قال الفيلسوف الدانمركي سورن
كيركيجور في كتابه " الخوف و القشعريرة":
« الاستسلام اللامتناهي هو المرحلة الأخيرة التي تسبق
الإيمان و من لم يمر بهذه الخطوة لا إيمان له»
كذلك حال المتصوفة و رجال الفكر العميق و أصحاب
الأحاسيس المرهفة تراهم يصلون في المواقف المتعالية إلى درجة الاستسلام
اللانهائي التي قد تعني الذوبان في الموقف، أو المشاركة الوجدانية المطلقة،
أو حتى الفناء في الطرف الآخر.
و الحق أن للقشعريرة طعما خاصا في السياقين الفلسفي
والصوفي. بيد أنها لا ترتبط ضرورة بهذين السياقين فحسب. و تقدم لنا الحياة
ذاتها و باستمرار مواقف تتجلى فيها القشعريرة عيانا، و يمكن إدراكها
بالملموس. و لقد صادفت في مناسبات شتى بعض الذين يقشعرون من عامة الناس،
أولئك البسطاء الذين لا يمارسون فكرا متعاليا أو يلبسون خرقة المتصوفة. من
ذلك لقائي مصادفة أحد المعزين في "باب المقابر بتطوان" أعرب لي عن مدى
تأثره عقب عملية دفن. قال بتأثر باد :
« - انظر إلى جلد ذراعي وقد غدا مثل جلد دجاجة!»
وكان حال جلده كذلك على الرغم من أن المتكلم لم يكن من
أهل الثقافة بمفهومها المخصوص. و في مناسبة أخرى صادفت في شارع شبه خال
أستاذا أعرفه بانغماسه العظيم في عالم الهموم راح يشكو لي ويصوّر بعضا من
لوعات معاناته. و بينما نحن كذلك رأى قطة صغيرة هزيلة الجسم تئن قريبا من
سطل قمامة. و توقف الأستاذ عن الشكوى ثم صب كل اهتمامه على القطة المتألمة .
قال لي:
« - أنا لا أستطيع تحمل هذا الأنين. انظر إلى جلدي.. »
و قد كان جلده بالفعل مقشعرا.
تلك عينات من أحاسيس القشعريرة في مجالي الفلسفة و
الحياة. و من المؤكد أن يكون ثمة فرق في تلقي تلك الأحاسيس في المجالين
المذكورين. في الفلسفة المكتوبة تهيمن برودة الحكمة، و في مواقف الحياة
تسري في الكيان مشاركةٌ وجدانية مفعمة بالحميمية. و أفترض بعد هذا و ذاك
أن يتخذ الإحساس طابعا مغايرا، إلى حد ما، إن هو ورد في سياق إنساني آخر
مثل الرواية. و سندي في هذا الافتراض تلك الصورة التي قرأتها ضمن آخر عمل
صدر للمبدع بهاء طاهر. و يتعلق الأمر برواية "واحة الغروب" التي لم تخل هي
الأخرى من لوحات تأملية استمتعنا بمثيلاتها في روايات سابقة للمؤلف نفسه؛
من قبيل "قالت ضحى"، و "الحب في المنفى"، و خاصة رائعته "نقطة النور". و
سأورد فيما يأتي نص الصورة بكامله على الرغم من طوله حتى يتسنى للقارئ
الكريم التشبع بكل التفاصيل و التأمل في دقائق التعبير. تقول الصورة:
« صاح البدوي بالجنود ألا يسمحوا لإبراهيم بأي حركة
قبل أن يلتقط المسمار من النار بسرعة و يكوي به الموضع الذي اختاره لثوان
ثم موضعا مجاورا له لثوان أخرى وسط صراخ إبراهيم و عويله وقال البدوي بشئ
من الاستغراب:
كل الرجال يبكون و يصرخون !ماذا تساوي هذه النار جنب
نار جهنم؟
لكن هل أحلم أنا؟ هل جننت؟ هناك نار تكوي جلد ساقي في
موضع كي إبراهيم نفسه، ارتجفت و أدرت وجهي واضعا يدي على فمي لكي لا أصرخ
مثله.
