لشيوعية سقطت..عفوا..لم تسقط
تقييمك لهذه لمقالة
الشيوعية سقطت…عفوا…لم تسقط…ذلك هو الانطباع الذي تخرج به بعد عشرة أيام من العيش رفقة مواطنين ينتمون لجنسيات مختلف بلدان الاتحاد السوفياتي البائد. نعم، لقد سقطت في أعين الأجيال الجديدة التي تنسمت هواء الحرية بعيدا عن الاستبداد الستاليني، لكنها بالمقابل، لا تزال ترزح تحت إرث سوفياتي لا يستهان به في السياسة والاقتصاد واللغة والثقافة، إذ لا يزال الشبح الستاليني جاثما بقوة على صدور القوقازيين، وبخاصة أمام المحاولات “البوتينية” لاستعادة مجد الإمبراطورية المنهارة تحت مسميات جديدة.
الشيوعية سقطت…عفوا…لم تسقط…ذلك هو الانطباع الذي تخرج به بعد عشرة أيام من العيش رفقة مواطنين ينتمون لجنسيات مختلف بلدان الاتحاد السوفياتي البائد. نعم، لقد سقطت في أعين الأجيال الجديدة التي تنسمت هواء الحرية بعيدا عن الاستبداد الستاليني، لكنها بالمقابل، لا تزال ترزح تحت إرث سوفياتي لا يستهان به في السياسة والاقتصاد واللغة والثقافة، إذ لا يزال الشبح الستاليني جاثما بقوة على صدور القوقازيين، وبخاصة أمام المحاولات “البوتينية” لاستعادة مجد الإمبراطورية المنهارة تحت مسميات جديدة.
أينما وليت وجهك في القوقاز، ثمة نزاع طرفاه موالون للروس ومواطنون يبغون للحرية سبيلا، “ولا تجد روسيا البوتينية حرجا في تغذية النزاع حيث ترفع شعار علي وعلى أعدائي، وكل من يحاول الاستقلال بقراره، مصيره مزيد من القلاقل والفوضى، ولما لا الحروب المباشرة كما حدث مع جورجيا في عام” 2008، يقول مكاييل من أوكرانيا.
من حرب أوسيتيا الجنوبية ،إلى نزاع ناغورنيكارباخ، وصولا إلى القرم والقضية الأوكرانية، ثمة إحساس لدى مواطني القوقاز أن روسيا ماضية في تدمير محاولات انعتاقهم وتحررهم. وهكذا يتذكر الجورجيون بألم كبير فقدانهم لأوسيتيا الجنوبية، لكنهم بالمقابل مصرون على اجتراح نموذج تنموي خاص ردا على مرارة فقدان الأرض وجراح العديد من اللاجئين )حسب معلومات غير دقيقة يقدر عددهم بمئتي ألف(الذين اضطرهم فقدان أوسيتا إلى الانتشار على مساحات واسعة خارج تبيليسي فيما يشبه مخيمات. أما مواطنو أذريبجان وأرمينيا فيكيلون الاتهام المباشر لروسيا في بعث شرارة نزاع يدمر الطرفين في إقليم ناغورنيكارباخ.
ومع ذلك يبقى القوقاز مليئا بإمكانيات التحرر والانعتاق. فتبيليسي مدينة الحياة بامتياز، الحياة الليلية الصاخبة في شوارعها النظيفة توحي بأن ثمة شيئا ما حدث أو يحدث بعيدا عن السنوات العجاف من الحكم السوفياتي. صحيح أن جورجيا بلد ناشئ لكنها تسطر ملحمة من الحرية النموذجية أساسها اقتصاد يتحرر باستمرار ويحاول جاهدا الابتعاد عن قيود الحمائية المفقرة. يقول” جينداري جيا” نائب مدير مؤسسة الجامعة الاقتصادية الجديدة “قبل عشر سنوات كانت تبيليسي مدينة الإجرام بامتياز، وكان الفقر باديا جدا، لكن اختيارات اقتصادية حرة قلبت الأمر ونحتل الآن الرتبة الثامنة والثلاثين عالميا في الحرية الاقتصادية” أما “باتا” مدير المؤسسة فيصف الامر في إحدى محاضراته” إنها معجزة السوق التي تخلق الثروة وتربي على الإبداع والإنتاج”.
