الزلزال
التونسي ، لم يطح فقط بالديكتاتور زين العابدين بن علي ، وإنما أطاح معه
بالكثير من النظريات والتصورات التي رسخت في أذهان قطاع كبير من النخب
العربية السياسية ونظم الحكم أيضا ، وخاصة فيما يتعلق بحجم المؤثر الخارجي
في انتزاع الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلادنا ، أو حتى في
القدرة على تغيير نظم الحكم ، الدرس التونسي قال لنا بالعربي الفصيح أن
فرضية أن الحاكم العربي الجديد يحتاج إلى مباركة أمريكية لكي يتم تنصيبه ،
ويحتاج إلى سخط أمريكي لكي يتم إسقاطه هي مجرد خيال وأساطير لا صلة لها
بالواقع ، وأن الشعوب وحدها هي صاحبة القرار ، إذا أرادت .
نظام بن علي القمعي والبوليسي كان مدعوما بقوة من قوتين غربيتين
نافذتين في أفريقيا والشرق الأوسط ، من الإدارة الفرنسية التي كانت تعتبره
سندها وذراعها في شمال أفريقيا ، ومن الولايات المتحدة التي كانت تعتبره
ضمانة مفترضة ضد التيارات الإسلامية ، ومن مفارقات الأقدار أن الولايات
المتحدة اختارت تونس تحديدا لكي تضع فيها مركز دعم الديمقراطية وتفعليها
في الشرق الأوسط وهو مركز تابع للخارجية الأمريكية ، حيث اكتشف العالم
الآن أن المركز الأمريكي لم يكن يعمل لدعم الديمقراطية أو تفعيلها ، وإنما
يعمل على التستر على الطغاة والديكتاتوريات والبحث في أفضل السبل لدعم
نظمهم السياسية وحمايتها من المفاجآت .
ظلت الإدارة الأمريكية ملتزمة الصمت طوال الانتفاضة التونسية الجسورة
، وإذا أصدرت بيانا فإنه من النوعية "الفشنك" ، مثل الحديث عن ضبط النفس
وعن الابتعاد عن الإفراط في استخدام القوة ، حتى إذا ما انتصرت الثورة وتم
خلع الديكتاتور تمطع الرئيس الأمريكي ليخرج بيانا يقول فيه أن من حق الشعب
التونسي أن يختار نظامه السياسي ، والحقيقة أن الشعب التونسي لم يكن في
انتظار أوباما وإدارته ، لأنه نفذ قراره بالفعل وطرد الديكتاتور رغما عن
الدعم الأمريكي ، وأرسى موازنات سياسية جديدة ستغير وجه تونس وربما
المنطقة العربية كلها من بعد .
الموقف الأمريكي كان أقل فجاجة وفضائحية من الموقف الفرنسي ، الذي
تصرف بعدوانية شديدة ضد الشعب التونسي وانتفاضته ، حتى أن الرئيس الفرنسي
ساركوزيه في بداية الانتفاضة عرض على الديكتاتور التونسي توفير الدعم له
لوقف الانتفاضة أو تفكيكها ، وربما التدخل العسكري على النحو الذي فعله
لإنقاذ " ادريس ديبي" من دخول المعارضة للقصر الرئاسي في العاصمة التشادية
و كانت على أبوابه ، فأرسل طائراته لقصف قوات المعارضة وتمكين ديبي من
السلطة ، لكن الوضع في تونس كان مختلفا ، لم يكن صراع جنرالات ، وإنما
إرادة شعب ، أدرك معها بن علي أن لا الأمريكان سيسعفونه ، ولا الفرنسيون
يستطيعون فعل شيء أمامها ، وظلت التصريحات الفرنسية متسمة بالتواطؤ
واللاأخلاقية حتى اليوم الأخير ، وما زال الفرنسيون حتى الآن يحاولون
التدخل لفرض ترتيبات محددة في رأس هرم السياسة الجديدة في تونس ، وسوف
يفشلون .
الدرس التونسي مهم للغاية للحركات الوطنية والمعارضة في المشرق ، فقد
اختصر لنا سنوات طويلة من القراءة والتحليل والتنظير ، انتهى الدرس ، فلا
ينبغي أن يعول أحد على دعم غربي لحركات إصلاح حقيقية في المنطقة ، إلا إذا
كانت حركات موالية للغرب ذاته ومحققة لأهدافه وليس لأهداف الوطن وقواه
الحية ، والعواصم النافذة في الغرب ـ في المحصلة ـ لا تبحث عن قيادات
وطنية وشفافة وذات قرار واستقلالية ، وإنما تحتاج إلى عملاء ، وكل الكلام
الذي يقال عن دعم الديمقراطية وتفعيلها في الشرق الأوسط هو نفاق سياسي ،
ومجرد قنابل دخان للتستر على التواطؤ الغربي مع الديكتاتوريات الحاكمة في
المنطقة وأباطرة الفساد ، باستثناء بعض المؤسسات التي تنشط في مجال
المجتمع الأهلي والمدني ، وعلى الجانب الآخر فإنه لا ينبغي أن تطرح فرضية
الدور الغربي في حماية النظم القمعية كمعطل أو معوق كبير لحركة الإصلاح ،
لأنها ـ مع حيوية الشعوب وإصرارها ـ تعجز عن فعل شيء .
باختصار ، الدرس التونسي قال لنا أن الحسم هو بيد الشعوب ، وأنها قادرة على فرض إرادتها ، إذا شاءت