تعتمد الكتابة في الوسط
الإلكتروني على فرضية أن شبكة الإنترنت "حالة كتابة"، ليس أن صفحات الشبكة
تتضمن كتابة، فحسب، بل إن الصفحات نفسها مكتوبة بلغة توصيف النص المتشعب،
وما يمنحها الحيوية- وبالتالي يجعل المتصفح أكثر تفاعلية- مكتوب أيضا، بلغة
الجافا سكريبت، مجرد أوامر ورموز مادية بمعرفة كيفية اشتغالها، وماذا تصبح
عندما تنشط في وسط إلكتروني، اختلفت فكرة الكتابة الأدبية، فلم تعد محصلة
نهائية لمطاردة وحي غامض، في عزلة وهدوء، بل أصبحت إلهاما متاحا، قريبا قيد
أنملة، وآلية تفكير تتكشف بالتزامن مع العمل.
تمثل تقنية النص المتشعب
إذن شرط وجود، وبقاء، لأي شعر منشور على الإنترنت، غير أن التقنية ذاتها لم
تشمل مادة الكتابة في أكثر ذلك الشعر، ما جعل حضوره على الشبكة يتخذ
أشكالا متعددة، أوسعها انتشارا الشعر الإلكتروني، ويشمل كل أنماط الشعر
المكتوب، والمقصود منه أن يُقرأ في بيئة إلكترونية أولية، يليه الشعر
البصري الذي تندمج فيه العناصر المرئية مع الكلمات لتشكيل القصيدة، ويقاربه
الشعر الصوتي (عناصر مسموعة)، الشعر الحركي (عناصر متحركة)، واجتماع بعض
هذه العناصر ينتج الشعر الإلكتروني متعدد الوسائط.
أما أصعب أشكال الحضور
الإلكتروني للشعر فنجدها في الشعر التشعبي، وهو شكل يستخدم نظام ربط غير
خطي ينقل القاريء من دور المستهلك إلى دور الصانع المشارك في السيطرة على
النص وتوجيهه، وسواء كان الشعر التشعبي بصريا/ صوتيا/ حركيا، أو كان نصيا-
كلمات فحسب- يقتضي هذا الشكل اتخاذ قرارات جمالية كثيرة، تنأى بالقصيدة عن
أن تكون مجموعا متماسكا، يسهل الإمساك بأطرافه، وتحيلها إلى تداخل هجين،
تضاريس ممتدة من عناصر ديناميكية، وأجزاء متناسبة- أو غير متناسبة- تعد
بإمكانات/ قراءات متعددة، وتؤلف استمرارية نصية عبر ما تنسجه ممارسات
الكتابة التفاعلية.
تُستخدم مفردة
"التفاعلية" عربيا لتقييم النصوص المطبوعة التي تتفاعل مع قارئها، مع
اقتصار نمط التفاعل على الانفعال بها، غالبا، أو التعليق عليها بصفتها
منجزات تامة. وتعارضُ هذا الاستخدام مع مصطلح Interactive - المرتبط جذريا
بالوسط الإلكتروني- يستدعي مراجعته، أو تحديد نطاقه المقصود، على الأقل،
حتى توصف النصوص وتُقيّم بما تستحق.
تتحدى التفاعلية "الأنا"
الديكارتي وتبعثره بالكامل، ما يعني أن النص ليس نتاجاً لأنا المؤلف وحده،
وأنه في عملية تعريف مستمرة، يقترح وعيا متعددا، ولا يدافع بسهولة عن حدوده
الممتدة صوب اللانهاية. يوجد النص التفاعلي في وسط إلكتروني، ولا يمكن أن
يوجد في غير هذا الوسط، يوجد حين يُعرض، في التوّ كالعرض المسرحي أو
الموسيقي، وطرقه للعرض هي طرقه للوجود، لذلك تصبح "الملاحة" في صفحات
الإنترنت- بصفتها مقابلا لقراءة المطبوع- غاية لذاتها، أكثر من كونها وسيلة
لغاية.
