- اقتباس :
النص أدناه فصل من كتاب "سيرة منفية: من أوراق الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة". التفاصيل في ختام النص.
.
بقي د. صبحي أبو غنيمة في دمشق زعيما للمعارضة السياسية الأردنية في المنفى حتى نهاية عقد الأربعينيات. وقد التف حوله الطلبة الأردنيون والدارسون في سوريا. كما كان منزله ملتقى المعارضين الأردنيين، الذين كانوا يترددون على العاصمة السورية بين فينة وأخرى، وبينهم اندست عناصر كانت مهمتها رصد نشاط صبحي أبو غنيمة في دمشق عن كثب ونقل الأخبار إلى عمان. وكثيرا ما صيغت تلك الأخبار صياغة هدفت إلى تعميق الخلاف بين جلالة الملك عبد الله وأبي غنيمة، رغم أن بعض معاصري تلك الفترة قد رووا بإعجاب أن جلالة الملك عبد الله لم يكن ليسمح بأن يذكر صبحي أبو غنيمة بسوء أو يشكك في وطنيته بحضوره، رغم الخلاف بينهما في تلك الفترة، وحملات صبحي أبو غنيمة العنيفة على سياسته في الصحف العربية.
ويذكر د. عبد الرحمن شقير أنه شارك مع عقاب الخصاونة وخلف حدادين بتفجير ثلاث مفرقعات أمام بيت كلوب باشا كان الهدف منها التشويش والتخويف. وتم اعتقال د. عبد الرحمن شقير وأودع في سجن المحطة، وأطلق سراحه بعد ذلك وتم إبعاده إلى سوريا. واعتقل أيضا محمد نزال العرموطي، وعدد من الأشخاص الذين كانوا يساندون المعارضة.
ولكن الحكومة نجحت في احتواء المعارضة إلى حد كبير، وذلك بإشراك بعض زعمائها في الأردن مثل سليمان النابلسي، وبشارة غصيب، وعباس ميرزا في حكومة سمير الرفاعي التي شكلت في شباط [فبراير] عام 1947. كما عين بعد ذلك عدد من المعارضين البارزين في مناصب حكومية منهم عبد الرحمن الواكد، ومحمد علي العجلوني، وعلي الهنداوي، وبخيت الرشيدات، وشفيق الرشيدات، وذلك في وزارات لاحقة.
وقامت الحكومة بترخيص حزب جديد هو (حزب النهضة العربية) لسحب البساط من تحت أقدام المعارضة، وذلك في أيار [مايو] من عام 1947 برئاسة هاشم خير، وكان من أعضاء الحزب عبد الله الكليب، وصبحي زيد، وسليم البخيت، ومثقال الفايز، وحسين الطراونة، وصبري الطباع، وعبد الرحمن الرشيدات، ومحمد الماضي، وإسماعيل بلبيسي، ووصفي ميرزا، ومجحم منور الحديد، ومحمد علي بدير، وجودت شعشاعة.
وجاء في النظام الأساسي للحزب أن غايته هي العمل على تحقيق الأماني القومية، وأهداف الثورة العربية الكبرى، والنهوض بالبلاد سياسيا وزراعيا واقتصاديا وثقافيا، والاستفادة من موارد البلاد الطبيعية.
وفي نفس الفترة، رخصت الحكومة لحزب آخر هو (حزب الشعب الأردني) وذلك في أيار [مايو] 1947. وقد هذا الحزب ما يمكن تسميته بالمعارضة المعتدلة، وتولى رئاسته عبد المهدي الشمايلة، وتألفت هيئته الإدارية من عناصر من الشباب الأردني من مثقفي دمشق وأنصار الحزب العربي الأردني. وكان من مؤسسي الحزب:
محمد الناجي العزام، وتركي كايد، وشلاش المجالي، ومحمد السمرين، ومرشد أبو سالم، وفرح ابو جابر، وظاهر الذياب، وأحمد أبو راس، ومحمد حباشنة، وعيسى مدانات، وفريوان المجالي، وناصر الطلاق، وحمزة الشريدة، وهاشم طوقان، ومحمد أخو رشيده، وحنا العمارين، وصالح النجداوي، ويوسف العبيني، وفلاح الظاهر، وجنيد القاسم، وساري الفنيش، ويوسف الملكاوي، وفارس المعايطة، وإبراهيم قطيش، وفرح إسحاق، وعيسى قعوار، وتوفيق الخصاونة، وأمين قعوار، وسالم أبو الغنم، وإبراهيم شرايحة، وذوقان الحسين.
