تـوطئة: يعد الباحث المغربي طه عبد الرحمن[1] من الدارسين العرب الذين تمثلوا المقاربة المنطقية أو التداولية في تقويم التراث، بالتركيز على المناظرة باعتبارها منهجية تداولية تراثية. ويتجلى ذلك واضحا في كتابه(تجديد المنهج في تقويم التراث)[2] الذي خصه بدراسة نقدية واعتراضية للكتابات المعاصرة التي تناولت التراث العربي-الإسلامي، ولاسيما كتابات محمد عابد الجابري، كما يظهر ذلك بينا في كتبه( نحن والتراث)[3]، و(تكوين العقل العربي)[4]، و(نقد العقل العربي)[5]، و(التراث والحداثة)[6]... ومن هنا، فالكتاب عبارة عن قراءة نقدية حوارية لما كتب حول التراث بطريقة استبطانية استرجاعية، بغية استكشاف الآليات الشكلية التي استعملتها هذه الكتابات المعاصرة في قراءة التراث من جهة، وإعادة قراءة التراث العربي- الإسلامي من جديد من جهة أخرى، باختيار أسلوب المناظرة القائم على استدعاء الأطراف المتحاورة، وخاصة : المدعي والمدعى عليه، واستعراض مختلف الأدلة والبراهين والحجج لإفحام الخصم وإقناعه. وهذه هي الطريقة التي اختارها طه عبد الرحمن لمواجهة محمد عابد الجابري في ما كتبه عن التراث، بغية إظهار تناقضاته الاستدلالية، وكشف مساوئه الفكرية، وتبيان تهافته الفكري والفلسفي.
المبحث الأول: منهــج التقويـــم
ينطلق طه عبد الرحمن، في تقويم التراث بصفة عامة، ونقد كتابات محمد عابد الجابري بصفة خاصة، من المنهج التداولي المنطقي، بتمثل المناظرة طريقة للحوار والمناقشة والاعتراض، وتفنيد أطروحات الخصم. بمعنى أن طه عبد الرحمن فضل طريقة السجال النقدي المنطقي منهجية للتقويم. كما فضل الاعتراض التداولي لإفحام الخصم.لذا، استخدم في ذلك المناظرة التي عرف بها المفكرون العرب القدامى منذ العصر العباسي (يونس بن متى المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي- مثلا-).أي: اختار الباحث منهجية تراثية لقراءة التراث، وأيضا لمواجهة الجابري الذي يتبنى، في مختلف كتاباته الفكرية، مقاربات إبستمولوجية غربية معاصرة في قراءة التراث، كتطبيقه للمقاربة البنيوية التكوينية من جهة، أو تمثله للمادية التاريخية الجدلية من جهة ثانية، أوتوظيفه للقطيعة الابستمولوجية لجاستون باشلار(Gaston Bachelard) من جهة ثالثة. وفي هذا السياق، يقول طه عبد الرحمن محددا منهجه النقدي:" ولما ألزمنا أنفسنا بهذه المبادىء النظرية والعملية، فقد حملنا ذلك على أن نأخذ في بحثنا بمنهجية تعتمد أساسا مسلكا حواريا موصولا بالطريقة التي اشتهرت بها الممارسة التراثية، وهي: طريقة أهل المناظرة.ومعلوم أن هذه الطريقة التي شملت جميع دوائر المعرفة الإسلامية العربية، تنبني على وظائف منطقية تأخذ بمبدإ الاشتراك مع الغير في طلب العلم وطلب العمل بالمعلوم، كما تنبني على قواعد أخلاقية تأخذ بمبدإ النفع المتعدي إلى الغير أو إلى الآجل؛ وقد بسطنا القول في منطقيات وأخلاقيات المناظرة بما فيه الكفاية في كتابنا (أصول الحوار وتجديد علم الكلام)، فليرجع إليه.
