المقدمـة: يمكن الحديث عن مقاربات لسانية أخرى تندرج ضمن اللسانيات العامة، نذكر منها، على سبيل الخصوص، "اللسانيات الاجتماعية"، أو "علم الاجتماع اللغوي"، أو "علم اللغة الاجتماعي"، أو " السوسيولسانيات"، أو" اللسانية الاجتماعية"... هي مسميات اصطلاحية مختلفة لعلم يدرس اللغة في ضوء علم الاجتماع، أو يربط الملفوظ اللغوي بسياقه التواصلي والاجتماعي والطبقي.
ومهما تعمقنا في الفوارق الموجودة بين اللسانيات وعلم الاجتماع اللغوي، فلانجد فرق كبيرا بينهما؛ لأن هدفهما واحد يتمثل في التواصل، والارتباط بالسياق الاجتماعي. وأكثر من هذا تصبح اللغة حدثا اجتماعيا بامتياز. لذا، فاللسانيات، في الحقيقة، هي اللسانيات الاجتماعية .
المبحث الأول: موضوع السانيات الاجتماعية
تعنى اللسانيات الاجتماعية بدراسة الوظيفة الاجتماعية للغة .أي: تدرس التبدلات الاجتماعية للغة في علاقتها بالمتكلمين الناطقين، من حيث السن، والجنس، والفئة الاجتماعية، والوسط، والمستوى المهني، والمستوى التعليمي؛ وتحليل العلاقة القائمة بين اللغة والممارسات الاجتماعية (العائلية، والدراسية، والوظيفية...)؛ ثم تفسير الوظيفة الاجتماعية للغة؛ والاهتمام بقضايا لغوية واجتماعية كبرى تتعلق باللغة الأم، وموت اللغات، وعلاقة اللغة باللهجة والفصيلة، والثنائية والتعددية اللغوية، والأنظمة اللغوية المركبة والمعقدة، وتدبير التعدد اللغوي، والسياسات اللغوية، والتخطيط اللغوي...1
وإذا كانت اللسانيات البنيوية السوسيرية تهتم بدراسة اللغة في حد ذاتها، فإن اللسانيات الاجتماعية تدرس الكلام أوالتلفظ في علاقته بالسياق التواصلي الاجتماعي. وهذا له علاقة وطيدة بلسانيات التلفظ عند باختين، وبنفنست، ودوكرو، وأوريكشيوني، ومانغونو، وآخرين...
المبحث الثاني: مرتكزات اللسانيات الاجتماعية
تنبني المقاربة اللسانية الاجتماعية على مجموعة من المرتكزات تتمثل في: المكان الجغرافي، والعمر، والجنس، والأصل الاجتماعي، وسياقات استعمال اللغة. لذا، أثبت العالم الاجتماعي الأمريكي وليام لابوف (William Labov) صعوبة فصل اللغة عن المكون الاجتماعي الأساسي فيها. ومن ثم، أشار إلى أهمية ربط بنية اللغة من اللغات بالسياق الاجتماعي العام الذي تنشأ فيه تلك اللغات، لدرجة استبعد فيها أي إمكانية للفصل بين اللسانيات وعلم اللغة الاجتماعي. وإذا كانت اللغة ظاهرة اجتماعية، فإن اللسانيات ذات بعد اجتماعي2 .
و " قد انتقد وليام لابوف كثيرا نظرية نوام شومسكي القائمة حسب رأيه على فكرة مثالية عن اللغة باعتبارها ملكا للفرد والمتلكم باللغة. ومرد هذا النقد اعتبار لابوف للغة الإنسانية وسيلة اجتماعية في التواصل؛ مما يجعلنا أمام نظرية مادية لوظيفة اللغة الإنسانية داخل المجتمع.فالمهم بالنسبة إليه هو اللغة داخل المجموعة اللسانية المتكلمة بها، وليس اللغة كما هي على لسان الفرد."3
ويعني هذا أن اللغة - حسب نوام شومسكي- ذات طبيعة عقلية وفردية وراثية. في حين، ترى اللسانيات الاجتماعية أن اللغة ظاهرة اجتماعية مكتسبة.
