متخليًا عن هدوء الأكاديمى ورصانة المفكر ألقى الدكتور نصار عبد الله، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بجامعة سوهاج، حجرًا في بركة المنظمات الحقوقية حين كتب مقالًا تحت عنوان «أطفال الشوارع.. الحل البرازيلي» فهم منه البعض أن أستاذ الفلسفة يدعو إلى التخلص من ظاهرة أطفال الشوارع بقتلهم وإبادتهم كما حدث في البرازيل.نصار دعا خلال مقاله الذي نشر يوم الجمعة الموافق 2 يونيو في جريدة «المصرى اليوم»، إلى تطبيق الحل البرازيلى في التخلص من ظاهرة أطفال الشوارع، وتمثل الحل وفقًا للطريقة البرازيلية في إطلاق الشرطة البرازيلية حملة موسعة لقتل آلاف الأطفال المقيمين في الشوارع، مشيرًا في مقاله إلى أنه تم تطبيق هذا الحل وسط صمت كل القوى السياسية والإعلامية، وحتى منظمات حقوق الإنسان؛ نظرا لأنهم جميعًا يعلمون ما تشكله ظاهرة أطفال الشوارع - حسب وصفه - من خطورة.وأضاف نصار في مقاله، أن السلطة القضائية - رغم بحور الدم - لم تقدم شرطيًا واحدًا للمحاكمة، مشيرًا إلى أنه بهذه الطريقة انتهت مشكلة أطفال الشوارع.وأكد نصار خلال مقاله أن البرازيل تحولت بعد حملة قتل أطفال الشوارع التي شنتها قوات الشرطة إلى دولة متقدمة، وقضت على الظاهرة بسبب توافر إرادة الإصلاح لدى قيادتها ورغبتهم في إيجاد حلول لمشكلاتها المزمنة.وأشار نصار إلى أن هذا هو الدرس الذي لابد أن تعيه كل القيادات وكل من يحاول أن يتعلم شيئًا ما من التجربة البرازيلية.وأثار هذا المقال حالة من الجدل واسعة النطاق، ورأى البعض أن المقال تحريضى يثير الفتنة ويعمل على نشر الكراهية والقتل في المجتمع.. فيما استنكر العديد من النشطاء والحقوقيين والمفكرين هذا المقال، وقالوا إنه فكرة شاذة خارجة عن نطاق الصواب الفكرى.وأكد الحقوقيون أنه بدلا من الدعوة لقتل أطفال الشوارع، كان لا بد أن يتكاتف الجميع سويًا لمعالجة هذه القضية؛ نظرًا لأن فكرة قتل هؤلاء الأطفال يمنعها الدين ويرفضها المجتمع في الوقت نفسه.وأمام الحملة الشرسة اضطر موقع «المصرى اليوم» لحذف المقال، كما قام الكاتب بكتابة مقال آخر يصحح فيه وجهة نظره ويؤكد أن مقاله لم يدعُ لقتل أطفال الشوارع.ودافع «نصار» عن مقاله «الحل البرازيلي» خلال مقاله التصحيحى الذي نشر في الجريدة نفسها وقال إنه «فُهم خطأ، والبعض حاول المزايدة عليّ»، وأوضح أنه لم يقصد من مقالته أن تتخذ الدولة إجراءات لإبادة أطفال الشوارع.وقال نصار إنه شرح في مقاله الأول الجانب الإيجابى في التجربة البرازيلية والمتمثل في الرؤية الواضحة والحسم واتخاذ القرار، والقسوة في محاربة الفساد، والذي طالب بأن يتعلمه متخذو القرار في مصر وفيما يلى نص المقال الأزمة:اقتلوا أطفال الشوارععلى مدى عقود متوالية كان أطفال الشوارع مصدرًا للإزعاج لسكان مدينة برازيليا ولغيرها من المدن البرازيلية الكبرى، وفى التسعينيات من القرن الماضى تحول مصدر الإزعاج إلى مصدر للرعب، فقد تزايد عدد أطفال الشوارع تزايدا كبيرًا، وتزايدت بالتالى معدلات الجرائم التي يرتكبونها وفى مقدمتها جرائم السرقة والدعارة والاغتصاب التي يترتب عليها في معظم الحالات إصابة الضحية بالإيدز الذي أصبح متفشيًا بينهم بنسبة تتجاوز الـ90%.وباختصار فإن وضع برازيليا في تسعينيات القرن الماضى كان شبيها بوضع القاهرة الآن، بل إن التشابه في حقيقة الأمر كان أكثر بكثير من ذلك، حيث كان الوضع الاقتصادى البرازيلى في مجمله شبيهًا بالوضع المصرى الراهن، فالديون الخارجية للبرازيل كانت قد وصلت إلى أرقام قياسية، ومعدلات البطالة تتصاعد عامًا بعد عام، والفساد متغلغل في كل أنحاء الجهاز الحكومى، والأصوات المنادية بتأهيل أطفال الشوارع وإعادة إدماجهم في المجتمع يعلم أصحابها جيدًا أن مثل هذه العملية عالية التكلفة إذا ما قورنت بتكلفة إتاحة فرص العمل للعاطلين من غير أبناء الشوارع، فضلا عن أنها غير مضمونة النتائج! ومن ثم فإن الذي ينبغى أن تركز عليه الدولة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة هو إتاحة فرص العمل للعاطلين حتى لا ينضم أطفالهم إلى جيش أطفال الشوارع!! ونتيجة لهذه الاعتبارات فقد لجأت أجهزة الأمن البرازيلية في ذلك الوقت إلى حل بالغ القسوة والفظاعة لمواجهة ظاهرة أطفال الشوارع يتمثل في شن حملات موسعة للاصطياد والتطهير تم من خلالها إعدام الآلاف منهم بنفس الطريقة التي يجرى بها إعدام الكلاب الضالة وقايةً من الأخطار والأضرار المتوقعة منها!!