خلال الستة عشر ساعة التي قضيتها للوصول إلى جورجيا من البيضاء للمشاركة في الجامعة الصيفية حول نظرية الخيار العام التي احتضنها مدينة باكورياني الجورجية في غشت الجاري، تراقصت في ذهني ذكريات كثيرة عن العاصمة تبيليسي، ولا أدري كيف طفت إلى سطح ذاكرتي المئات من صور الكولخوزات والسوفخوزات التي كانت دار الطليعة البيروتية تغرقنا بها دعاية لما كان يسمى “النهضة السوفياتية العظيمة”.
حينما استفسرت عن دعاية”النهضة السوفياتية العظيمة” التي كانت تروجها البروباغاندا السوفياتية تهكم الصديق جورج معلقا : كان الفقر السمة البارزة لهذه النهضة العظيمة ففي عام 2001 كانت نسبة 54٪ من السكان تعيش تحت
خط الفقر الوطني، وفقا لتقارير عام 2001، ولكن بحلول عام 2006 انخفض مستوى الفقر إلى 34٪. في عام 2005 وصل متوسط الدخل الشهري للأسرة 347 لاري جورجي (حوالي 200 دولار). لوحظ منذ أوائل سنوات الانفلات من الهيمنة السوفياتية تطورات إيجابية واضحة في اقتصاد جورجيا. في عام 2007، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الجورجي الحقيقي 12%، مما جعل من جورجيا واحدة من أسرع اقتصادات شرق أوروبا نمواً.يصنف
البنك الدولي جورجيا على أنها “الرقم واحد في الإصلاح الاقتصادي في العالم”. ذلك لأنه في سنة واحدة قفز ترتيبها من رتبة 112 إلى المركز 18 من حيث سهولة ممارسة الأعمال. يعود الفضل حسب جورج دائما إلى مناخ الحرية الاقتصادية والانفتاح الذي دشنته جورجيا رغم القلاقل التي مرت منها.
وإذا كان جورج ومواطنو بولونيا وبلغاريا يبدون أكثر تفاؤلا بمستقبل بلدانهم بعد عشرين سنة من سقوط جدار برلين، فإن مواطني أوكرانيا وبلاروسيا وأذريبجان وكازاخستان، لا تزال تجاهد من أجل الانفلات من ربقة سيطرة يصفها العديدون منهم بأنها “ذات طابع سوفياتي في ثوب جديد ألبسه أياها بوتين ويقاتل بقوة من أجل استعادة زمام المبادرة”.
الخوف الشديد لمواطني هؤلاء البلدان تعززه” تجارب الإحباط الذي عانينا منه بعد أن تخلت عنا أوروبا في العديد من المحطات وخاصة في 2003 حينما انتفض الشعب ضد حكومته المدعومة من روسيا يقول ” كازاخ من أذريبجان. أما المواطنة الليتوانية جيردا فتقول بأسف شديد ماذا أفادنا الانخراط في الاتحاد الأوروبي نحن دولة صغيرة تكتفي بتلقي إملاءات الإخوة الكبار”.
لكن ما يزعج فعلا حسب “غايا” الأرمينية هو القوة الإغرائية للاشتراكية والقائمة على دغدغتها العواطف تقول :”أبي والجيل الذي عايش الاتحاد السوفياتي يأبى نسيان هذه الأوهام ..هي أوهام عاش عليها جيل بأكمله رغم الكوارث التي سببتها للعمال الذين كانوا يجبرون على العمل حتى الموت لكن كل ذلك كان مغلفا بإيديولوجيا الخير للوطن والجميع في حين أن الربح كان مخصوصا بفئة الحكم البيروقراطية”
ومن جهتها ترفض “دانا” كل علاقة لوطنها بروسيا وحتى نطقي لاسم بلدها بالعربية “بلاروسيا” يثير غضبها وتصر باستمرار على نطق اسم بلادها “بلاروس” وبدون ألف لأن الألف يذكرها بما تقول عنه” الهيمنة السوفياتية المقيتة ومن بعدها أهوال التمدد البوتيني المخيف والذي يقف على الأبواب”.