وليس معنى أخذنا بمنهجية المناظرة نقلا لها، إجمالا وتفصيلا، وإنما هو نقل حي لأركانها الأساسية؛ والشاهد على ذلك مراعاة هذا النقل لمقتضيين جوهريين: أحدهما، مقتضى تجدد المعرفة العلمية؛ والثاني، مقتضى خصوصية الموضوع المدروس.فإن كان أهل المناظرة قد أخذوا بآليات منطقية ولغوية تناسب النظريات المنطقية والحجاجية واللسانية المعاصرة؛ كما أننا ألزمنا أنفسنا بأن تكون الآليات التي نستعملها ملائمة في خصائصها للموضوعات التراثية التي ننزلها عليها؛ فالموضوع التراثي، عموما، مبني بناء لغويا ومنطقيا مخصوصا، ولايمكن وصفه وصفا كافيا، ولاتعليله تعليلا شافيا إلا إذا كانت الوسائل التي تستخدم في وصفه ونقده ذات صيغة لغوية ومنطقية."[7]
ويعني هذا أن طه عبد الرحمن يطبق المنهجية التداولية المنطقية أو يتمثل فلسفة اللغة أو يأخذ بأسلوب المناظرة في قراءة تراث الأجداد، وتقويم الكتابات الفكرية المعاصرة التي تناولت التراث بدورها، بفحص الآليات المنطقية والتداولية واللسانية التي استخدمتها هذه الكتابات، مع مقارنتها بالأدوات الشكلية الداخلية التي استخدمها التراث على مستوى الإنشاء أوالانبناء الفكري والإبداعي.
إذاً، فقراءة طه عبد الرحمن للتراث قراءة تراثية تداولية ومنطقية واستدلالية. وأكثر من ذلك، فهي قراءة نقدية اعتراضية قائمة على إبطال دعاوى الخصم، باستخدام الحوار العقلاني المنطقي الذي يحترم أصول علم التداول أو أصول علم المناظرة العربية. لذا، فهو يقرأ التراث بالتراث، أو يقرأ التراث من الداخل، بالانغماس فيه إلى أخمص قدميه، مع تمثل النظرة الكلية، والتركيز على الآليات البنائية للمعطى التراثي، دون التركيز على المضامين. كما يبدو ذلك جليا عند المفكرين المعاصرين الذين كانوا يقرأون التراث من الخارج من جهة؛ وينطلقون في ذلك من نظرة تجزيئية من جهة ثانية؛ ويعتمدون على انتقاء مضامين النصوص، دون الإنصات إلى الوسائل والتقنيات التداولية من جهة ثالثة؛ ويهتمون بالمفاضلة من جهة رابعة.
ويعني هذا أن طه عبد الرحمن يقرأ التراث قراءة تراثية داخلية أصيلة بعيدة عن تأويلات الاستشراق والفكر التغريبي. وفي هذا، يقول الباحث:"لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادىء التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت، في مقصدها منهجية آلية لامضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعا، عملا بمبدإ تراثي،مقتضاه" أن اعتبار المعاني لا يستقيم حتى يستند إلى اعتبار المباني"؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عمليةلامجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملا بمبدإ تراثي ثان، مقتضاه " أن المعرفة لاتثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها"؛ وكانت، في مسلكها، أخيرا منهجية اعتراضية لاعرضية: فلم تكن تقرر الأحكام تقريرا وترسلها في عموم التراث إرسالا، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تمحصها كما ينبغي وتقومها بالوجه الذي ينبغي، عملا بمبدإ تراثي ثالث، مقتضاه " أن الظفر بالصواب لايكون إلا بمعونة الغير".
وإذا صح أن منهجنا مأخوذ من التراث، فليس يصح أننا تركنا العمل بموجب العقل العلمي الصحيح كما قد يتوهم ذلك من يجعل كل مأخوذ من التراث خارجا عن مقتضى العقل والعلم، فقد سلكنا فيما أخذنا مسلكا لايتساهل فيما يجب على الناظر في التراث استيفاؤه من دقيق الشرائط المنطقية ومن صارم المقررات المنهجية وراسخ الضوابط المعرفية؛ والشاهد على ذلك ما قضينا به على أنفسنا من التزام أقصى، بل أقسى القيود المنهجية، حتى ندفع عن دعاوينا أشد الاعتراضات المحتملة، فيكون لنا في دفعها غناء عن دفع ماهو دونها."[8]
وعليه، يتبنى طه عبد الرحمن منهجية منطقية وتداولية ولغوية في قراءة التراث، أساسها المناظرة العربية الأصيلة، وهدفها تقويم التراث من جهة، ونقد الفكر العربي المعاصر من جهة أخرى.
