مدارس الإخراج المسرحي الحداثية / التصور وطاقات التعبير في فنون الإخراجمسارات مارس 2, 2017 مسارات أدبية اضف تعليق 4 زيارةأبو الحسن سلام
فصل من رسالة دكتوراه ( الثابت والمتغير في عروض مسرح الريبرتوار ) إعداد : ميليسا رأفت
مقدمة
شهد القرن العشرون تقدماً كبيرا في مجال المسرح حيث ظهرت العديد من الحركات الفنية التى لم تقتصر على نوع معين من أنواع الإبداع الفني وإنما شملت جميع أوجه الفنون . وبالرغم من الاختلافات الظاهرية التى تميز تلك الحركات عن بعضها البعض , فإنها تتوحد جميعاً فى رفضها الاساليب الفنية المورثة وكان هذا هو شأن القرن العشرين ربما اكثر من اى فترة زمنية سابقة , اذ تضافرت فيه عوامل كثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وظهرت علوم وفلسفات جديدة ادت الى بلورة الفكر الانسانى بشكله الجديد من أواخر القرن العشرين وحتى وقتنا الحالى فى القرن الحادى والعشرين .
فمع انتهاء عصر الحداثه ظهر احد التيارات الفنية والذى كان من الصعب تحديد ملامحه وهو " تيار ما بعد الحداثة Post Modernism " الذى كسر قواعد واساليب الفن المعروفة , ورفض السمات التقليدية , مما ادى الى اجتياز الشكل الظاهرى للعمل من الناحية الجمالية او البصرية والتطلع الى المشاركة الفعالة من قبل الجمهور الملتقى لتلك الاعمال والعروض الفنية المنمية لتيار ما بعد الحداثة , ومؤثراً على شتى مجالات الفنون : كالعمارة والنحت والتصوير والموسيقى والمسرح والسينما والفنون الأدائية , وقد بدأ تيار ما بعد الحداثة من أواخر القران العشرين وظهر تأثيره أولاً فى فن العمارة وتلاه الفنون الاخرى , انتقالا الى النقد الادبى , ثم الى الفلسفة كذلك الى العلوم الاجتماعية وظهرت مساهمات نظرية ومنهجية , بل ودراسات تطبيقية تستوحى المبادىء الاساسية للتيار كخطوط خارجية لها , وقد رفض فنانو ذلك التيار وضع أطراً ثابته او حدوداً له , لذا هو تيار غامض فى تعريفه يحوى العديد من الامور المتباينة داخله بأستخدامه للشىء وضده فى أن واحد .
من هنا يذهب الباحث الى تعريف ما بعد الحداثة لغوياً وفنياً لتوضيح كافة الجوانب الخاصة بالمصطلح من الناحية اللغوية وارتباطه بالحداثة كجزء من تعريفه اللغوي والفني فيما يلي :
مصطلح ما بعد الحداثة Post Modernism يعنى تجاوز الحداثة نفسها لغوياً ولأن " الحداثة Modernity هى تجاوز الماضى بأرائه وافكاره , وممارساته والتطلع الى الجديد , وبذلك يكون معنى مصطلح " ما بعد الحداثة Post Modernism هو ( تجاوز التجاوز ) لذلك فمصطلح ما بعد الحداثة يعنى انه تيار دائب السعى والتجديد لإعادة اكتشاف أسس الفكر والممارسة بهذا المعنى فهو يمثل معارضة لتيار الحداثة , وبذلك يعتبر مفهوم مركب ومتعدد الاوجه يتجلى فى عدد من الظواهر التى يجمع بينها هدف واحد وهو محاصرة وتخريب فرضيات الحداثة .