ونص قانون الحزب الأساسي على أن يسعى بالنهوض بالمملكة سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، وتوثيق الصلات مع الأقطار العربية المجاورة[21].
في ظل هذه الظروف، بدا صبحي أبو غنيمة وحيدا في ساحة المعارضة. لكن الحقيقة أن معظم أعضاء الحزبين الجديدين ومؤسسيها كانوا على اتصال دائم به. وبقد رما كان يستشعر السياسي في شخصية صبحي أبو غنيمة مرارة الصراع السياسي، كان الطبيب العالم في شخصيته يتألق بعد أن نافسته السياسة في اهتماماته وشتتها، فانكب على البحث والتأليف لإخراج مشروعه العلمي "نظرة في أعماق الإنسان"، الجزء الأول الذي صدر عام 1958، ثم الجزء الثاني "الجهاز المجهول"، وهذا الجزء لايزال مخطوطا، فقد تعثر طبعه لحاجته إلى التنقيح، إذ توفي مؤلفه قبل إتمام تنقيحه، واستغرق ذلك عشر سنوات. بعد تسلم جلالة الملك الحسين سلطاته الدستورية في الثاني من أيار [مايو] عام 1953، أعيدت الجنسية إلى صبحي أبو غنيمة في زمن حكومة توفيق أبو الهدى، فبعث أبو غنيمة برقية إلى جلالة الملك حسين قائلا: "أشكر قراركم الشجاع بإعادة الحق إلى نصابه".
ثم دعي بأمر جلالة الحسين إلى الأردن، والتقى به لتكليفه بمنصب رسمي. وفي عام 1960، استدعاه جلالة الحسين مرة أخرى رسميا لتشكيل الحكومة، لكنه عاد إلى دمشق بعد عشرة أيام. وفي عام 1963، كلفه جلالة الحسين بمنصب سفير الأردن كمهمة سياسية قائلا: "يا دكتور كنت طوال عمرك تصرح بأنك جندي من جنود الأردن فهل يتوانى الجندي عن نداء وطنه؟ الأردن بحاجة إليك".
وكانت آنذاك العلاقات الأردنية السورية تمر بفترة عصيبة، وقد رفضت دمشق استمزاجا بأسماء ثلاثة سفراء قبل د. أبو غنيمة، معتبرا إياها مهمة سياسية وطنية، مشترطا أن تكون علاقته بجلالة الملك مباشرة. لكن خصومه لم يوفروا جهدا في اتخاذ قبوله منصب السفارة ثغرة ينفذون منها إلى تشويه تاريخه الوطني.
ولعله أحس خلال تلك الفترة بفداحة الخطأ الذي ارتكبه بقبوله لذلك المنصب في ظروف تغيرت فيها السياسية العالمية، واختلفت التحالفات ومراكز القوى في العالم. وكنا نشعر بالصراع العنيف الدائر داخله بين حبه لوطنه وإحساسه بواجبه، وبين قيود العمل الرسمي وواقعه الإداري. وجهد بعض الصغار في دفعه إلى الاصطدام الحاد برئيس الوزراء آنذاك الشهيد وصفي التل من أجل أمر إداري. وكان وصفي ينادي الدكتور "عمي". وكأن تصعيد الأمر كان مدبرا، فبعث إلى وصفي التل برقية مفتوحة حادة اللهجة صدر على أثرها عزله سنة 1966.
وكان الخطأ الآخر الذي عمق ألمه اضطراره الأدبي لقبول العودة إلى السفارة عام 1967 بعد إلحاح من جلالة الملك حسين والمرحوم دولة الرئيس بهجت التلهوني الذي كان رئيسا للوزراء آنذاك.
كان د. صبحي أبو غنيمة قد بدأ يعاني من متاعب صحية في منتصف الستينيات، فأثرت تلك الفترة وأحداثها في تردي حالته الصحية. وفي عام 1967، جاءت هزيمة حزيران [يونيو] فكانت بمثابة البداية الفارقة لتدهور صحته.