المبحث الثاني: تقويم كتابات محمد عابد الجابري
يثبت طه عبد الرحمن أن الدراسات الفكرية التي تبنت تقويم التراث لم تنطلق من منهجية حوارية تداولية. ومن ثم، لم تراع مقتضيات التراث النظرية والعملية، بل تعاملت، في عمومها، مع التراث من منظار انتقائي تجزيئي تفاضلي، كما يبدو ذلك واضحا عند ثلة من المفكرين المعاصرين، مثل: عبد الله العروي، والطيب التزيني، وحسين مروة، ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري.ومن ثم، ينتقد الباحث - بصفة خاصة- العقلانية الفكرية عند الجابري، كما تتجسد في كتبه(نحنوالتراث)، و(تكوين العقل العربي)، و(بنية العقل العربي) و(التراث والحداثة)، بالتركيز على البنى المنطقية والتداولية التي توسل بها الجابري في تعامله مع التراث العربي- الإسلامي.
ومن باب العلم، فقد توصل محمد عابد الجابري إلى مجموعة من النتائج في كتابه(نحن والتراث)، مثل قوله بوجود مدرسة فلسفية مغربية متميزة عن المدرسة المشرقية فصلا ومفهوما وسياقا ومنهجا وقضية، يمثلها ابن طفيل، وابن رشد، وابن باجة...وقد أحسنت هذه المدرسة التوفيق بين الشريعة والحكمة، بالتركيز على مبدإ الفصل، ووحدة الهدف، واختلاف البنية. في حين، سقطت الفلسفة المشرقية، مع الفارابي وابن سينا على سبيل التمثيل، في التلفيق، حينما جمعت بين فيلسوفين مثاليين:أفلاطون وأفلوطين اعتقادا منها أنها كانت توفق بين أفلاطون المثالي وأرسطو المادي. وفي هذا النطاق، يقول الجابري: " ننظر إلى المدرسة الفلسفية التي عرفها المغرب الإسلامي على عهد الدولة الموحدين، كمدرسة مستقلة تماما عن المدرسة- أو المدارس- الفلسفية في المشرق، فلقد كان لكل واحدة منهما منهجها الخاص، ومفاهيمها الخاصة، وإشكاليتها الخاصة كذلك.لقد كانت المدرسة الفلسفية في المشرق، مدرسة الفارابي وابن سينا بكيفية أخص، تستوحي آراء الفلسفة الدينية التي سادت في بعض المدارس السريانية القديمة، خاصة مدرسة حران، والمتأثرة إلى حد بعيد بالأفلاطونية المحدثة. أما المدرسة الفلسفية في المغرب، مدرسة ابن رشد خاصة، فقد كانت متأثرة إلى حد كبير بالحركة الإصلاحية، بل بالثورة الثقافية، التي قادها ابن تومرت، مؤسس دولة الموحدين، التي اتخذت شعارا لها:" ترك التقليد والعودة إلى الأصول". ومن هنا، انصرفت المدرسة الفلسفية في المغرب إلى البحث عن الأصالة من خلال قراءة جديدة للأصول... ولفلسفة أرسطو بالذات.
إن الانفصال الظاهري بين المدرستين بوصفهما تنتميان إلى ما اصطلح على تسميته بـ" الفلسفة الإسلامية " أو " الفلسفة في الإسلام"، لا ينبغي أن يخفي عنا " انفصالا" أعمق بينهما.لقد عالج فلاسفة الإسلام، بالفعل، الموضوعات نفسها، وتناولوا المشاكل نفسها، ولكن ما يميز فكرا فلسفيا معينا- كما يقول برييه- ليس الموضوع الذي يتناوله، ولا النظريات التي يدافع عنها، " إن الأهم من ذلك هو النظر إلى الروح التي يصدر عنها، والنظام الفكري الذي ينتمي إليه". ونحن نعتقد أنه كان هناك روحان ونظامان فكريان في المشرق والفكر النظري في المغرب، وأنه داخل الاتصال الظاهري بينهما كان هناك انفصال نرفعه إلى درجة القطيعة الإبستمولوجية بين الاثنين، قطيعة تمس في آن واحد: المنهج والمفاهيم والإشكالية"[9]