كانت رائحة اللحم المحترق تملأ المكان قبل أن يخرج
البدوي من ثيابه قارورة في جراب جلدي صبّ منها سائلا على مكان الكيّ سمعت
له هسهسة متكررة ثم رأيته يكوّن زبدا أبيض فوق موضع الحرق. و سرت لحظتها في
ساقي و في جسدي كله قشعريرة برد و أنا أبذل جهدا لكي أتماسك أمام جنودي.
انتظر البدوي لحظة ممسكا بساق إبراهيم الذي تحولت
صرخاته إلى أنين ألم متصل و عندما جف السائل الذي وضعه بدأ يربط مكان الكي
بضمادة، و كان يرد على سؤال للشيخ صابر قائلا:
لا، لن أحضر مرة أخرى، راشد يعرف ما يجب عمله بعد ذلك
لتنظيف الجرح، و الشاويش سيمشي على رجليه بعد يومين....
ثم أكمل بضحكة عالية: و لكنه سيعرج طوال عمره!
غمغمت: لو لم تقلها !
لكني ظللت واقفا في مكاني، واثقا أني سأعرج لو تحركت.
ظللت يومين أمشي في المركز و المنزل بخطوات بطيئة لكي
لا يلاحظ أحد شيئا، ثم تحسن الألم في ساقي، و بعد هذين اليومين قام إبراهيم
بالفعل من الفراش و بدأ يمشي و هو يعرج على ساقه التي لم ير لها الممرض و
كاثرين حلا سوى البتر»
[1] .
لكي تتحقق عملية التمعن بعمق أكبر لا بد من إيجاز
الحديث عن السياق النصي للصورة. و يتعلق الأمر بمأمور الشرطة محمود عبد
الظاهر الذي سيسافر إلى واحة سيوة جنوب مصر صحبة زوجته الإيرلندية الأصل
كاثرين. سيصادف الزوجان هناك صعوبات جمّة و انشطارات ذاتية ستفضي إلى مصير
مأسوي. و عندما كانت كاثرين في المعبد الفرعوني المحرم عليها من لدن أهالي
سيوة؛ سقطت صخرة و تدحرجت و كادت أن تودي بحياة الصبي محمود بن راشد الممتن
كثيرا للمأمور، لكن الصخرة أصابت ساق الشاويش إبراهيم المخلص لمأموره. و
مرت أيام تعفن بعدها جرح الساق فأوصى الممرض و كاثرين ببتره، لكن المأمور
تشبث بأمل العلاج التقليدي. و تصف الصورة السابقة لحظات تنفيذ العلاج من
قبل حكيم بدوي.
لن تخفى عن القارئ المتأمل في تلك الصورة نية الراوي
في البحث عن أكبر قدر ممكن من الحيل التعبيرية من أجل أن يُبقي المشهد
أمامه أطول مدة ممكنة. ثمة أولا حيلة التناوب على الخطاب بين المعالج
البدوي و الراوي ذاته. و ثمة ثانيا أساليب الاستفهام و التعجب و
الحوار و السخرية اللطيفة. و ثمة ثالثا تعمّد الأسلوب التقريري المباشر
الطاغي بدل المجاز و البديع ، و هو تعمّد مألوف في العلميات التصويرية لدى
بهاء طاهر. و ثمة رابعا كم آخر من أساليب المناجاة، و الوصف المتأني، و
التسلسل في تقديم التفاصيل، و ما إلى ذلك من الحيل التعبيرية التي لا بد
لها أن تطول قائمتها إن نحن قصدنا إلى تسميتها جميعا. و لكن مادام النص
الروائي لا بد له أن يمتدّ، و يتشعب، و يتعقد؛ لزم آنذاك أن تنتهي عملية
البحث عن الحيل إلى غاية. و ليست ثمة غاية أخرى لدى الراوي أكبر من جعل
القارئ يصاب بدوره بعدوى القشعريرة. واضح أن الحيل التعبيرية المشار إليها
إنما قد تعني نقديا الأسلوب التصويري، أو تعني كذلك البلاغة ذاتها. و لكن
مهما اختلفت التسميات تظل هناك عملية تصويرية تقصد إلى العناية بالتفاصيل، و
