بقلم: أندري كومت سبونفيل
ترجمة : حسن أوزال
“إن الإنسان شيء مقدس بالنسبة للإنسان”
سينيك
ما الإنسان؟ لعل الأجوبة، ليست هي ما ينقصنا في تاريخ الفلسفة. فهل الإنسان حيوان سياسي كما أراد أن يُعَرِّفه أرسطو؟ أم هو حيوان ناطق على حد تعبيره أيضا؟ هل هو حيوان بقدمين اثنين، وبلا ريش، كما أكد أفلاطون على نحو مضحك؟ هل هو حيوان عاقل كما تصوره الرواقيون ومِنْ بَعْدِهِم السكولائيون؟ هل هو كائن يَضْحك(رابلي)، يُفكر(ديكارت)، يُقرِّر(كانط)، يَعْمَل (ماركس)، يُبْدِع (برغسون)؟
إن هذه الأجوبة، كلها، ودونما استثناء، تبدو لي، غير مُقْنِعة. ذلك، أَوَّلا، لأنها من حيث امتدادها، فضفاضة أكثر من اللزوم، و جِدُّ مختزَلة بالتأكيد. وإذا كان من الضروري بالنسبة لكل تعريف جيِّد، أن يناسب كليا الاسم المعرَّف و يوافقه هو وحده ؛فذلك، ما ينقص كل التعريفات السالفة الذكر، بالرغم من صيتها الذائع. والحالة هاته، فحتى ولو، افترضنا، على سبيل المثال، أننا اكتشفنا عند الدلافين أو عند كائن من الكائنات الغريبة عن كوكبنا الأرضي، طريقة للكلام و شكلا من أشكال التنظيم السياسي و نهجا للتفكير و العمل... إلخ؛فكل ذلك، لن يجعل من الدلفين أو من الكائن الغريب عن كوكبنا، إنسانا؛ مثلما أنه لن يُحَوِّلَ الإنسان إلى سمكة أو إلى كائن من المريخ. ثم، ماذا سنقول عن الملائكة و قدرتها على الضحك؟
إن هذه التعريفات، إذن إِنْ كانت، فضفاضة زيادة على اللزوم، فذلك، لأنها لا تناسب الإسم المُعَرَّفَ وحده:على اعتبار أن أي كائن من الكائنات، بوسعه أن يعيش في مجتمع معين، وأن يتكلم وأن يفكر، وأن يقرر، وأن يضحك، وأن ينتج ما به يعيش... دون أن يكون مع ذلك، منتميا للإنسانية.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فهذه التعريفات نفسها، هي ما يبدو لي، أكثر اختزالا، لأنها لا تناسب كليا، الإسم المُعَرَّف :ذلك أن الأحمق مثلا، هو ما لا يمكننا أن نعتبره، أدنى من الإنسان، على الرغم من كونه، لا يتكلم ولا يضحك ولا يقرر ولا يعمل ولا يمارس السياسة. وهل يعيش بشكل اجتماعي؟ أبدا، و ربما كان شأنه هنا أقل بكثير من شأن أي حيوان من حيواناتنا الأليفة. لكن ومع ذلك، مَنْ ذا الذي يوافق على التعامل معه كحيوان، بل حتى، كحيوان يَحضى بالرفق؟مَنْ يَقْبَل بأن نضعه في حديقة للحيوانات؟ قد يَرُدُّ عَلَيَّ قائل، بأننا، أحيانا ما نُقْدِمُ على سلوكات أسوأ مِنْ تلك، وهذا ما يَعْلَمه كلٌّ منا. لكن أي فيلسوف سيرضى بذلك؟
إلى هنا نستنتج، أن كل تعاريفنا سواء منها الوظيفية أو المعيارية، هي تعاريف غير جيدة، مادام أنه، من المستحيل ، اعتبار الدلفين و الكائن الغريب عن كوكبنا، ككائنين بشريين، على الرغم من ذكائهما، خلافا للأحمق الذي هو كائن بشري(وهذه النقطة الأخيرة هي ما يهمني ) : بديهي إذن أنَّ كل إنسان يبقى إنسانا حتى عندما يَكُفُّ عن الاشتغال و العمل على نحو عادي. مما يفيد بأن الوظائف كما المعايير ليست تناسب كلها كتعريف، بحيث أن الإنسانية ليست تتحدد بما تَفْعَلُه أو بما تَعْرِفُ أنْ تَفْعَلَه. فهل تتحدد بما تَكُونُه؟ دونما شك. لكن ما تَكُونُه الإنسانية؟ إذ لا العقل ولا السياسة ولا الضحك ولا العمل، ولا حتى أية ميزة من مثل هذه المميزات، يُمْكِنُها أن تُعتبَر خاصية من خصوصيات الإنسان. أكيد، أن لا خصوصية للإنسان، بله، لا خصوصية، على أية حال، تكفي لتعريفه. وذلك ما لاحظه، ديدرو، الذي وضع له تعريفا، في مقاله بعنوان“الإنسان”، ضمن قاموسه كالتالي:“إنه كائن يحس ويُعَقْلِنُ الأمور، يفكر ويتجوَّل بحرية على وجه البسيطة، يتصدر قائمة كل الحيوانات التي يسيطر عليها ويحيا على نحو اجتماعي، وهو مَنْ أبدع العلوم و الفنون، ويتميز بِطَيْبُوبة كما بِخُبْثٍ يخصَّانه هو وحده، وهو مَنْ اتخذ لنفسه أسيادا و جعل لذاته قوانين... إلخ”. وعلى ما يظهر، يمكننا القول، أنَّ لهذا التعريف، إيجابيات وكذا سلبيات، كلها أشبه ما تكون بتلك التي انطلقنا منها. ولَمَّا كان ديدرو، على دراية بذلك، فنهاية التعريف الذي وضعه، تكاد تبدو ساخرة، بحيث أنها أَتَتْ موضحة للأمر ونافية له في الآن ذاته: “إن هذه الكلمة لن تكون دقيقة المعنى إلا إذا ذَكَّرَتنا بكل ما نَكُونُه؛لكن ما نَكُونُه، مِن المستحيل الإحاطة به في تعريف مُعَيَّن. ” والحالة هاته، فكيف نتكلم، إذن، عن حقوق الإنسان، بالرغم من أننا لسنا نعرف عماذا –ولا عمن- نتكلم؟ إننا في حاجة، على الأقل، إلى معيار أو دلالة مُمَيِّزة أو حتى إلى رَمْز انتماء، هُوَّ ما يدعوه أرسطو بـ“الاختلاف النوعي” une différence spécifique.. لكن، أي اختلاف نقصد؟ إنه اختلاف الجنس ذاته الذي إليه ننتمي. ذلك أن الإنسانية، ليست في شيء، كفاءة، عليها تتوقف نجاحاتها، بل هي معطى، ندركه من خلال إخفاقاتها لا غير.
هذا ما يجبرنا على العودة إلى البيولوجيا. لكن هذه العودة، ليست، أوَّلا، من أجل العثور على دلالات مُمَيِّزة، ستغدو بدورها محط نقاش من قبيل: وضعية الوقوف، الإبهام المقابل لباقي الأصابع، أهمية الدماغ أو التناسل؛ لأنها كلها، ودونما استثناء مميزات ليست ولن تكون على الإطلاق من ضمن تلك التي بها تمتاز الإنسانية. ولا هي ثانيا عودة ، من أجل وضع تعريف لمفهوم ما، بل هي عودة مُلِحَّة، ارتباطا أساسا بتجربة الجسد. تجربة هي تجربة الإنسان الجنسية، تجربة الحبل والحمل والإنجاب. فنحن كلُّنا وَلَدَتْنَا امرأة:كلُّنا وُلِدْنا و لَمْ نُخْلَق. ويَصْدُق ذلك على الأحمق، قدرما يصدق على العبقري. مثلما لا اختلاف فيه بين أنزه الناس وأكثرهم فِسْقا. كما يتساوى في هذا الأمر الشيخ والطفل. لكنه من ناحية أخرى، ما لن يحلُمَ به أبدا، أي كائن غريب عن كوكبنا و لا أي ملاك. لا مراء إذن، أن الإنسانية هي قبل كل شيء آخر، جنس حيواني؛ لكننا كثيرا ما نخطئ عندما نتنكر لتلك الحقيقة: ليس فحسب، اعتبارا لِمَا لنا في ذلك من مُتَع حيوية، بل لأننا بذلك، نكون أيضا قد تنكرنا لهذا الذي هو وحده سَمَح لنا بأن نوجد. إننا من الثدييات، يذكرنا “إدغار موران” و ننتمي إلى “رتبة الرئيسات، عائلة القردة العليا، جنس homo، نوع sapiens... ”. لذلك، يبدو أنه بِمُكْنَتِنا أن نعتمد، في مسألة الانتماء هاته، تعريفا آخر، أبعد ما يكون عن التعريف الوظيفي، وهو التعريف الجنسي. إنه التعريف الذي اتخذتُه لاشتغالي الشخصي، وكان دوما يفي بالغرض، مؤداه: أن الكائن البشري هو كائن وَلَدَهُ كائنان بشريان. إنها نزعة بيولوجية محضة، و أكثر احتراسا. والحال أن لكل كائن ينطبق عليه هذا التعريف، نفس الحقوق التي لَدَيْنا( ولئن كان غير قادر، واقعيا عن ممارستها)أو لنقل بالأحرى، وهو ما يفيد المعنى ذاته، أن علينا الواجبات نفسها مقارنة معه، وذلك، بطبيعة الحال سواء تكلم أو لم يتكلم، سواء فكر أو لم يفكر، سواء كان أو لم يكن، قادرا على أن يتكيف اجتماعيا، وعلى أن يبدع أو يعمل.