وتنطلق جاذبيتها من تلك
الإمكانات البديلة والحقائق المباغتة التي توفرها وصلات النص المتشعب، من
أجل تلبية الاهتمامات الفورية للمتصفح، كأن "يُعدّل" النص، يبحث عن خلفية
مؤلفه، يستوثق من معلوماته، يستعرض أجزاءً مختلفة منه بشكل متزامن، أو
يقارنه بنصوص أخرى، وهكذا.. تفككت سلطة النص وبالتالي قداسته المستمدة من
كونه "نصاً" فحسب، لم يعد الاتصال به فعلا من خارجه، بل فعلا فيه ومعه.
يدعونا هذا للتساؤل عن
الشعر العربي، ألا يمثل النص التشعبي ثغرة ممكنة في الحائط الذي يقف الآن
بإزائه؟ لماذا تأخر إنتاج شعرنا تشعبيا؟! إذا استثنينا الأسباب من خارج
الشعر، مثل قلة النصوص المتخصصة بالعربية، ونقص الإمكانات التقنية لبرامج
المؤسسات الأدبية، فلا مفر من الاستناد إلى ملاحظات شخصية، وتخمينات قد
تفسر الإحجام عن مقاربة هذا الشكل الشعري.
الحاجة إلى وقت طويل
وتركيز، للتمكن من تقنيات الميديا الحديثة، سبب مهم، وأكثر الكتاب يفضلون
عدم الدخول في منحنى تعلم جديد، والتركيز على مراكمة إنتاجهم أو الترويج له
بطرق مختلفة، منها- للمفارقة- الإنترنت. سبب آخر، أن هذه التقنيات تحتاج
إلى عمل تعاوني بين الشعراء والمبرمجين، ويعوق التعاونَ الخوفُ من فقدان
السيطرة على العمل، والشعور بأنه يُقتحم بشيء مختلف قد يستأثر بالتأثير في
القاريء.
سبب أخير، الخشية من التورط في تفاعلية حقيقية وتعطيل العمل،
فمن أهم كنوز الإنترنت ما تمنحه من حرية في النشر والتواصل مع القراء، هناك
استجابات مختلفة تقتضي التفاعل معها، أحيانا بانغماس ذاتي في حالة عقلية
مستقرة، وبعيدة عن شرط إبداع الجديد، لذلك يفضل بعض الكتاب أن يقفزوا إلى
المشروع التالي بدلا من التوقف مع عمل منجز، من أجل "تحديثه" أو الرد على
أسئلة القراء ومناقشة ملاحظاتهم.
من الواضح، ومهما كانت الأسباب، أن الشعر التفاعلي يضطرنا إلى
مساندة مشاعر صعبة، من نوع ما يتكشف عند أية مقارنة "نظرية" بينه والشعر
المطبوع، حشد الثنائيات المتباعدة مثلا- للمفاضلة بينهما- يدعم مشاعر نمت
في العزلة، تحت وطأة الصراع مع آخر مضاد، في حين أن ما بين النوعين ليس
تضادا، بل اختلافات اعتبارية يمكن التأليف بينها في ظل حالة من التعايش
الإيجابي.
ظهرت الدعوة لهذا التعايش
في مقابل الحماسة للشعر التفاعلي، إلى حد إعلان موت الشعر المطبوع، وهذه
مفارقة مضاعفة، لأن الأول يتجه لمناطق تأثير مختلفة، بالتوحيد بين النص
ومسارات امتداه من جانب، وبينهما والعناصر التفاعلية من جانب آخر، بحيث لا
يتحقق أي منهم بخصائصه الذاتية، بل يكون مشروطا بخصائص غيره. ومن جهة أخرى،
ما زال الشعر التفاعلي في بدايته، ولن يرسخ وجوده موت الشعر المطبوع، إن
كان موته ممكنا، بل الألفة النامية به، إدراك استقلاله النوعي، تصنيف طرقه
للعرض/ طرقه للوجود، وتحليل مفردات تأثيره، مع النظر إليها مجتمعة لتقدير
شعريته.