المبحث الثالث: ظهور اللسانيات الاجتماعية
ظهرت اللسانيات الاجتماعية رد فعل على اللسانيات البنيوية المغلقة على ذاتها إبان سنوات الخمسين والستين من القرن الماضي، ورد فعل على اللسانيات التوليدية التحويلية لنوام شومسكي التي كانت تنادي إلى نحو كلي كوني وعالمي، مشيدة بدور الفرد المتكلم، معتمدة في ذلك على قواعد مثالية مجردة افتراضية وصورية، بعيدا عن الواقع والسياق التواصلي.
المبحث الرابع: تصورات لسانية اجتماعية مختلفة
يبدو التصور اللساني الاجتماعي واضحا عند ويليام لابوف (Labov) الذي كان يشتغل على المحكي الشفهي بشكل خاص، وكذا عالم الاجتماع الأمريكي غوفمان (Goffman) الذي كان يعنى بالمحادثة الحوارية.
ولعل هذا التصور هو الذي قاد للحديث عن مستويات مختلفة في صلتها بالتغييرات التي تطرأ على اللغة داخل المجتمع، وهي على أربعة أصناف:
- تغييرات تاريخية مرتبطة بعامل الزمن.
- تغييرات مكانية تتصل بالتوزيع الجغرافي للغة، وبحسب المناطق والجهات.
- تغييرات ذات صلة بأشكال استعمالات اللغة ومستوياتها بالنظر إلى الطبيعة الاجتماعية- الاقتصادية للناطقين بتلك اللغة
- تغييرات يتحكم فيها السياق الاجتماعي، ما يضعنا أمام سجلات مختلفة للغة مرتبطة بمناسبة الحديث والمستوى الثقافي للمتلكم اللغوي4 ."
ويمكن الحديث أيضا عن الطبقات اللغوية في علاقتها بالطبقات الاجتماعية، والتمييز بين الجملة المعيارية والجملة الشعبية. كما تحدث شارل فيركسون (Charles Ferguson) عن مستويين من اللغة: المستوى العالي(العربية الفصحى - مثلا- )، والمستوى المتدني (العاميات واللهجات المتفرعة عن العربية الفصحى- مثلا-).
وقد اعترف أندري مارتيني (A.Martinet)، في نهاية مشواره العلمي، بأن اللغة فعل اجتماعي بامتياز، وأن اللسانيات كلها هي لسانيات اجتماعية 5 . وسار في الاتجاه نفسه ديل هيمس (DellHymes) (1927-2009)" الذي جعل ما أسماه الملكة التواصلية أساس التصور القائم على ربط اللغة بمحيطها الاجتماعي، وذلك وفق نموذج أطلق عليه تسمية: S.P.E.A.K.I.N.G
ويمكن هذا النموذج من استيعاب أشكال التغيير الثقافية الحاصلة في الأنساق التواصلية عامة. فنحن أمام نموذج يتيح لنا إمكانية مقارنة دور الخطاب داخل مجتمعات بشرية مختلفة "6 .
ويتكون هذا النموذج من العناصر الأساسية التالية:
- الإطار (المكان، والزمان، وأجواء الخطاب)؛
- المشاركون (الشخصيات الحاضرة والمتفاعلة )؛
- الأهداف (هدف اللقاء)؛
- الأفعال أو المنتوج( الرسائل)؛
- الإيقاعات (الصوت، والنغمة، وإيقاع الرسائل...)؛
- الوسائل التواصلية ( اللغة المنطوقة، واللغة المكتوبة، واللغة المنشودة والمغناة،..)؛
-المعايير (المثاقفة والتناص والحوارية...)؛
- الأجناس أو أنواع الخطاب (الحكايات، والتاريخ، والملاحم، والمآسي...).