ذلك، أن الإنسانية واقعة un fait قبل أن تكون قيمة une valeur . إنها نوع قبل أن تكون فضيلة. لكن إن كان بوسعها أن تضحى قيمة أو فضيلة (بالمعنى الذي تكون فيه الإنسانية نقيض اللاإنسانية)، فذلك ليس إلا بفضل الوفاء أوَّلا، لهذه الواقعة كما لهذا النوع. “إن كل إنسان، يقول مونتيني، يحمل في طياته، الصورة الكاملة للوضع البشري”، وأسوأ كائن منا لا ينفلت، قط، من هذا الوضع. صحيح أن ثمة كائنات بشرية هي لا إنسانية، سواء من فرط قساوتها، أو وحشيتها أو بربريتها، لكن كل امرئ تنكر لانتماء هذه الكائنات للإنسانية، هو من سيغدو لا محالة مِثْلَهُم. لاعجب، إذن، في كون المرء هو مَنْ يُولَد إنسانا، ثم يصير إنسانيا. لكن من يخفق في أن يصير كذلك، ليس يقل عن كونه إنسانا بالرغم من كل شيء. إن الإنسانية تُورَثُ قبل أن تُخْلَق أو تُبْدَع. إنها طبيعية قبل أن تكون حضارية /ثقافية. وهي ليست ماهية، بل تتم عبر التناسل:كل واحد منا إنسان فقط لأنه ابن الإنسان.
يطرح علينا هذا الأمر، قضية الاستنساخ و مسألة تحسين النسل و كذا احتمال الخلق الاصطناعي للإنسان-أو للإنسان الأعلى. وإذا كانت الإنسانية تتحدد بواسطة النسل أكثر مما تتحدد بماهيتها، و بواسطة الإنجاب أكثر منه بالعقل، و أخيرا، بواسطة واجباتنا إزاءها أكثر منه بواسطة وظائفها أو كفاءاتها، قلت إذا صح ذلك، فيلزمنا أن نُعَوِّلَ على هذا النسل كما على هذا الإنجاب و هذه الواجبات. إن الإنسانية ليست لعبة ؛بل هي رهان. إنها ليست شيئا يُبْتَكَر، بل هي ما يورث une transmission. وهي أيضا، وفاء لا إبداع. أما إن كان بوسعنا الإستفادة من التقدم الهائل الحاصل في علم الوراثة، حتى ندفع، قدر المستطاع، بكل كائن بشري، كيما يبلغ اكتماله الإنساني ( وهذا ما يدعى بالعلاج الوراثي) فلا أحد سيخطر بباله، أن يشتكي من ذلك. لكن ذلك، لا يمكنه أن يُتَّخَذَ ذريعة لتغيير الإنسانية نفسها، حتى ولو بغاية تطويرها. صحيح أن الطب جُعِلَ ليحارب الأمراض، لكن الإنسانية ليست مرضا : مما يعني أنها لا تنحدر منطقيا من الطب. فهل نقبل بأن يُتَجاوزَ الإنسان؟ يعني ذلك، أن تتم خيانته أو إتلافه. وإن كان كل كائن يروم الاستمرار في وجوده، على حد تعبير سبينوزا، فكينونة إنسان ما، ليست تقل اندثارا إذا تم تحويله إلى ملاك أو فرس... لا فرق إذن بين تحسين النسل و البربرية، وكلاهما يخوض الصراع ذاته. ولئن كنت أقبل أن نعالج شخصا، فشريطة ألا نبالغ في ذلك على الإطلاق. أما أن نغير النوع البشري، فلا. إني بالمناسبة، أعلم علم اليقين