2- طرق للعرض طرق للوجود
نستطيع تعريف القصيدة التفاعلية Interactive Poem، كخطوة
أولى، بأنها: قصيدة يمكن الاشتباك مع نصها بفعل، ولا يُعتبر فعلاً مع النص
كلُُ من التعليق عليها/ مراسلة مؤلفها/ كتابة مقال عنها، وسوى ذلك من أفعال
تقع خارج النص. الفعل مع النص يفترض عدم اكتماله، لذلك يصبح التعريف كما
يلي: قصيدة قيد التشكيل يمكن الاشتباك مع نصها بفعل.
قد تكون القصيدة التفاعلية نصية، قوامها كلمات فحسب، أو
متعددة الوسائط تستخدم واحدا- أو أكثر- من العناصر البصرية/ الصوتية/
المتحركة، قد تكون خطية البناء، أو تشعبية، لكنها في جميع الحالات تمنح
القاريء خيارات المشاركة في تشكيلها. وتنقسم خيارات التشكيل إلى: تشكيل
النص، وتشكيل مسارات امتداد للنص.
لا تهدف المقاربة التالية إلى حصر جميع أشكال القصيدة
التفاعلية، إنما تقدم أبرز الطرق المستخدمة بالفعل، لحث القاريء على تجاوز
دور مُستقبِل النص، أو وكيله الذي يدعم وجوده "المكتمل" بطرق مختلفة، لا
تتضمن تعديله.
أولا:
تشكيل النص
تختلف مواقع الشعر التفاعلي في طرق منح هذا الخيار،
وتتفاوت درجة التفاعلية في الطرق نفسها، لكن المشهور تقديم "مولّد قصيدة"
عشوائي، على ثلاثة مستويات متدرجة..
1-
يتضمن المستوى الأول بضع كلمات/ أبيات متفرقة، تتحرك بسرعة لا تسمح للمتصفح
بالتفكير فيما سيختار، ولا بالنسخ أكثر من مرة واحدة، ربما لمنع المحاولات
الكسولة التي تهدف إلى تركيب القصيدة على مهل في فضاء تقليدي.
ويحظى "مولّد القصيدة" الذي ابتكره الشاعر الاسترالي
كومنينوس زيرفوس([1])، سنة 1995، بتقدير واضح على شبكة
الإنترنت، إذ يتميز بتعدد صفحاته وتنوع درجات تركيبها، التي تحرض مستهلك
الشعر على الارتباط أولا، ثم تأخذه في رحلة لمعان متعددة تتولد من درجة
ارتباطه ومن النص الذي يصنعه.
نجد في صفحة القصيدة السوريالية([2])، على سبيل
المثال، سبع كلمات تتبادل الظهور والاختفاء بترتيب عشوائي، ويستطيع
المتصفح تشكيل بيت- أو أكثر- بضغط زر التوقف في أية لحظة، ثم ضغط زر إعادة
التحميل لتكرار المحاولة، وهكذا حتى تتشكل قصيدة لا تخلو من معنى، وإن كان
سورياليا.
طريقة أخرى نجدها في صفحة الهايكو([3])، حيث
تتسارع عشوائيا كلمات ثلاثة أسطر، نموذجية من شعر الهايكو، ومع كل ضغطة على
زر التوقف تتشكل قصيدة مختلفة، إلى أن تنتهي احتمالات التراكيب المقيدة
بعدد الكلمات، وتبلغ في النهاية 3375 تركيبا.
2-
يأتي المستوى الثاني من "المولّد" في إطار قصيدة منجزة، تشتمل على كلمات
مميزة تتغير بالنقر عليها إلى كلمات أخرى، ما يغير المعنى تماما، ويصنع خطا
جديدا للقصيدة، على النحو الذي نجده في قصيدة (لطالما فكرت في أن أكون
موسيقيا))[4]) لبادريج ماكنامارا([5]).
تبدو القصيدة للوهلة
الأولى بسيطة جدا، لكن نظرة أبعد إلى الخطوط المختلفة التي تنشأ باستخدام
"المولّد" ستكشف جانبا أكثر عمقا تحت هذه البساطة، فهي تتكون من 48 مقطعا
تشعبيا، بدون "قصيدة مركز" ينطلق القاريء منها ويعود إليها. يتعلق أكثر
المقاطع باحتمالات المستقبل أمام ذات منعزلة تتناوبها مشاعر القلق، الأمل،
الغضب، والتنافسية.