ومع ذلك لا يمكن القول بأن تيار" ما بعد الحداثة " فد تحرر تماما من تيار " الحداثة " فالحداثة هى الارض التى تقف عليها " ما بعد الحداثة " فلا يمكن معرفة خصائص تيار ما بعد الحداثة الا عن طريق الخوض فى خصائص الحداثة , فما بعد الحداثة تيار فكرى نشأ فى الاصل فى كثير من جوانبه ردة فعل ل " الحداثة " حيث ان ما بعد الحداثة من التنوع والتباين بحيث يصعب ايجاد تعريف دقيق ومحدد لها . وتكاد تجمع المراجع على عدم إعطاء تعريف ل " ما بعد الحداثة " لصعوبة تعريفها , وبدلاً من ذلك تقوم بتوصيف هذا التيار ( اى توضيح اتجاهه الفكرى وممارساته وسماته الشائعة ) وذلك بمقارنته بنقيضه وقاعدته الأساسية الحداثة
مفهوم ما بعد الحداثة يرتبط بمفهوم الحداثة نفسها , ولعل السبب فى ذلك :
1. ان ما بعد الحداثة مفهوم متسع وغامض , فهناك صور متعددة لأعمال فنية تنتمي الى تيار ما بعد الحداثة وتختلف فيما بينها شكلا ومضموناً وقد تتفق في الاتجاهين (الشكل والمضمون) على انتمائها للتيار . وتيار ما بعد الحداثة يرفض الذاتية والفردية ويتجه الى روح الجماعة والموضوعية بالرغم من انه أحيانا يقتبس من الكلاسيكيات والتيارات الفنية السابقة التي بالفعل اتسمت ممارستها الفنية بالذاتية التي يرفضهما بعد الحداثة (الشيء ونقيضه ) مما حدا بأنصاره الى الكف عن توضيح ما هي : ما بعد الحداثة " والانصراف بدلاً من ذلك الى توضيح ما يرفضه تيار ما بعد الحداثة .
2. يمكن ان تعرف ما بعد الحداثة بأنها اتجاه فكرى , يضم خليطاً من التيارات ويجمعها رفض الاسس الانطولوجية ( نسبة الى الانطولوجيا Ontology ) أى الخاصة بطبيعة الوجود والمعرفية والمنهجية التى قامت عليها الحداثة او على الاقل يجعلها محل شك , وظهر مفهوم ما بعد الحداثة بشكل واضح فى السبعينيات من القرن العشرين الميلادى , فى كتاب الفيلسوف الفرنسى جان فرنسوا ليوتارد jean francois Lyotard (1924– 1998) ** وكان عنوان الكتاب " علم ما بعد الحداثة " ** وعنى بهذا المسمى التعددية الثقافية ( الدمج بين الثقافات المتنوعة ) وتعدد أنماط الحياة .
اشتمل الكتاب الذي وضعه " جان فرنسوا ليوتارد jean francois Lyotard " على محاور اساسية منها بإيجاز :
1. المعرفة فى مجتمعات الحاسب الالى knowledge in computerized societies
تحت هذا المحور وضع ليوتارد فرضية العمل لدية هو ان الحاسب الالى سوف يغير الوضع القائم فى المعارف لدى المجتمعات , وقد تم هذا التحول منذ نهاية على الأقل من 1950 وسمى بعصر ما بعد الحداثة , شهدت هذه الفترة النهضة المعمارية فى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وانه على مدى السنوات الأربعين الماضية كانت العلوم والتقنيات ممتزجة مع اللغة مثل : علم الأصوات ونظريات علم اللغة , ومشاكل الاتصال والتحكم الآلي والنظريات الحديثة في علم الجبر والمعلوماتية , وأجهزة الكومبيوتر ولغاتهم , مما كان نتيجة لذلك حدوث مشاكل فى الترجمة والبحث عن مجالات التوافق بين لغات الكومبيوتر ولغة البشر , مشاكل تخزين المعلومات ومصارف البيانات . لذا يمكن التسليم بأن لغة الحاسب الآلي زادت من معرفة المجتمعات عن طريق توافقها مع اللغة البشرية وإثراء المعرفة بشكل أوسع مما سبق.