بأن الفرق بين الاثنين، سيما عندما يتعلق الأمر بالعلاج الوراثي، جد دقيق و أكثر التباسا. وتلكم حجة ثانية للتفكير في هذا الفرق و إيلاءه ما يستحق من اهتمام. إن الإنسان ليس إلها، ولن يبقى كليا إنسانا إلا إذا ارتضى، بأن لا يكون علة ذاته و أساس خرابه. أما أن تُعْتَبَر الإنسانية، أوَّلا، جنسا حيوانيا، فهذا ما يطرح أيضا و بخاصة، مسألة النزعة الإنسانية. إن هذه الأخيرة، هي ذات معنيين اثنين. فمن جهة أولى، هنالك نزعة إنسانية عملية أو أخلاقية، تقتضي منا ببساطة أن نعزو قيمة معينة للإنسانية. أي، أن نفرض على كل كائن بشري، عددا معينا من الواجبات و المحرمات. وهي ما يدعى اليوم بحقوق الإنسان أو بالأحرى، أساس حقوق الإنسان الفلسفي: فإذا كان للناس حقوق، فذلك يعود أول ما يعود إلى ما عليهم من واجبات، البعض تجاه البعض. إن علينا والحالة هاته، ألا نقتل، ألا نعذب الغير، ألا نقمع، ألا نستعبد الناس، ألا نغتصب، ألا نسرق، ألا نُهِين، ألا نشتم... إن هذه النزعة الإنسانية، أخلاقٌ قبْل أن تكون سياسة، وهي الأخلاق عينها التي تَبنَّاها إلى حد ما معاصرونا على الدوام. فلماذا إذن لم نعد نعتبر الاستمناء أو المثلية الجنسية جرما؟ لأن ذلك لا يؤذي أحدا. ولماذا نجرم باستمرار، بل و أكثر من أي وقت مضى، كلا من الاغتصاب و القوادة و التحرش الجنسي بالأطفال؟لأن هذه السلوكات تقوم على العنف و تؤدي إليه، تماما مثلما تقوم على، وتؤدي إلى، استعباد الغير، استغلاله و اضطهاده. لنقل باختصار، أنها سلوكات تمس بحقوق الغير، كما بِأَنَفَتِهِ و حريته و كرامته. . . وهذا ما يوضح، ما آلت إليه المنظومة الأخلاقية في مجتمعاتنا اللائكية. إذ لم يعد الأمر، يستدعي أن ننصاع وراء ممنوع من الممنوعات المطلقة أو المتعالية أكثر مما يستدعي أن نأخذ بعين الاعتبار، مصالح الإنسانية، والتي أولها هي مصلحة الرجل الآخر و المرأة الأخرى. إن الأمر، لم يعد يتوقف على ديباجة دينية أكثر مما يتوقف على جوهر - وها نحن مرة أخرى نعود إليه - النزعة الإنسانية العملية. لكن لماذا هي “عملية”؟ لأنها ترتبط بالفعل(praxis) أكثر مما ترتبط بالفكر أو التأمل(théoria). لعل مربط الفرس هنا، إنما هو ما نَبْغِيه للإنسانية لا ما نعرفه أو نعتقده عنها. وإذا كان الإنسان مُقَدَّسا بالنسبة للإنسان على حد قول سينيك، فذلك ليس لأنه سيغدو إلها، أو لأن الله يأمر بذلك، بل لأنه إنسان، وذلك وحده يكفي.
إن النزعة الإنسانية إذن، نزعة أخلاقية. إنها تعني أن نتصرف إنسانيا، ومن أجل الإنسانية .