كان اختيار المؤلف
الكلمات المطروحة للتغيير موفقا، فقوتها حاسمة في تبديل المزاج العام
وإيحاءاته، مثلا: تغير كلمة "لطالما"، إلى "غالبا"، سيأخذ القاريء من
ملاحظة إيجابية عن رغبة قديمة، ونبرة اطمئنان توحي بتحققها، إلى تقرير غير
مؤكد عن زمن استمرار الرغبة، وبالتالي شعور بخيبة الأمل/ العجز، أو الذنب/
الفشل، نتيجة عدم تحققها([6]).
3- يستطيع القاريء في
المستوى الثالث من المولّد إنتاج قصيدة كاملة، عن طريق الاختيار العفوي
لوحدات رمزية توفر بالنقر عليها نصوصا شعرية/ نثرية مجازية. توجد نماذج
مختلفة لهذا المستوى، وبعضها يشكل في مجمله صورة شعرية مؤثرة، كصورة
العرّاف في مولّد (دائرة حقيقة))[7]) لروبرت كيندال([8]).
يستند مولّد (دائرةُ
حقيقة) على آليات تفاعلية مستلهمة من كتاب صيني قديم (آيشينج)، يضم حدوسا
وتكهنات تستهدف منح بصائر عن مواقف مختلفة، أكثر مما تقدم نبوءات عن
المستقبل. يبدأ القاريء التفاعل بطرح أي سؤال (اختياري)، ثم الدخول إلى
صفحة المولّد.
وتوجد
أعلى الصفحة (جهة اليمين) ثماني وحدات كهربائية (بطارية، مصباح، هوائي،
مقاوم، ترانزيستور، سماعة، مكثف)، سبع يرمزون لعناصر طبيعية (الماء، النار،
السماء، الجبل، الشجرة، الريح، الأرض) في حين يمثل المكثف غياب العناصر
الطبيعية من خلال رمزية (البيت) للجسد الإنساني.
يختار
المتصفح أربع وحدات، مرتبطة باهتماماته الشخصية، وبالنقر عليها تتشكل
دائرته الخاصة، ثم تظهر مقاطع شعرية تحيط بالدائرة، في صورة تكهنات بحقيقة
القاريء، علاقته بنفسه والآخرين، ما يخفيه/ يظهره، ما يكسبه/ يخسره، إلخ.
وتظهر
داخل الدائرة عبارات لها طابع الحِكم والأمثال، مثل: الماء يتسرب في كل
بيت، النار تُرى على الجبل من بعيد، الأشجار تظلل البيت، إلخ. العبارات تصف
العلاقة بين عناصر الطبيعة التي تمثلها الأجزاء المختارة، وتعكس العلاقة
الدلالية بين المقاطع الشعرية، وبالتالي تبين نظام قراءتها.
يمكن
تكرار هذه العملية للحصول على نصوص مختلفة، حتى عند اختيار الوحدات نفسها،
لأن المولد/ العرّاف يتذكر ما قاله، ولا يكرر نفسه. القصيدة الناتجة يمكن
مقاربتها إما بصفتها قصيدة تفاعلية، وإما بصفتها إجابة غير مباشرة على
السؤال الذي طرحه القاريء.
يشارك
القاريء، بالمستويات الثلاثة من المولّد، في كتابة نص القصيدة، لكنه لا
يستطيع السيطرة عليه تماما، حريته في الاختيار محدودة، كما نلاحظ، حتى في
حالة ربط "المولّد" بمعجم كامل أو نصوص متعددة، لا يستطيع الإضافة إلى مادة
النص، ولا الحذف منها، إلا في سياق مقرر سلفا، ليعمل بصفته نصا رائدا أو
مسودة ملهمة.