2. التورية اللغوية ( التلاعب بالألفاظ ) Language Game
فى هذا المحور يتحدث ليوتارد عن استخدام اللغة فى التلاعب بالالفاظ والشفرة المزودة بحيث ان كلمة تحمل اكثر من معنى مع استخدام رموز مجازية تحمل اكثر من معنى ايضاً والجملة تعطى اكثر من فهم واحد للمتلقى مما يؤدى الى التباس المعنى , هذا الاسلوب اعتمد عليه تيار ما بعد الحداثة فنياً و أدبياً .
3. المنظور الفكرى لحركة ما بعد الحداثة post Modernism Intellect
تناول فى هذا المحور فكر الحركة والجوانب المتصلة بما بعد الحداثة , وعلاقتها بما يحيط بها من أبعاد مختلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية.
نشأة تيار ما بعد الحداثة وسماته
مما لاشك فيه ان كل حركة او اتجاه جديد فى اى نوع من انواع الفنون ماهو الا نتاج ظروف جديدة يمر بها المجتمع مما يتطلب شكل او اسلوب جديد فى التعامل معها , ويعتبر تيار ما بعد الحداثة هو رد فعل للحداثة فكان على الفنان العودة الى التراث ليعيد صياغه اعماله الفنية مع إدخال تقنيات شكل فنى فى تقنيات شكل فنى اخر , وكذلك ابتكرت اعمال يستجيب لها الجمهور فيتفاعل معها وكذلك تم الخلط بين عدة انظمة فنية من : نحت , عمارة , موسيقى , تصوير فوتوجرافى وغيرها من الفنون . ليتحول العمل الفنى التشكيلى الى عمل متعدد الاساليب الفنية والتقنية , ويعتمد على مشاركة المتلقي له فلا يصبح دوره سلبياً بل ايجابياً متفاعلا مع العمل. حيث تحرر الفن من مفهومه على انه مهارة حرفية لتحل محلها رسالة غامضة موجهه من الفنان الى جمهوره يطرح فيها قضايا هامة حول وظيفة الفن وعلاقته بالمشاهد من خلال التركيز على فكرة العمل الفنى ودروها الفاعل فى احداث علاقة جدلية بين المشاهد والعمل مما ادى الى ان هجر الفنانين قاعات العرض والمتاحف ولجئوا الى ابتكار اعمالهم فى الخارج وأماكن جديدة يشارك فيها الجمهور , وبذلك اعتمد الفن على مفاهيم جديدة وعلى توحد العمل مع البيئة والطبيعية
بدأ تيار ما بعد الحداثة فنياً من خلال فن العمارة وذلك عندما اقيم فى عام 1980بينالى فينيسيا لأول مرة من خلال معرض فنى لمجموعة من الوجهات صممها ثلاثون مهندساً معمارياً وكان عنوانه " احدث طريق Srada Novissima " طرحت اعمال المعرض اسلوب جديد يقوم على مبدأ توظيف الصورة ويتسم بخاصة التلاعب الساخر بالاساليب الفنية السابقة وتقاليده المعمارية واستخدامها لايجاد مفارقات وتورية بصرية , وجاء فى هذا المعرض دليلاً على فقدان الثقة فى تيار الحداثة التي تساوى بين ألمتعه والجمال , وبين سلامة البناء وبين القيمة الجمالية , وظهر التيار فى فن العمارة كثروة على هذا القاموس المعمارى المحدود الذى ما فتىء يتقلص ويقلص مساحات الإبداع لدى الفنانين , ويكبل خيال المبعدين وطرح هذا التيار الجديد أسلوبا بديلاً يتبنى مبدأ التلاعب الواعى بالصور , وبالرموز والمعانى , وتبعها العديد من المجالات التى أثر فيها التيار الجديد ليعطى تطوراً صريحاً وفعال للفن برؤية وافكار جديدة مبنية على المشاركة الفعالة للمشاهد مع العمل