واعتمادا على هذه المرتكزات التي تربط البنية اللغوية بسياقها الاجتماعي والتواصلي، يصعب الفصل بين اللسانيات أو سياقها كما يقول فيليب بلانشي(Philippe Blanchit)7 .
ويعتبر أنطوان مييي(Antoine Millet (1857-1936)؛ تلميذ فرديناند دوسوسير(F.De.Saussure)، من اللغويين الفرنسيين الأوائل الذين تحدثوا عن الطابع الاجتماعي للغة، وقد اعتبر اللغة حدثا اجتماعيا، متأثرا في ذلك بإميل دوركايم(Emile Durkheim). وقد أثبت أن الدراسة اللسانية الحقيقية هي التي تجمع بين ماهو سانكروني وماهو دياكروني .أي: بين ماهو لغوي وماهو اجتماعي تاريخي تطوري، ضمن نظام متكامل يجمع بين اللغة وظواهر المجتمع.
وهناك باحثون آخرون تبنوا المنظور الماركسي في تحليل اللغة بربطها بالمجتمع، كما عند ماركس، وأنجلز، ومارسيل كوهن(Marcel Cohen)، وبول لافارج (Paul Lafarge) الذي درس اللغة الفرنسية في علاقتها بالثورة الفرنسية، ورصد ختلف التغييرات اللغوية والمعجمية التي نتجت عن تلك الثورة.
وهناك باحثون آخرون في هذا الاتجاه، مثل: ميخائيل باختين، ورومان جاكبسون، ونيكولاي مار(Nicolaï Marr) الذي كان يدعو إلى لغة عالمية واحدة؛ مثل: اللغة الاصطناعية (الإسبيرانتوEspéranto) . وقد قسم هذا الباحث الروسي اللغات، من حيث نشأتها التاريخية، إلى أربع مراحل حسب المقاطع الصوتية الأربعة التي كان يستعملها الكهنة والسحرة (Sal,Ber,Yôn,Roch)
المرحلة الأولى: اللغة الصينية واللغات الأفريقية؛
المرحلة الثانية: اللغات الطورانية واللغة التركية؛
المرحلة الثالثة: اللغات القوقازية واللغات الحامية؛
المرحلة الرابعة: اللغات الهند-أوروبية واللغات السامية.
ويعتبر كل مرحلة من هذه المراحل اللغوية دلالة على تقدم معين. وتحمل هذه النظرية، في جوهرها، رؤية عنصرية ماركسية هدفها توحيد اللغات ضمن لغة واحدة، والقضاء على الأخرى، كالقضاء على الصراع الطبقي ووجود الدولة. وقد تحولت النظرية الماركسية للغة، في الاتحاد السوفياتي، إلى (النظرية اللسانية الجديدة)، واستمرت إلى غاية سنوات الخمسين من القرن الماضي.
وقد انتشرت اللسانيات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمركية بشكل لافت للانتباه ؛ بسبب تواجد الكثير من الجاليات الأجنبية. ومن ثم، فقد ارتبطت بمجال التربية والتعليم ارتباطا وثيقا، كما عند بازيل برنشتاين (Basil Bernstein) الذي تحدث عن شفرتين لغوييتن اجتماعيين متقابلتين: لغة ضيقة ومفككة وضعيفة عند أبناء الفقراء، ولغة غنية وموسعة عند أبناء الأغنياء.وفي هذا الصدد، يقول عبد الكريم بوفرة:" انتبه برنشتاين إلى العلاقة المباشرة بين الإنتاجات اللغوية الواقعية وبين الوضعية الاجتماعية للمتكلمين أو الناطقين اللغويين. وانطلق من هذه الملاحظة لكي يصل إلى استنتاج عام، مفاده أن أبناء الشرائح الاجتماعية المتواضعة يعرفون نسب فشل دراسي أكبر من أولئك المنتمين إلى طبقات اجتماعية مستقرة ماديا. ويتميز هذا التفاوت بالفرق بين نظامين لغويين اثنين: واحد ضيق، والآخر متسع...
