بل حتى وضعها في الاحتياط الأرشيفي حتى أنها تبقى عمدًا على هامش كتابة التاريخ وتلقي شكاً على صدق قصده. (11)
الأرشفة، تلك العملية الرياضية الخالية من أيّة بعد وجداني، تنقل لك الفضائع والقتل والتنكيل، دون أن ترفّ لها جفن، فهي في النهاية مجرّد حلقة وصل، لا أكثر.. ما فلح فيه الصادق بن مهني؛ ويحسب له ذلك، أنّه استطاع استدراج القارئ الى دائرة الانفعال الذاتي من أجل صياغة تاريخ أخر، أكثر نقاء، أكثر عاطفية، أكثر رومنسية، في تنقّله بين؛ الذاكرة، التاريخ، النسيان. ذلك المحور الذي اشتغل عليه بول ريكور من أجل مأسسة تصوّر أخر أكثر إيغالاً في الحقائق التاريخية. توفيقًا بين السرد والزمان، متجاوزًا النسيان، من الواضح والجليّ أن هذا الكتاب كَتَب عن أحداث حصلت منذ أربعة عقود، قد تكون ذاكرة الصادق بن مهني محمّلة بأثقال كبيرة حتّى انكمشت على نفسها، فالنسيان يطرح كل مشكلة الوضع البشري الذي يعيش تاريخًا عنيفاً، فكيف له أن يتطلّع إلى نهاية سعيدة. النسيان يفترض وجود الإساءة القادمة من الآخر واعتراف الآخر بهذه الإساءة. كما وضّح الأستاذ جورج زيناتي.
ليست الذات بالنسبة لريكور مرادفة للأنا أو العين، بل أن مسلك الوصول إلى الذات يمر بمسارات والتواءات عديدة ومتنوعة، يؤدي فيها الغير دورا محوريا (الوجه المقابل والهيكل الجماعي). يتعلق الأمر هنا بمسارات القدرة الانسانية؛ أي مجموع ما يمكن أن يفعله الإنسان بصفته ذاتا نشطة، وهي قدرات تتركز في كفاءات أربع هي: الخطاب والممارسة والسرد والمسؤولية الأخلاقية(12)؛ ولكن مذا إن كانت الذات الأخرى قد وجّهت صفعة مدوية إلى الكاتب، بين الهويّة السرديّة والذاكرة الحيّة، يعنّ لنا ونحن نقرئ سارق الطماطم، أن نجد معارضة النظام وعلى رأسه بورقيبة بين التلميح والتصريح واضحًا، وأنّ بورقيبة ديكتاتور ومستبدّ، ونسمع تصريح نور الدين بن خُضر؛ نحن الأبناء الشرعيّون لبورقيبة. كيف نفهم سيرة الصادق بن مهني، ونحن أمام يسار يهلل للطائفين والمستبدين، كيف نفهم سيرة مناضل، ناضل ضدّ الديكتاتورية، في الوقت الذي نجد فيه يساراً يبرر مجازر بشّار الأسد بتعلّة المؤامرة التي تُحاك في دروب التبّانة..
هل كان سارق الطماطم على حقّ، حين اعتبر حقوق الانسان والديمقراطية، ومناهضة التعذيب، الأمر الذي يجعل من اليساري يساريٍ، صفعة أخرى يتلقّاها الصادق بن مهني من القارئ، حين يقول؛ أحببت سجّاني، أحببت بعضهم، أحببت جلّهم، وإذ أحببتهم أحببت الناس جميعًا، أحببتهم أكثر… هل هي فلسفة التسامح يسوقها مغمّسة بين كلمات. أم هو ضعف من المواجهة والثأر والقصاص، نعم التسامح من شيم الشجعان، ولكن كيف تُسامح؟ ربّما كان مخدوعًا مأخوذًا على غفلة من أمره؟ وربّما كان ضعيفًا ومقهورًا، وربّما كان الزمن ملغومًا في نفسه، وربّما أنّه كان يحلم أكثر ممّا ينبغي وهو ما يزال بعد في عصر الشتات.
منذ إعتدادنا بالإرث الأفلاطوني في ما يتعلّق التأريخ، والنبش في حفريّاته، كان سارق الطماطم محاولة جديّة في البحث عن أبجديّات اليسار بمقاربة ثقافية، من زاوية نظره هو، كمناضل في صلب المنظومة.
يا صادق شبحتنا؟
عندما وقف صالح الخميسي ينشد؛ يا بودفّة شبحتنا، لم يكن يعي الرجل بأنّه سيزجّ به السجن، أغنية يا “بودفّة شبحتنا” ترجمة للمهانة والشعور بالألم والظلم، ولكنّها اتسّمت بالفكاهة والعبث والسخرية، لم يفت ذلك الفكاهي صالح الخميسي أحد أعلام تجربة تحت السور، إذ يروي قصته في السجن مع رفيق له في أغنية يا بودفّة شبحتنا. المعنى هو أن السجن دوماً يتربص بالمهمشين والبوهيميين أمثال صالح الخميسي ورفاقه، وقبل الشروع في الغناء، يتكلّم العم صليّح –كما كان يلقّب- عن الحكاية التي أدّت بهِ إلى السجن، حيث أنّه ذهب لمشاهدة مباراة كرة القدم، وببساطة أهالي الجنوب، ظنّ أن الأكل بالمجّان ويشمل سعر تذكرة مشاهدة المباراة كما أعلمه أحدهم، إلى أن وجد نفسه في السجن.
يا بودفّة، أو يا بو فردة، هي كناياة عن السجن تفنّن المخيال الشعبي التونسي في تصوير ألفاظ أقل وطأة وقسوة في ذهنيّة المتقبّل؛ أغنية شغف بها التونسيون آنذاك، شغفا يعبر عن توجسهم بما ستكون وعود الإستقلال.
في النهاية الصادق بن مهنّي مثلهم، ظنّ أن المطالبة بالحريّة، وبوضع أكثر إنسانية، هي أشياء مجانية، وهي من إمتيازات العيش في تونس، فوجد نفسه في السجن، جيل ما بعد الإستقلال، الذي كان يظنّ أن الحريّة بالمجّان.
سارق الطماطم، هو تذكرة موت دوريّة، هو تعب السنين، هو تفاهة راكدة في ذواتنا، خطيئة رومنسية جنيناها على أنفسنا، واقعية مؤلمة أكثر من الواقع، دوّامة يسردها علينا، نشارك في تمثيلها رفقة رجال الدين والبوليس السياسي، طاعون ينخر سرطانه جسدنا كل يوم، وصيّة لنا؛ بأنّ من سقط قد خان.
هو لحظة بين شفا حفرة من نار والخطيئة وعلو الغفران الذي يسمع نشيد الحب الآتي من بعيد فيؤمن بأن في أعمق أعماق الإنسان ميلاً لا ينزع إلى الخير، وأن ليس هناك من خاتمة سعيدة إلا بوجود ذاكرة سعيدة قادرة أن تتذكر وأن تنسى و.. تسامح. كما قال ريكور. ولكنّك، ” أحببت سجّاني، أحببت بعضهم، أحببت جلّهم، وإذ أحببتهم أحببت الناس جميعًا، أحببتهم أكثر”