توجد
فكرة المسودة في جميع الطرق المستخدمة لتشكيل النص، ومنها ما يمنح القاريء
خيار الإضافة من "مولّده" الخاص، مثلما نرى في موقع الشاعرة الأميريكية آن
كانتيلو([9])، حيث تتضمن الصفحات أنماطا مختلفة من الشعر، في
كل صفحة قصيدة قيد الكتابة، خطية الطابع، والقاريء مدعو لإضافة سطر إليها،
مع إمكانية "إغلاقها" إذا شعر بأنها مكتملة، والتعليق على إضافات الآخرين.
تشبه
هذه الطريقة أسلوب التذييل/ الإجازة، المعهود في الشعر القديم، وتتضمن
مثله مواجهة ذات شعرية أخرى، تبدو مطمئنة للتحدي، اعتمادا على سبقها في
اختيار الموضوع والنمط التعبيري، وأملا في كفاءة الأداء. مشاركة القاريء
تعني قبول هذا التحدي، أو الإلهام الجبري، باعتبار أن لحظة الشعر الآن، ثم
المراهنة على أن كشف إمكانات اللحظة والذات سوف يضاعف التفاعل، والإحساس
بالحضور الإنساني الفائق الذي يكمن وراءه.
ثانيا: تشكيل
مسارات امتداد للنص
يتوفر هذا الخيار عندما تكون القصيدة التفاعلية تشعبية، أي
عند ربط مجموعة من القصائد معا في فضاء إلكتروني، بمفهوم الديوان لا
المجموعة الشعرية، وبطريقة مبتكرة تضيف للدلالة المستفادة منها بحال
انفرادها. يتم الربط بين القصائد بواسطة وصلات، (كلمات/ جمل مميزة باللون
الأزرق وتحتها خطوط)، فتمثل كل قصيدة من المجموع المترابط احتمالا لمسار
مختلف.
تعتمد مؤقتية/ استمرارية المسار على الخيارات التي يوفرها
المؤلف، وأهمها مشاركة القاريء في الإضافة للقصيدة، مع ملاحظة أن قيد
الإضافة إلى نهاية النص- تذييله- لا يخلق مسارا جديدا. تعتمد أيضا على مدى
استقلال الوصلات، فارتباطها بقصيدة مركزية يجعل وجودها متطرفا، عارضا
ومؤقتا، مثل هوامش على متن، أما استقلال الوصلات فيمحو هذه التراتبية، يلغي
الالتزام المعهود في قراءة الشعر الخطي، ويمنحها قابلية جذرية للحركة
والامتداد، ما يؤدي إلى صعوبة محتملة في أن يفقد القراء فضاء الاستطراد في
المسارات، حيث يدورون معها حول النص، بدون إدراكه كاملا، في كثير من
الأحيان، وبدون العودة إلى نقطة البدء/ القصيدة البيت Home Poem.
قصيدة (ملاحظات طبية لطبيب غير شرعي)([10])
نموذج لقصيدة مركز تشعبية، نشرها الشاعر البريطاني أليكسيس كيرك([11])
في سنة 1995، وتبدأ أولى الملاحظات فيها بإمكانية المساهمة في كتابتها:
"يمكن للقاريء تعديل هذه القصيدة التشعبية"، مع تمييز كلمة "تعديل" بصفتها
وصلة، فإذا اتبعها الشاعر الافتراضي يجد الإرشادات التالية:
"
لكي تتمكن من الإضافة إلى القصيدة أو تغييرها- أدخل اسمك وعنوان بريدك
الإلكتروني، ثم أدخل النص الذي تريد إضافته في الصندوق الأول أسفله. إذا
رغبت في إعطاء تعليمات عن موضع إضافة هذا النص للشكل التشعبي في القصيدة
(انظر: تحريري) ثم أدخل تعليماتك. وإذا تركت الصندوق الثاني فارغا، سوف
يُضاف نصك إلى نهاية قصيدة البيت في (ملاحظات طبية). اضغط زر "مساهمة"
عندما تنتهي، على أمل أن تُحدث القصيدة التشعبية كل سبعة أيام".