مخاوف مواطني بلدان الهيمنة السوفياتية السابقة نابعة، يقول “دميتريف” البولوني، من كون الاشتراكية مرض مزمن لا يمكن الشفاء منه بسهولة حيث أن الشيوعية انتهت كإيديولوجية إلى زوال لكن أجيالا كثيرة يقول تربت في حضن آباء وأمهات تشربوا جيدا الوهم القاتل: الاشتراكية”. ومن هنا،يقول “ميكائيل” من أوكرانيا، قد نحتاج إلى عمليات جراحية صعبة لكنها ضرورية لضخ الحياة في مجتمعات تيبست عروقها بفعل الماضي الشنيع للاشتراكية، لأن محاولات روسيا استعادة سيطرتها علينا ومركزة السلطة في أيدي الموالين لها يخبئ وراءه خطر داهم إسمه الاستبداد المغلف بأماني زائفة”.
اللافت أيضا أن اللغة الروسية توحد مواطني القوقاز، فكلما تعثر التواصل بينهم، لجؤوا إلى لغة المحتل السابق. وتعلق “غايا” على الأمر “لا تزال اللغة الروسية رغم تراجع دورها سلاحا رمزيا قويا، ولا يزال مفعولها مؤثرا في السوق الجيوبوليتيكي القوقازي” . صحيح،يقول “شامل”،أن اللغة الروسية لم تعد تحظى بنفس الاعتبار لكنها تبقى لغة آبائنا حيث تحاول روسيا ضخ المال الوفير من أجل إنجاح الشركات واستقطاب العمالة من جل البلدان مع امتيازات لا نظير لها. فأن تكون شيشانيا في موسكو يعني أن تتوفر على بطاقة بوتينية تفتح أمامك كل أبواب النجاح حيث يحظى الموالون لروسيا بكل الامتيازات التي تجعل الاستقطاب ونشر القلاقل بهذه البلدان أمرا سهلا.
التحرر من الهيمنة السوفياتية/ الروسية المباشرة أمر حسمت فيه شعوب القوقاز، لكن المشكلة معقدة جدا لأن البحث عن الحلول السهلة مكلف على المدى الطويل خاصة أمام البروباغاندا البوتينية التي جعلت العديد من الموطنين الذين التقيتهم يقولون” لم نجن الكثير نتيجة هذا الانتقال، كان آباؤنا يعيشون أفظل منا إنهم يرثون لحالنا”.
في هذه الخلاصة التي تقطر بالإحباط يكمن خطر العودة إلى الاستبداد، لأن الشعوب التي تربت في مناخ التمركز وافتقاد المبادرة الحرة لن تستطيع بسهولة تحمل مسؤولية حريتها خاصة وأن اقتصاد السوق كما أكد في غير ما مرة الاقتصادي الفرنسي “بيير غاريلو” مسلسل من الاكتشاف المستمر، ولا يمكن بيع أماني واهمة إلى الناس لأن التقدم والرخاء والثروة ليست أشياء معطاة بل نتاج الخيال البشري المبدع.
خطوات هائلة إذن خطتها هذه الشعوب نحو مزيد من التحرر السياسي والاقتصادي والإيديولوجي، لكن الخطر الداهم يترصد العثرات للتسلل مجددا تحت مسميات جديدة وبأقنعة قد تترك الاشتراكية جانبا ولو إلى حين وترتدي قناع الوطنية أو القومية أو محاربة الهيمنة الخارجية…لكن المضمون واحد عودة عهود الاستبداد السوفياتي المقيت!.
*كاتب من المغرب