لكن، هنالك من جهة أخرى، نزعة إنسانية ثانية، هي ما يمكننا أن ندعوها بالنزعة الإنسانية النظرية أو المتعالية. فما المقصود بها؟ المقصود، نوع من الفكر و الاعتقاد ؛و نوع من المعرفة أو ما شبه ذلك:فالنزعة الإنسانية النظرية، هي ما نَعْرِفُه عن الإنسان كما عن قيمته أو لنقل أنها ما يَلْزَمُنا اعتقاده بخصوصه، و عليه تقوم كل واجباتنا تجاهه. . . لكن هذه النزعة الإنسانية، مع كل ذلك، تكاد تقوم على المعرفة التي تَعترِض عليها. على اعتبار، أن ما نَعْرِفه عن الإنسان، هو أنه أوَّلا، قادر، على الأسوأ، مثلما حدث في “أوشفيتز”Auschwitz ، كما على الأضحل أكثر منه على الأفضل. وأنه ثانيا، لم يكن له الاختيار في أن يكون ما هو إياه، على حد تأكيد داروين(لأن الإنسان نتيجة أكثر منه علة). وأنه، أخيرا، ليس هو الله، مادام أن له من ناحية أولى جسدا( جسد يمنعه من أن يكون بمثابة الكائن الجبار، المطلق و الخالد) و تاريخا : تاريخ طبيعي وحضاري . وله من ناحية ثانية، مجتمعا و لاشعورا يَحْكُمَانه أكثر مما يَحْكُمهما للأسف. هاهنا تأتي العلوم الإنسانية لتخلخل-أنظروا فرويد وماركس و دوركايم... - تصورنا لذواتنا:ذلك أن نزعتها النظرية المناهضة للإنسانية على حد تعبير ألتوسير، تمنعنا من الاعتقاد بالإنسان مثلما نعتقد بالله؛إنها بتعبير آخر، تمنعنا من أن نتخذها سندا لوجوده، و أن نجعلها أساس أفكاره و أفعاله. “إن الهدف الأخير، بالنسبة للعلوم الإنسانية، يكتب”ليفي ستروس“ليس هو بناء الإنسان بل تفكيكه”. مما يستدعي إعادة إدماج“الثقافة في الطبيعة، وأخيرا إدماج الحياة ضمن مجمل شروطها الفزيائية-الكيميائية”.
إن الإنسان ليس في شيء علة ذاته. فلا هو، بسيد نفسه، ولا هو، أقل من ذلك، بشفاف إزاء ذاته. فهو نتاج تاريخ مُعَيَّن ؛ تاريخ يخترقه و يُؤَلِّفه بالرغم من أنفه. وهو ليس ما يأتيه من أفعال إلا لأنه، قبل أي شيء آخر، نتاج ما منه يَتَكَوَّن(نتاج جسده و ماضيه و تربيته... ). لذلك، فالإنسان، إن كان “مجبرا في كل لحظة على أن يبتكر الإنسان”على حد تعبير سارتر، فذلك ليس على كل حال، انطلاقا من لا شيء. فالإنسانية ليست صفحة بيضاء، ولا هي بمخلوق خالص، خلق نفسه بنفسه. إنها تاريخ، وحتمية أو أكثر. إنها مغامرة.
وعلى أية حال “فالإنسان ليس إمبراطورا داخل إمبراطورية” كما كان يقول سبينوزا: إنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة، التي يخضع لقانونها(حتى عندما يبدو أنه يخرقه و يخلخله) وجزء من التاريخ الذي يصنعه الإنسان ويصنع الإنسان؛إنه أيضا جزء من مجتمع مُعَيَّن و عصر مُعيَّن و حضارة مُعيَّنة. . . أما أن يكون قادرا على الأسوأ، فذلك ما يمكننا توضيحه جيدا. إذ لا مراء، أنه حيوان آيل إلى الموت، وهو على دراية كاملة بذلك. هذا، مثلما أن له من النزوات أكثر مما له من مشاعر، وله من الأهواء أكثر مما له من حجج، وله من الخرافات أكثر مما له من أفكار، وله من الغيظ أكثر مما له من أنوار... نلفي عند “إدغار موران” عبارة جميلة في هذا السياق كالتالي :“Homo sapiens,homo demens ”. فالإنسان ينطوي على قَدْر وافر من العنف، و كَمٍّ هائل من الرغبات و الكثير من الرعب. ونحن، بذلك، مُحِقين دوما في الاحتياط منه، وتلكم هي الطريقة الناجعة و الوحيدة لخدمته. “إنني أتأسف لمصير الإنسان يكتب”لاميتري “، لأنه مصير، يوجد بين أسوأ يدين هما يديه”. لكنه لا يملك سواهما:إن عزلتنا تَحْكُمُ أيضا واجباتنا. لكن كل ما تُلَقِّنُه العلوم الإنسانية لنا، عن أنفسنا، وهو مُهِم، قلت كل ذلك لا يمكنه أن يُغْنِينا عن الأخلاق. إن كل ما نعرفه عن الإنسان، لا يفي بالغرض، و لا يقول شيئا عما نريد أن يَكُونَه الإنسان. ومهما كانت النرجسية و العنف أو القسوة، قابلة للتفسير العلمي(ولِمَ لا تُفَسَّر، مادام أنها نزوعات واقعية) فذلك، لا يجعلنا قط، على دراية بقيمتها. أما الحب و اللطف أو الشفقة، فهي كذلك، قابلة للتفسير، مادام أنها قائمة الذات، بل و أفضل بكثير. لكن باسم ماذا؟ باسم تصور مُعَيَّن للإنسان، كما يقول سبينوزا، يكون بمثابة “نموذج أمثل للطبيعة البشرية، ماثل قُبالة أعيننا”. فأن نَعْرِف ليس يعني أن نُقرِّر، بالرغم من أنه لا يعفينا من ذلك. إن النظرية المناهضة للنزعة الإنسانية، والتابعة للعلوم الإنسانية، بعيدا عن الحط من قدْرها، هي ما يجعل من النزعة الإنسانية العملية، أمرا مستعجلا، ويُعْلِي من شأنها. فهي ليست بِدِين، بل أخلاق. ليست اعتقادا بل إرادة. ليست نظرية بل صراعا ؛وهو الصراع من أجل حقوق الإنسان، و أول واجب ينبغي أن يضطلع به كل واحد منا.