يستطيع القاريء في هذا النموذج، وما يشبهه، أن يتبع وصلات
القصيدة، لكن المسارات التي تنفتح مسدودة، لابد أن يضغط على "زر العودة"
لصفحة المتن/ البيت، وفي نهاية هذه الصفحة سيجد، إذا انتظر قليلا، جميع
القصائد/ المسارات على هيئة هوامش ختامية، ما يستدعي التساؤل عن معنى وجود
الوصلات، ما دام الاستغناء عنها ممكنا فما الحاجة إليها؟!
من
الاعتراضات الشائعة على استخدام الوصلات التشعبية في الشعر أنها تصرف
الانتباه عن القصيدة، وتشجع ارتباطا غير نقدي بها، لكن فلسفة الوصلات تكمن
تحديدا هنا، في عملية صرف الانتباه عن القصيدة وتأويلها، حتى لا يظل الشعر
صيحة في الوجود، حسب المعني اليوناني القديم لمفردة "شعر"، بل صيحة للوجود،
للبقاء برغم الاختلاف، لاكتساب معايير جديدة، واستخدام هذه المعايير بدقة
وانفتاح أكبر مما تتيحه الثنائيات التبسيطية. كيف ننفتح لمعايير جديدة،
وكيف نثق بطريقة مختلفة للوجود في العالم، هذا ما تجيب الوصلات عنه بأساليب
تتفاوت وضوحا وكثافة.
الوصلات آلية عرض لاختلاف
النص المتشعب، وفي الوقت نفسه وسيلة يُدرك بها هذا الاختلاف، لا يوجد معنى
أصلي، كلي، نهائي وراءها، نظام المعنى يأتي بالنظر إليها مجتمعة، والمعنى
في حد ذاته انعكاس لتأثيرات عملية الوصل. إذا تتبعنا الوصلة الثالثة في
(ملاحظات طبية) كمثال، ستتوالى عناوين الوصلات كما يلي:
المستقبل
أعماق
محترقة في
شبكية عيني
بالكاد أستطيع
لمس
الإلهام
الإلكتروني
العناوين الفرعية في بعض
القصائد المطبوعة تشكل أيضا قصيدة مستقلة، هذا اعتراض وارد، لكننا لا
نستطيع الاستمرار في موضعة الشعر المطبوع كمرجع، وإلا تحول إلى هامش، ومن
ثمّ سيوجد إغراء بأن نأخذ منه قصيدة جاهزة، نقتطع منها أجزاء قليلة لتشكيل
قصيدة بيت، ثم نضع الأجزاء المقتطعة في وصلات لتكون قصائد مسارات. هذه
مقاربة منعدمة الجدوى، لكنها منتشرة، كما يقول كيرك نفسه، وسوف تكون بلا
قيمة عندما يموت عامل الجدة في الشعرية التفاعلية.
تقنية الاقتطاع/ التشظية
مثال لقصيدة طفيلية، تتغذي من مظهرها التشعبي لتحصل على المصداقية، ما
يحتاج الشعر إليه حقا هو التعايش التعاوني([12]) بين تشعبية
القصيدة والمظاهر الخطية المختلفة، والعثور على هذا التعايش هو ما يجعل
القصيدة التشعبية صعبة جدا([13])، بخاصة عندما تكون لا مركزية،
متعددة الاتجاهات وبدون قصيدة بيت، كما نرى في (متاهة المرايا))[14])،
وهي قصيدة مشتركة لكينيث بايان([15]) وجورج سيمرز([16])
نُشرت سنة 1998في مجلة Snakeskin الإلكترونية.
تستخدم (متاهة المرايا)
تركيب لعبة قديمة، لتأخذ القاريء إلى سلسلة مواجهات مع صور متعددة من ذاته،
بغرض أن يشعر بالضياع مؤقتا، فيواجه اختياراته والأوهام التي تنشأ بتأثير
الخوف والحركة المضطربة، بالدخول للمتاهة يصبح شخصية في فضائها، وجزءا من
المرايا، يختلف هذا عن الوقوف بقربها أو النظر إليها، عليه أن يكون داخلها،
وأن يجد طريقه بدون أن يصطدم بها، أو بالصور المختلفة لذاته.