ويعني هذا أن المدرسة المغربية تتميز عن المدرسة المشرقية بالفصل على مستوى النسق الفكري والتاريخي والإيديولوجي. كما يبدو ذلك واضحا عندما تناول الجابري فلسفة ابن طفيل بالدرس والتحليل والمناقشة." ومما هو جدير بالملاحظة أن الفيلسوف الأندلسي يترك الطريقين متوازيين في النهاية كما وضعهما في البداية.لقد فشل حي بن يقظان في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل، فشل حي في ذلك، وعاد إلى جزيرته الشيء الذي يعني فشل المدرسة الفلسفية في المشرق التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولتها الرامية إلى دمج الدين في الفلسفة . أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة."[10]
كما أشاد الجابري بابن رشد باعتباره أحسن شارح لأرسطو، و أنه رمز للعقلانية البرهانية. وفي الوقت نفسه، وجه نقدا لاذعا لعلم الكلام والتصوف العرفاني. ومن ثم، فقد مجد العقلانية الرشدية باعتبارها مسلكا واقعيا لتحقيق النهضة والحداثة والمشروع الحضاري. وفي هذا، يقول الجابري:" "الخطاب الفلسفي الرشدي عقلانية نقدية واقعية.لقد تحرر ابن رشد: معرفيا من هيمنة الجهاز الإبستمولوجي الذي كرسته في المشرق مدرسة حران بكيفية خاصة، والأفلاطونية الجديدة بكيفية عامة، وإيديولوجيا من العوامل الاجتماعية-التاريخية التي صاغت حلم المدينة الفاضلة الفارابية والحكمة المشرقية السينوية، فاتجه إلى معالجة العلاقة بين الدين والفلسفة بعقلانية واقعية تحفظ لكل من الدين والفلسفة هويته واستقلاله، وتسير بهما في اتجاه واحد، اتجاه البحث عن الحقيقة.
إنه جزء من خطاب عقلاني واقعي نقدي تميز به الفكر العربي الإسلامي في المغرب والأندلس على عهد الموحدين، خطاب كان هو الآخر مظهرا من مظاهر الصراع السياسي الصامت أحيانا، المتفجر أحيانا بين مشرق الخلافة العباسية والفاطمية من جهة، ومغرب خرج هو والأندلس عن سلطة الخلافة منذ بداية الدولة العباسية نفسها. إن الحذر في المجال السياسي يتحول إلى نقد في المجال الفكري.إن الواقعية النقدية الرشدية لم تكن امتدادا لنفس النزعة لدى ابن باجة وابن طفيل وحسب، بل كانت تتويجا لتيار نقدي ظل يتحرك في اتجاه واحد، اتجاه رد بضاعة الشرق إلى المشرق في الفقه مع ابن حزم الظاهري، وفي النحو مع ابن مضاء القرطبي، وفي التوحيد (الكلام) مع ابن تومرت، وفي الفلسفة مع ابن رشد."[11]
ومن ناحية أخرى، فقد قسم الجابري العقل العربي إلى ثلاث محطات أو بنيات أركيولوجية هي: بنية البيان، وبنية البرهان، وبنية العرفان. وفي هذا الصدد، يقول الجابري:"فالبيان كفعل معرفي هو الظهور وإظهار الفهم والإفهام، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الذي تبنيه العلوم العربية الإسلامية الخالصة، علوم اللغة وعلوم الدين... وكنظام معرفي هو جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تعطي لعالم المعرفة ذاك بنيته اللاشعورية...
وأما العرفان كفعل معرفي فهو ما يسميه اْصحابه بـ "الكشف" أو "العيان"، وكحقل معرفي هو عبارة عن خليط من هواجس وعقائد وأساطير تتلون بلون الدين الذي تقوم على هامشه لتقدم له ما يعتقد العرفانيون بأنه "الحقيقة" الكامنة وراء ظاهر نصوصه... (وكنظام معرفي يتمحور) حول قطبين رئيسين؛ أحدهما يستثمر اللغة بتوظيف الزوج الظاهر/ الباطن، والثاني يخدم السياسة... وذلك، بتوظيف الزوج الولاية / النبوة.