كانت سائر قوى المجتمع البرازيلى تدرك أن ما قامت به الشرطة هو جريمة مكتملة الأركان، وأن هؤلاء الأطفال هم في حقيقة الأمر ضحايا لا جناة، وأن من البشاعة بمكان أن يعدموا بناءً على جرائم لم يرتكبوها، كان الجميع يدركون ذلك، لكنهم ـ جميعهم تقريباـ غضوا أنظارهم عما قامت به الشرطة لأنهم جميعهم لهم مصلحة فيما قامت به!! القيادة السياسية لم تعلن رسميًا أنها تؤيد ما قامت به الشرطة، لكنها لم تحاول أن تقدم مسئولا أمنيًا واحدًا إلى المحاكمة، لأنها تعلم أن البديل لإعدام أطفال الشوارع هو إعادة تأهيلهم وهو ما يستلزم ميزانية ضخمة سوف تكون بالضرورة على حساب توفير فرص العمل للمواطنين الذين فقدوا وظائفهم، وهو ما يهدد خطتها للإصلاح الاقتصادى بالكامل، وعلى حساب كذلك المواطنين العاديين، حتى أولئك الذين يستنكرون ظاهريًا حملات الإعدام ـ
يشعرون في قرارة نفوسهم بمدى جدية برنامج الحكومة للإصلاح، ويشعرون بالارتياح لاختفاء أطفال الشوارع من طرقات المدن الرئيسية التي أصبح بوسعهم الآن أن يخرجوا إليها هم وأولادهم وبناتهم دون خوف!! ووسائل الإعلام التي راح بعضها يندد بالحملات لا تفتأ تذكر المواطنين في الوقت ذاته بالروح العدوانية لأطفال الشوارع وبالجرائم التي ارتكبوها والتي سيرتكبون المزيد منها بغير شك لو أنهم تركوا وشأنهم!! أما جمعيات حقوق الإنسان التي دافعت دفاعًا مستميتًا عن حق أطفال الشوارع في الحياة فقد اتهمها الكثيرون بأنها تكيل بمكيالين وأنها لا تراعى حقوق المواطنين العاديين في الحياة الآمنة!!
وهكذا أفلح الحل البرازيلى في تخليص الشوارع الرئيسية للمدن الكبرى من أطفال الشوارع ودفع من تبقى منهم إلى الانسحاب للمناطق العشوائية، غير أن هذا النجاح لا يعزى إلى القسوة التي انطوى عليها الخيار البرازيلى، ولكنه يعزى أولا وقبل كل شىء إلى توافر إرادة الإصلاح لدى القيادة السياسية البرازيلية التي حاربت الفساد بكل قوة والتي وفرت الملايين من فرص العمل للبرازيليين، واستطاعت من ثم أن تتحول من اقتصاد موشك على الإفلاس إلى واحدة من أهم قوى نظم الاقتصاد العالمى، وهذا هو الدرس الذي ينبغى أن يعيه كل من يحاول أن يتعلم شيئًا ما من التجربة البرازيلية.
c.v
● ولد في البدارى بمحافظة أسيوط في 24 ديسمبر 1945، هو أستاذ جامعى وشاعر ومترجم مصري، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2009.
● حصل على الثانوية العامة سنة 1962، ثم التحق بكلية العلوم بجامعة أسيوط، وانتقل بعدها إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
● وفى القاهرة أتيحت لنصار عبد الله روافد جديدة للمعرفة، وقنوات ثقافية أكثر اتساعًا، والتقى العديد من الشخصيات الثقافية التي قد قرأ لها أو عنها في مراحل عمره السابقة، وأخذ يتردد على الصالونات والمنتديات الأدبية والثقافية التي كانت تزخر بها القاهرة في تلك الحقبة كصالون العقاد.