من المعروف ان هذا التيار نشأ مع فن العمارة كما سبق الذكر , وقد اتضح اثره بشكل كبير على المبانى والوحدات السكنية وطرق توزيعها فمنها ما هو يوحى بالتضاد بين الكلاسيكية والايقاع السريع للحياة العصرية مما اعطى الفنان المعمارى حرية كبيرة فى تصميماته مواكبة للروح العصرية والاستخدام الوظيفى و تحقيق فكر وسمات التيار
يقول تشارلز جينكس Charles Jenks* فى كتابة ما بعد الحداثية : الكلاسيكية الجديدة فى فن العمارة " يرى ان اسلوب الحداثة هي فن العمارة : فرأى انه اسلوب يقوم على مبادىء " الوحدة " , و " البساطة " , و "الوظيفية " وفى مقابل هذا الاسلوب تبنت ما بعد الحداثة مبدأى " التشظى " و " التنافر " فطرحت من خلالهما اسلوباً يتخلى عن النموذج المثالى القديم للعمل الفنى المتكامل الذى لا يمكن الاضافة اليه او الحذف منه دون الانتقاص من قيمته , ويتوسع جينكس Jencks فى وصفه لفن ما بعد الحداثة وما تضمه من قائمة خصائص هذا الفن من ناحية استخدامها بشكل شائع ولكنه لم يحدد لها قالب او مسمى بعينة . فمن السمات الملاحظة على هذا التيار بوجه عام هي إحداث الالتباسات ومحو الفردية مما يجعلها اكثر غموضاً , وفى كثير من أعمال ما بعد الحداثة يكون معرفة تفسير محدد لها بدقة يكون احياناً قابلاً للشك وذلك عندما تختفى احدى العناصر فيختفى ربطها بعنصر اخر مما يسبب الحيرة والاستثارة الذهنية .
كذلك من الواضح أن مفهوم ما بعد الحداثة هذا يرسل صداه خارج حدود فن العمارة وممارساته ليصل الى الأدب , والموسيقى , والنحت , والسينما , والفيديو , والتليفزيون , والرقص , والمسرح وفنون خرى استحدثت نتيجة لظهور التيار الجديد
التعليق على النموذج التخطيطى (1) السمات الشائعة فى ما بعد الحداثة بإيجاز فى التالى :
• المحاكاة الساخرة Parody
هى احدى السمات المستخدمة حديثاً فى الفن المعاصر بشتى اشكاله كالموضوع , والاسلوب والتشكيل فى الادب وذلك عن طريق السخرية من تقليد ما او اسلوب ما يتصل بالمصدر الاصلى ( المراد السخرية منه ) بهدف فكرة معينة أو رؤية معينة , ويمكن الاطلاع على هذا فى الفنون التشكيلية , والمسرح والموسيقى والسينما والافلام المتحركة , ولكن كبداية للمحاكاة الساخرة فقد بدأت بدأت فى الاعمال الادبية أو الفنية من ارسطو Aristotle (348 ق.م – 322ٌ ق.م) " فى عمله : المسيطر على تاسوس Hegemon of Thasos ساخراً من نصوص معرفة فى الادب اليونانى القديم , وتحدث المحاكاة الساخرة عندما يتم رفع جميع العناصر من عمل واحد اصلى خارج سياقها , واعادة استخدامها بشكل اخر يخل من العمل الاصلى شكلاً ومضموناً وقد تضمن استخدام ما بعد الحداثة لذلك فى المعارضة الادبية فى النصوص والكتابات , ودمج شخصيات تاريخيه لا علاقة لها بسياق العمل المسرحى واقحام اساليب من تيارات فنية سابقة داخل عمل فنى ما بعد حداثى وغيرها من اشكال المحاكاة الساخرة
• العودة الى الماضى Nostalgia
مصطلح من اصل يونانى مكون من شقين nostos وذلك بمعنى "العودة الى الديار " والشق الثانى algos بمعنى : الالم كشكل من اشكال الحزن ويصف حالة طبية آنذاك " , وغالباً ما يتم استخدامها كحنين ما يذكر الفرد يحدث او عنصر من ماضيه وهذا يفسر اقتباسات متعددة فى تيار ما بعد الحداثة لشخصيات واحداث وتراث واساليب من الماضى داخل الاعمال الفنية والادبية