وأما البرهان كفعل معرفي فهو استدلال استنتاجي، وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفية العلمية المنحدر إلى الثقافة العربية عبر الترجمة، ترجمة كتب "أرسطو" خاصة، (وكنظام معرفي، يتمحور) حول قطبين: أحدهما يخص المنهج ويوظف الزوج الألفاظ/المعقولات... والآخر يخص الرؤية ويوظف الزوج الواجب/الممكن.[12]"
وتأسيسا على ماسبق، فقد وجه طه عبد الرحمن إلى محمد عابد الجابري انتقاذات لاذعة، منها أن تقسيم العقل العربي إلى بيان، وبرهان، وعرفان، هو تقسيم فاسد، يوظف فيه صاحبه مجموعة من المعايير المغلوطة، مثل: المعيار اللغوي (البيان)، والمعيار العقلي الاستدلالي (البرهان)، والمعيار المعرفي (العرفان).ويعني هذا أن تقسيم الجابري لبنية العقل العربي هو تقسيم مردود عليه، وغير خاضع لتقسيم برهاني سليم من حيث مواده. وفي هذا، يقول طه عبد الرحمن:" إن التقسيم الثلاثي: "البرهان" و"البيان" و"العرفان" تقسيم فاسد، ودليل فساده ازدواج المعايير المتبعة في وضعه، هذا الازدواج الذي لا يؤدي إليه إلا عدم تحصيل الملكة في العلوم الصورية والمنهجية، ولو أن الجابري اعتمد معيارًا موحدًا، لكان له الخيار في تقسيمات متعددة، كل تقسيم منها يقوم به معيار معين، كالتقسيم بحسب المضمون (العقل والعلم والمعرفة مثلا) أو التقسيم بحسب الصيغة الللفظية (القول والعبارة والإشارة مثلا) أو التقسيم بحسب الصورة الاستدلالية (البرهان والحجاج والتحاج)، وهو أقرب التقسيمات إلى العمل بمعيار العقلانية المجردة التي ظل الجابري يناضل من أجلها، فيكون البرهان هو نظام الآلية الاستنباطية، والحجاج هو نظام الآلية القياسية، والتحاج هو نظام الآلية التناقضية."[13]
وإذا كان الجابري قد دافع عن الفلسفة أو الإلهيات، وفضلها على باقي الخطابات الفكرية الأخرى (علم الكلام والتصوف)، فإن طه عبد الرحمن قد دافع عن علم الكلام باعتباره علما داخليا أصيلا.في حين، تعد الفلسفة علما خارجيا منقولا. وأكثر من هذا، فابن رشد كان يستدخل في فلسفته الإلهية مبادىء علم الكلام.ويعني هذا أن ثمة تداخلا بين علم أصيل (علم الكلام) وعلم دخيل منقول (الفلسفة). بل كان يستدخل كذلك التصوف، على الرغم من النقد الذي وجهه ابن رشد للمتصوفة. " وقد نذهب بعيدا- يقول طه عبد الرحمن- بأن أبا الوليد كان يرى في التصوف عنصرا مكملا للفلسفة أو عنصرا متكاملا معها، إذ كان ينزل الصوفية من العمل منزلة الفلاسفة من النظر، فقد كان يفرق بين درجتين من العلم: إحداهما، عامة متعلقة بالجمهور؛والأخرى، خاصة يستقل بها أهل البرهان؛ وكذلك كان يفرق بين درجتين في العمل: إحداهما، عامة متعلقة بالجمهور؛ والثانية، خاصة يستقل بها الصوفية."[14]
لذلك، واجه طه عبد الرحمن دعاة العقلانية المجردة بالنقد والاعتراض والتقويم، بتسفيه منطلقاتهم المنهجية، في ضوء مقاربة تداولية منطقية واستدلالية داخلية.وفي هذا، يقول الباحث:" يذهب أصحاب الآليات الاستهلاكية العقلانية من دارسي التراث إلى أن المنهج العقلاني هو أقدر المناهج طرا على توفير الاستفادة العلمية من التراث، وقد تأدوا عن طريق هذا المنهج المقتبس إلى تشريح التراث شرائح متعددة ومتباينة، حتى يتسنى لهم أن ينتقوا منها ما يبدو لهم أقرب إلى الاستجابة لمعايير العقلانية؛ غير أن دعاة الأخذ بالمناهج العقلانية المنقولة في تقويم التراث، وإن اتفقوا على العمل بمبدإ التشريح ومبدإ الانتقاء، فإنهم اختلفوا اختلافا في تعيين الشرائح التراثية التي تمثل أفضل تمثيل النموذج العقلاني.فمنهم من يقول بأنها النصوص الفلسفية، ومنهم من يرى أنها هي النصوص الفقهية، ومنهم من يعتقد أنها النصوص اللغوية، ومنهم من يذهب إلى أنها هي النصوص الكلامية، ومنهم أخيرا من يجمع بين أجزاء هذه النصوص.ثم ماكان من هذه النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية، لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل؛ وما كان منها مجانبا أو مخاصما لهذه العقلانية، وجب عندهم تركه."[15]
الخميس مارس 24, 2016 10:51 am من طرف نابغة