انقطع التيار الكهربائي. هرعت إلى الشرفة أستطلع حقيقة الأمر في الشارع والعمارات المجاورة، لعله عطل في داري أو في الحي كله. بدا الظلام ملاءة سوداء تلفنا جميعا، رفعت رأسي إلى السماء أتتبع ضوء نجومها. لم تكن السماء صافية؛ لا قمر ولا نجوم سوى وميض بعيد يظهر تارة ويختفي تارة أخرى، بعيد بعد نفسي القلقة عن هدأة السكينة في عالم تفتنه الأضواء، وتسلبه إنسانيته، ليبدو مثل من يتباهى بما يملك، وهو معدم إنسانيا. آثرت البقاء في الشرفة لبرهة، وقد وخزتني عينا طفل دق بابي ظهيرة ذلك اليوم القائظ، وهو يحمل كيس قمامة كالح يشبه وجوه تجار الحروب والبشر. عرض علي أدوات منزلية بسيطة، ثم همس لي بخجل: يا خالة أريد ماء باردا وطعاما.
عرفت من لهجته أنه من الذين شردتهم الحرب الأهلية في بلده. كان الكيس أثقل من جسمه النحيل، وحول عينيه هالتان داكنتان يشوبهما احمرار دائرة النار التي أسلمته إلى هذا المصير.
تلمست طريقي وسط الظلام باحثة عن شموع أحتفظ بها لمثل هذه الظروف فلم أعثر عليها أو على مصباح يدوي. عدت لألوذ بالشرفة باحثة عن وميض ما يؤنس وحشتي، والهواء ثقيل والحر يكتم الأنفاس، وهواجسي خفافيش ليل.
حانت مني التفاتة إلى نافذة في العمارة المقابلة، وقد انبعث منها ضوء مصباح. قلت: ثمة ضوء في مكان ما دوما فالحياة لا تعرف العدم. ترى ماذا ستفيدنا كل التقنيات التي نملكها في مواجهة أخطار الاحتباس الحراري، وحرائق الغابات وارتفاع منسوب المياه في المحيطات مهددا وجودنا البشري بالزوال؟ من سينجو من هذا الطوفان نتيجة العبث البشري بالبيئة؟
عاد التيار الكهربائي مثل ابتسامة أضاءت وجها حزينا، تعالى صوت التلفاز، وتوالت صور الكوارث والفواجع ومشاهد الدمار والقتل والتهجير، وانتبهت كم تخمد حواسنا ألفة الاعتياد. اكتشفت كم كنت أهدر من الطاقة في إضاءة معظم غرف البيت، وأصدع رأسي بضجيج التلفاز غير مصغية لحديث أو لحن يحاور شجن النفس. أترانا كلما افتقدنا أنس الإنسانية والمحبة في عالمنا نعوض نقصها بالضجيج والأضواء؟
أطفأت الأضواء، واكتفيت بضوء جانبي وعدت أحاور الإنسان في ذاتي.