يتكون نص القصيدة من
مقطوعات شعرية تقليدية، ذات دافع سردي قوي، ينتهي كل مقطع بوصلتين، تمثلان
خيارين مختلفين، وأي خيار يدعو القاريء لتحمّل جزء من المسئولية الإبداعية،
في تشكيل مسارات امتداد للنص، عن طريق اتباعه وصلات معينة وترك أخرى بدون
فتح/ اكتشاف، يدعوه أيضا إلى مراجعة فكرة الغاية، أو النهاية، حين يُسأل في
نقطة محددة: "هل اكتفيت؟ يمكنك نقر النهاية"، ثم لا تختم النصَ وصلة
"النهاية"، بل يستمر متشعبا من جديد، ليحيل إلى تشعب الحياة)[17]).
قد يبدو تصنيف القصيدة
التشعبية، إلى مركزية ولامركزية، تعسفيا، لأن القاريء سيبدأ في أي حال من
صفحة "بيت"، غير أن الفرق يكمن في أنه ليس مضطرا مع التشعبية اللامركزية
إلى العودة حتى يكمل القصيدة، ولا يستطيع ذلك إلا باستخدام زر العودة في
متصفحه الخاص، ما يقتضي أحيانا تجاوز الدافع السردي في النص، بصرف النظر عن
اعتماد القصيدة عليه كلياً، مثلما مرّ في (متاهة المرايا)، أو جزئيا كما
نرى في قصيدة (أرق))[18]).
تصلح (أرق) مثالا لقصيدة
تفاعلية، تشعبية، ومتعددة الوسائط، اشترك في إبداعها الشاعر ديفيد جيويل،
المخرج ستيف ويلسون([19])، والفنانة أنيتا بانتين([20])،
في سنة 1995. وتستخدم فيها عناصر بصرية وسمعية مع الشعر، لنقل الإحساس
بالأرق، لدى رجل معين بوضوح، من خلال لقطات له، من زوايا مختلفة، تبين مدى
إرهاقه، مظهره المضطرب، شعره المهوش، انتفخات جفونه، ونظراته الحزينة.
يُترك ذلك كله للمخيلة في
النص وحده، لكن النص هنا ليس القصيدة، إنه عنصر فيها، مشروط بغيره، يساعد
على تقلبها في حالة (ماذا لو؟)، التي سيطرت على الرجل، فوزعت أفكاره بين
أخطاء الماضي/ إمكانات المستقبل، مثلما تساعد على ذلك الوصلتان الغامضتان([21])
في نهاية كل صفحة، إلى مقاطع مختلفة في القصيدة.
تشعبية النص في قصيدة
(أرق) ذاتية المرجعية، تتعلق وصلات النص به وحده فلا تقود إلى خارجه، لكن
توجد في المقابل قصائد غير ذاتية المرجعية، تتشعب إلى نصوص مختلفة، تتعلق
بها من جانب أو آخر، ويغلب على النماذج الحالية من هذا الشكل أن تكون
ببليوجرافية الطابع، تجميعية وشارحة، لأغراض تعليمية، كما نرى في قصيدة (فن
واحد)([22]) لإليزابيث بيشوب([23])، بتشعيب توني
تريجيليو([24]).
القصيدة من ديوان بيشوب
الأخير (جغرافيا 3)، وقدمت فيها سلسلة من الخسارات (مفاتيح، ساعة، أسماء،
بيوت، مدن، صديق)، منتقلة بهدوء مما يمكن احتماله إلى ما تشكل خسارته
كارثة، ومعتمدة على تكرارية بحر الفيلانيل([25])، في تأكيد نبرة
اطمئنان، وتصعيد التوتر بين السيطرة والفقد، أو الاتقان وفن يرفض أن
يُتقن، لتصل مع السطر الأخير إلى أن الكتابة/ الخسارة فن واحد.