تتحدى الكلمات تلك اللحظة التي سمعنا فيها سقوط القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان، إذ أحسست أنه يستعجل الرحيل، وأصيب إثر ذلك بنزيف معدي حاد كاد يودي بحياته.
لم توقر الأحداث شيخوخة والدي. في عام 1969، اغتيل خالد اليشرطي، زوج شقيقتي ندى في بيروت. بعد ثلاثة أيام من اغتيال خالد، تفقدت شقيقتي الصغيرين منى وهادي، ولم يكونا قد تجاوزا الرابعة والثالثة من عمريهما، وكانت الساعة تقارب الواحدة ليلا.
ذهبت لتطمئن عليهما فوجدت سريريهما خاليين. ثم اكتشفنا أنهما قابعان في ركن قصي من شرفة المنزل. سألهما والدي: "ماذا تفعلان يا جدو؟" قالت منى: "ماما قالت إن بابا في السماء، ونناديه من هناك ليعود إلينا".
يصبح الدمع جمرا يكوي شغاف القلب حين يبكي عزيز أمة هانت، فمنذ سقوط القدس واغتيال خالد اليشرطي، لم أعد ألمح في عيني والدي سوى عبارة واحدة حازمة كطلقة: "آن الأوان"، فرحمه الله قبل أن يشهد اغتيال شقيقتي ندى في 1971/10/21، إثر انفجار صاعق في الدماغ وهو على رأس مهمته كسفير فوق العادة للأردن بعد أن نجح في تقريب وجهات النظر بين البلدين إلى درجة إلغاء جوازات السفر، والاكتفاء بالهوية الشخصية. ودفن في إربد كما أوصى على التل، كي ترى روحه روائع سفحه. ترى هل قبره فيه يعنى بجرحه كما أراد؟
إذا مت فادفني على التل كي ترى == على سفحه –روحي- روائع سفحه
وقد جرّحوه بالقلاع مشيدة = = عليه فقبري فيه يعنى بجرحه
وبعد، هي "ذكرى تكفكف دمعها الذكرى" كما قال عرار، فمن يلومني إذا قلت إني أمقت ذكريات العقد الأخير من حياته؟ وقد أسقطتها من المسوّدة عامدة، ساخرة من تقمصي للموضوعية، إذ اكتشفت أن الجسر العقلاني الذي بنيته لأعبر عليه من الخاص إلى العام جسر هش، فقد وجدت نفسي خلال كتابة هذه الصفحات أهوي إلى دوامة حزن تكاد تبتلعني لتغرقني في دوامة قهر خاص، والخاص يظلم العام. كنت غاضبة وما زلت من قبوله لمنصب السفارة، إذ اعتبرتها متناقضة مع تاريخه النضالي، بل حرق لتاريخه الوطني.
وكم كنت أتألم بعد وفاته حين كان يعرفني البعض من أبناء الجيل الجديد ابنة الدكتور صبحي أبو غنيمة السفير الأردني السابق في دمشق، فكنت أرد ابنة الدكتور صبحي أبو غنيمة فقط، إذ كان أكبر من المناصب، وكان طوال عمره سفيرا للأردن في دمشق بلا سفارة، كما كان سفيرا لدمشق في الأردن.
لم تعنني يوما صورته العامة العظيمة التي يعرف الناس عنها في وطني أكثر مما أعرف بقدر ما تعنيني صورة صبحي أبو غنيمة الإنسان والأديب والعالم، الذي اعتبره مدرسة سياسية وفكرية وعلمية.
وأعترف بتقصيري في تغطية الجانب السياسي من حياته، إذ كثيرا ما كان اتكائي على المراجع رديئا لقلتها. ولعل ما سأورده من أوراقه سيغطي هذه الفجوات، إذا قدر لهذا الكتاب أن يرى النور.
ليست هذه الوريقات المكتوبة عن حياته سوى سيرة أوراق منفية، نفتها السياسة عن دائرة الضوء، فوثقتها الذاكرة الوطنية وحفظتها في القلوب. أما سيرة صاحب الأوراق وسيرة رفاقه ، سواء أذكرتهم المراجع أم لم تذكرهم من الجنود المجهولين، فقد وثقها تراب الأرض العربية بالدم والعرق والدموع لتقرأها الأجيال وهي تبني أوطانها، وترمم ذاكرتها في طريقها إلى النهضة للخروج من عتمة الزمن الأسير.