إن الإنسانية ليست ماهية ينبغي التأمل فيها، و لا بشيء مطلق يستوجب منا التقديس، ولا بإله يَلْزَمُنا أن نُحِبَّه : الإنسانية قبل هذا و ذاك، نوع يجب صيانته، وتاريخ ينبغي معرفته و مجموعة من الأشخاص ينبغي علينا الاعتراف بهم؛إنها أخيرا، قيمة، يجب الدفاع عنها. ويستدعي الأمر، بحسبي، فيما يخص الأخلاق، ألا نغتاظ مما صنعته الإنسانية بنفسها و بنا. وهذا ما أدعوه بالوفاء، الذي هو أفضل بكثير من الإيمان. أن نؤمن بالإنسان؟ الأفضل بالأحرى أن نَعْرِفَه كما هو، و أن نحتاط منه. لكن ذلك، لا يمنعنا من أن نبقى أوفياء، لكل ما صنعه الرجال و النساء من أمور جيدة-أقصد الحضارة والعقل و الإنسانية ذاتها-بل أن نبقى أوفياء كذلك، لكل ما حَصَلنا عليه بفضلهم، و لِكُل ما نحن راغبين في نقله للآخرين. وباختصار، أن نبقى أوفياء لتصور مُعَيَّن للإنسان. تصور أقل دَيْنا للمعرفة منه للاعتراف، و أقل دَيْنا للعلوم منه للإنسانيات humanités، على حد تعبيرنا القديم، وأخيرا، أقل دَيْنا للدين منه للأخلاق و التاريخ.
لنكرر مرة أخرى، أن النزعة الإنسانية العملية، أفضل بكثير من النزعة النظرية:ذلك أن النزعة الإنسانية الوحيدة، ذات الأهمية هي ما يعني أن نتصرف إنسانيا. فالإنسان ليس هو الله. وعلينا من ثمة أن نتصرف حتى يصبح على الأقل إنسانيا. يتذكر مونتيني، في آخر فقرته بعنوان“في مديح رايمون سيبون”عبارة لـ“سينيك” تقول:“كم هو الإنسان خسيس و حقير، عندما لا يسمو عاليا فوق الإنسانية !” ثم يضيف التعليق التالي:“ها هي ذي كلمة جيدة و رغبة مفيدة، إلا أنها أيضا عبثية. لأنه من المستحيل والفظيع، أن نملأ الكف بأكبر من قدره، وأن نُحَمِّل الذراع ما لا يطيق، و أن ندفع بالخطى أكثر مما تسمح لنا به الأقدام. مثلما هو مستحيل أيضا وفظيع أن يتجاوز الإنسان نفسه وأن يتحدى الإنسانية”، لكن ما من شيء يضمن لنا أبدا، عدم ارتداده إلى ما تحت. لذلك فالنزعة الإنسانية الخالية من الأوهام هي الملاذ. إنَّ الإنسان لم يَمُت : لا كنوع و لا كفكرة و لا كمثال. لكنه مع ذلك، فَانٍ، وتلكم حجة أخرى تستدعي منا الدفاع عنه.
المرجع:
André Comte- Spomville , Présentations de la philosophie , éd. Albin Michel S. A.,2000. de la page133 à la page 142