تضع النسخة التشعبية من
(فن واحد) تفاعلية النص الأدبي أمام اعتراض وجيه، الوصلات تغري القاريء
بفحص المسارات البديلة، والابتعاد المتكرر عن النص الأساس يقوّض الارتباط
به. يوجد قبل نص القصيدة خمس وصلات إلى: تعريف بالشاعرة (يمكن أن توضع في
صفحة البيت)، إرشادات/ أسئلة لقراءة القصيدة (يمكن الاستغناء عنها لأنها
موجودة في صفحة البيت)، مراجعة لرسائل بيشوب التي نشرت بعنوان (فن واحد) في
سنة 1993(وصلة كاذبة، تنفتح على المسار المحدد لكن المادة التي وعدت بها
مفقودة)([26])، استجابات نقدية للقصيدة (تتكرر مع الوصلة قبل
الأخيرة في النص)، وصلات لشعر الفيلانيل (يمكن وضعها في صفحة البيت).
ما بين الأقواس اعترضات
جزئية- محتملة- على تأخير الشعر نفسه، إشباع القاريء بما يمكن تأجيله،
والمصادرة على حكمه النقدي قبل أن يصل إلى النص ومطلعه التالي..
ليس
صعبا إتقان فن الخسارة
حيث يجد على (فن الخسارة) وصلة
ببليوجرافيا تشعبية، لمقالات وكتب عن هفوات الذاكرة، شرود الذهن، وأخطاء
الكلام، فإذا تذكر القاريء القصيدة، بعد جولة لساعات، وعاد إليها، سيجد
وصلات أخرى محيرة، مالعلاقة مثلا بين قول بيشوب "اخسر شيئا كل يوم" ومسألة
رياضية تتضمن فقدان مفاتيح؟ أو بين مفردة "بيوت"، في المقطع الرابع، وقصة
لكاتب مغمور بعنون (المنزل المفقود)، هل توجد علاقة بين القصيدة والقارة
المفقودة أو الفردوس المفقود، كما تقترح الوصلات؟
تحويل انتباه القاريء عن
الوصلات نفسها إلى دلالة وجودها- جدل أساس في تفاعلية الأدب، لاقتراح أن
العلاقة بين النصوص أكثر أهمية من نص بذاته، حتى إذا كانت العلاقة
اعتباطية، سيبقى على القاريء وحده أن يحول تصفحه لمواقع الإنترنت إلى نمط
إبداعي، بانتقاله من دور المغمور، والوكيل، إلى دور المبدع، أي بعدم السماح
للوصلات التشعبية بأن تمتصه صوب أطرافها اللانهائية، تنمية إحساس بالسيطرة
على المواد التي يتصفحها، ثم استخراج معنى منها، والاستفادة بالمعنى في
إبداع شيء خاص، أي شيء بداية من ربط جديد بين الأفكار، وليس انتهاء بتشكيل
نص أدبي أو فني)[27]).
الوصلات التشعبية تقنية
للنظر خلال النص، لا إليه، تشبه الصورة الفوتوغرافية واللقطة السينمائية،
تسحب المشاهد إلى عمقها، وتنجز ما كان الأدب يطمح إليه: مغادرة القاريء
فضاء الجسد، نسيانه إطار الصفحة، انجذابه إلى العالم المتخيل، واحتلال أي
موقع فيه. حققت هذه التقنية الآن عالم "كاستاليا"، الذي تخيله هيرمان هيسه
في رواية (لعبة الكريات الزجاجية)([28])، وإن كانت اللعبة
الحالية بدون ماجستر لودي، سيّد يشرف عليها من بعيد، ويوجه المغامرين في
متاهتها من مداخل مختلفة.
تجاوز الشعر التفاعلي كونه مدخلا للمغامرة، فأشكاله التي
تتزايد/ تتعقد يوما بعد آخر، تعني أن اللاعبين الجدد سيتجهون إلى التحدي
الأهم، عمق المتاهة حيث يقبع الوحش، وبدون خيط أريادن([29])، ما
دام "قطع" الخيط صلتهم بفضاء شعرية رحب، حيث الوصلات استعارات، منفصلة عن
المجال الدلالي للنص، والتمثيل البصري بلاغة، من خارج الأبجدية وأنظمة
رموزها.