ولمعرفة حجم الفرق بين النظامين أعلاه تم إخضاع تلاميذ المستويين الاجتماعيين المختلفين لتجربة مثيرة للاهتمام. فقد طلب منهم التعليق كتابة على مجموعة من الرسوم المتحركة الصامتة. فماذا كانت النتيجة؟
كان جواب الفئة الأولى (تلاميذ الطبقة الاجتماعية المتواضعة) على الشكل التالي:
" هم يلعبون بالكرة، قذف، تكسر الزجاج..."
بينما كان تعليق الفئة الثانية (تلاميذ الطبقة الغنية) بهذا الأسلوب:
" كان الأطفال يلعبون بالكرة، قذف واحد منهم الكرة، ومرت عبر النافذة، وكسرت الزجاج..."
ويكمن الفرق بين النظامين في شكل التعبير من الناحية اللغوية، أي من حيث قواعد النحو والتركيب أولا. ففي الحالة الأولى، نجد جملا قصيرة، تفتقر إلى ضمائر الربط مع معجم محدود جدا.لذا، يجد أولئك التلاميذ صعوبة كبرى في التعبير. فهم عاجزون عن التعلم، وعن رؤية العالم.
وهذا يعني أن التعلم والتنشئة الاجتماعية تنشأ في الأسرة، وليس في المدرسة."8
وقد ساهم عالم اللغة الاجتماعي الأمريكي ويليام بريت(William Bright) في ربط الهوية الاجتماعية للمتكلم بالهوية الاجتماعية للمتلقي، ضمن سياق لغوي تواصلي معين. ومن ثم، فقد استعمل ثلاثة مفاهيم : (الملقي، والمتلقي، والسياق).
فضلا عن ذلك اهتم علماء آخرون بدراسة المدينة باعتبارها فضاء للتطاحن اللغوي، اعتمادا على منهج وصفي قائم على الملاحظة، والتتبع، والاستقراء، والمسح، والمعايشة. ويسمى هذا عند الباحث الفرنسي جان لويس كالفي (Louis- jean Calvet) باللسانيات الاجتماعية الحضرية أو باللسانيات الاجماعية المتعلقة بالمدينة (Sociolinguistique urbaine ou linguistique de la ville)
ويعني هذا أن اللسانيات الاجتماعية الحضرية تدرس اللغة الحضرية بالتركيز على الأسئلة التالية: (من يتكلم؟ ماذا؟ مع من؟ متى؟ أين؟ لماذا؟ ولماذا؟)
وهكذا، يبدو لنا أن هذه اللسانيات الاجتماعية، ولاسيما الحضرية منها، جاءت رد فعل على النحو الكلي عند نوام شومسكي الذي يؤمن بلغة واحدة، وإنجاز لغوي واحد. في حين، تؤمن اللسانيات الاجتماعية بتعدد الألسنة واللغات .
الخاتمــــة:
وخلاصة القول، تهتم اللسانيات الاجتماعية بدراسة احتكاك اللغات، ورصد الدخيل والتداخل والخلط اللغوي، ودراسة البوليفونية، ومقاربة الأسلبة والتنضيد والتهجين اللغوي، ومناقشة الثنائية والتعددية اللغوية، ومعرفة علاقة اللغات باللهجات. فضلا عن الاهتمام بتصحيح اللغة، وجودة اللغة، وتقعيد اللغة، والأمان اللغوي، والتلوث اللغوي، والسياسة اللغوية، والتخطيط اللغوي...أي: دراسة اللغات في علاقتها بالأفراد، والمجتمعات، والمؤسسات.
وقد تجاوزت اللسانيات الاجتماعية مثالية اللسانيات السوسيرية والشومسكاوية القائمة على الاستنباط والطابع الافتراضي الصوري المجرد، بالانتقال إلى الطابع التجريبي الاستقرائي الميداني والمختبري.
د. جميل حمداوي