زوايا النظر و صيغ الأشياء و أشكالها. ومامن شك في أن كل ذلك هو جوهر
مطلق الصور: الصورة الفوتوغرافية، و التمثال، والصورة السينمائية،
والأيقونة، والصورة الإشهارية. بيد أن الصورة الروائية تظل نسيج وحدها بين
كل تلك الأنماط التصويرية. إنها تصبو إلى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من
الحيل التعبيرية استحواذا يتجاوز بمراحل تقديم الصورة في الفلسفة، و
الصورة في القصة القصيرة، و الصورة في السرد التاريخي، و حتى الصورة في
الحياة ذاتها. ويلزم هنا أن ننبه إلى أننا لسنا بصدد المفاضلة بين هذه
الأنماط من الصور و أساليبها، و إنما القصد تبيان المدى الذي يمكن أن يبلغه
كل نمط من أجل التأثير في المتلقي. ولا بد من الإقرار في هذا الصدد بأن
المشاركة الوجدانية في الحياة ذاتها بين كائنين بشريين لا يمكن بتاتا أن
تقارن بتلك المشاركة التي تصبو الرواية إلى تجسيدها بالكلمات المكتوبة على
الورق. و مع ذلك يظل النزوع الروائي من أجل مضاهاة الحياة أو منافستها
مطمحا جميلا يكشف عن جانب من جوانب السمو الفني لدى الروائي.
المأمور محمود عبد الظاهر ليس رجلا شاعريا، ولا حالما،
ولا رومانسيا. إنه خليط من الرقة والصلابة.ولا أدل على ذلك من مواقفه تجاه
أهالي الواحة و تجاه كل من صادفهم في حياته. صحيح أن نواياه تجاه الآخرين
تتسم بالطيبوبة و الدماثة. لكن سلوكه في العمق هو سلوك كائن بشري لا يتميز
بلون مزاجي واحد دون سواه.
في ظني أن "صورة القشعريرة" تجسد أبرز مشهد تتحقق فيه
المشاركة الوجدانية خلال الرواية كلها . صحيح أن رواية "واحة الغروب"
تتحدث عن نساء أحبهن محمود حبا عميقا، و عن شخصيات تعاطف معها عميقا مثلما
تتحدث في صفحتها الأخيرة عن تفاصيل ما قبل موته إثر انفجار الديناميت، لكن
مع ذلك تبقى "صورة القشعريرة" مفعمة بالتفاصيل التصويرية التي تصبو إلى رصد
حالة من الانصهار الإنساني بين كائنين بشريين انصهارا شبه تام. لقد احترق
إبراهيم و احترق محمود مثله، وتألم إبراهيم فاقشعر لألمه محمود، و عرج
إبراهيم و عرج محمود مثله و لو لمدة قصيرة. كذلك قصدت الصورة إلى تحقيق
المشاركة الوجدانية بواسطة القدرة على الإيهام.
لقد أحب محمود كاثرين لكن حبهما فشل و قد توهما ذات
يوم أنه سيظل حباً خالدًا . كما أحب أختها فيونا من دون أن تكون ثمة فسحة
روائية من أجل أن ينتعش ذلك الحب فيونع و يثمر . و قبل كاثرين وفيونا كان
محمود قد أحب العبدة "نعمة" المشتراة من سوق النخاسة التي لم ينسها أبدا و
إن لم يرتبط مصيره بمصيرها. أما ساق إبراهيم المكوية فقد مثلت بالنسبة
إليه تجربة إنسانية حقيقية أبحر على إثرها في دنيا الألم من دون أن يكون
ثمة لا ندم ولا وهم ولا فشل. و لقد عاش المأمور محمود تجربة الكي حقيقة و
ليس وهما . وأبرزت "صورة القشعريرة" عمق تلك التجربة بفضل حشد التفاصيل و
الحيل التعبيرية. و الحق أن العمق الإنساني عندما يتحدى المبدع الروائي
لا يفضل له آنذاك سوى الحيل و المراوغة الفنية.